تستمر الأحداث السياسية في محيطنا الإقليمي متحوّلة بسرعة تعجز بعض الأذهان عن استيعابها أو إدراك دروسها. الانتخابات الأخيرة في تونس والاضطرابات الجديدة في مصر، وقبلهما الحراك الشعبي في الجزائر وثورة السودانيين ضد دكتاتورية المشير عمر البشير، كلها تجارب مفتوحة للقراءة والاعتبار. الخيط الرابط بين هذه الأحداث هو صعود وعي شعبي جديد، ولا يمكن أن نقارنه بما عشناه في المنطقة قبل تسع سنوات، حين انطلق ما نسميه بالربيع العربي. هذا الوعي هو ما اعتقد بعض الأغبياء أنهم تمكنوا من تطويعه ومحاصرته حين تعلموا أبجديات التكنولوجيات الجديدة وأطلقوا الذباب الإلكتروني وأغرقوا العالم الافتراضي بخطاب البلطجة والتشهير وتكريس الواقع الاستبدادي، قبل أن يخرج علينا من تونس الرجل-الظاهرة، قيس سعيّد، الذي لم يصرف قرشا واحدا على حملته الانتخابية، لكنه تصدّر نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول. وقبل أن “نهضم” هذه المفاجأة، تحوّل رجل أعمال وممثل مبتدئ لم يعرف اليوم طريقا نحو النضال، إلى “زعيم” انتفاضة شعبية جديدة تطرق أبواب مصر ضد نظام عبدالفتاح السيسي. أكثر من مجرد فضول ورغبة في حشر الأنف في ما يقدم عليه محيطنا الإقليمي، علينا نحن المغاربة أن نسارع إلى فهم ما يجري، ليس خوفا من سلبيات انتقال ما نتفرج عليه اليوم خارج خدودنا إلى قلب مجتمعنا، بل لأن هذا الانتقال سيكون أعمق كي لا أقول أخطر، في ظل هذا التبلّد الجماعي والاعتقاد بأننا مازلنا نشكّل استثناء في المنطقة وأن ما حدث للآخرين لن يصيبنا. إذا كان هناك من عاقلين بيننا فستكفيهم تجربة المقاطعة الشعبية التي تحوّلت، وفي تقارير رسمية لمؤسسات دولية، إلى درس يلقّن عبر العالم حول كيفية انتقال الغضب الشعبي من قنوات التعبير التقليدية المتمثلة في الأحزاب والنقابات والجمعيات، إلى العالم الرقمي، مع ما يمكن أن يخلّفه ذلك من آثار اقتصادية وتداعيات سياسية يستحيل على عقول ما قبل الثورة الرقمية استيعابها أو تدبيرها. إن قيس سعيّد ومحمد علي ليسا مجرّد صدفة أو حادثين من حوادث التاريخ، بل هما تجسيد لما سيصبح عليه الفعل الجماعي، في العالم كله وليس في المنطقة العربية وحدها. يكفي هنا أن ننظر إلى النتائج التي باتت تنتهي إليها الانتخابات في الديمقراطيات الكبرى، من دونالد ترامب في أمريكا، إلى نجوم اليمين الشعبوي في أمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية، وصولا إلى ممثل كوميدي خرج من بطولة مسلسل ترفيهي في أوكرانيا، حيث جسّد تحول رجل تعليم عادي إلى رئيس جمهورية، ليصبح بالفعل رئيسا للبلاد مطيحا برئيس انتهت ولايته وزعماء معارضة كانوا يعتقدون أنهم أصحاب حق “مولا نوبة”. إذا كان الأمر على هذه الحال في الديمقراطيات، حيث يملك عموم الشعب والناخبون أن يختاروا بكل حرية الأشخاص والأحزاب والبرامج التي تحكمهم، فكيف بنا نحن في صحراء الدكتاتوريات العربية؟ إن ما يموج حولنا من أحداث هو إعلان واضح عن تسارع وتيرة تفكك البنيات الاجتماعية والثقافية التي سمحت بازدهار الاستبداد بين ظهرانينا، والسبب، لسوء الحظ، ربما، لم يكن ثورة فكرية ولا ثقافية ولا نضجا لنضالات واعية، بقدر ما هو انعكاس للتحول الجذري الذي تعرفه البشرية حاليا، ولم يكن بمقدورنا التذرع بخصوصياتنا الثقافية والحضارية للإفلات منه. تحوّل يتجلى في صعود جيل جديد، دأب المختصون على تسميته بجيل ال”Z”، وهو الجيل الموالي لما يعرف لدينا بجيل الألفية الذي خرج علينا ذات ربيع مطالبا بالحرية والكرامة في ظل الاستقرار والسلمية. جيل متظاهري اليوم، يضم مواليد العقد الممتد بين منتصف التسعينيات ومنتصف العشرية الأولى من الألفية. أي جنس بشري جديد لا يمت بصلة لما عرفته البشرية إلى حدود جيل الألفية لكونه فصيلة بشرية فتحت أعينها على شاشات الكمبيوتر والشبكات العنكبوتية. الأمر لا يمكن، كما يعتقد البعض، اعتباره مجرد تحوّل جديد شبيه بما عرفته البشرية في أوقات سابقة من أجيال فتحت أعينها على مستجدات لم تكن في السابق. نحن أمام كائن بشري جديد لا يعترف بالحدود ولا القيود، جيل يقارن أوضاعه بما يشاهده بلمسة فوق سطح الشاشة من أحوال عوالم كنا إلى وقت قريب نعتبرها بعيدة ولا تشبهنا. وإذا كان بعضنا هنا يقيس التحوّل بمنطق الجيل الذي يعني ثلاثة عقود أو أكثر، فإن آخر تقارير الأممالمتحدة تحدث عن الأجيال بمنطق ال”Y” وال”Z” وال”X”، وأحد هذه التقارير الحديثة يفيد بأن جيل الألفية أوشك على التحوّل إلى أقلية في مقابل جيل ال”Z”، والخاصية الأساسية لهذا الأخير، هو التماهي التام بين حياته المادية والعالم الرقمي، عكس الجيل السابق الذي كان بإمكانه رسم خط فاصل بين العالمين. إننا، بمن فيه كاتب هذه السطور المنتمي إلى ما يعرف بجيل الألفية، كائنات عاشت في عصر ما قبل الإنترنت في طريقها نحو الانقراض، وما يخيف في التحوّل الحاصل، هو أننا في محيط ألف إسناد المسؤوليات واتخاذ القرارات لأجيال عتيقة، وبالتالي، فإن الدكتاتور الذي يمسك بتلابيب واقعنا السياسي، هو كائن سائر في طريق الانقراض، والدليل ما بتنا نشاهده من سقوط سريع ومهين للمستبدين، فأصبح بوتفليقة بقدرة قادر زعيم عصابة مقعد يُقتاد إخوته وأقاربه إلى السجون، وعمر البشير مجرّد سجين برقم ترتيبي بارد خلف القضبان، والرئيس المقبل لتونس رجل يرمز لكسر المألوف، والرئيس المصري المشارك في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أقرب إلى “هارب” من ثورة شعبية في أذهان جيل ال”Z”… إننا ودكتاتوريونا سائرون نحو الانقراض.