قال حسن أوريد، الناطق السابق باسم القصر الملكي، إن المغرب يعيش، حاليا، وضعا يحتاج فيه إلى عرض سياسي جديد لا يُفترض فيه أن يتيه في لغة الأرقام، بل يجب أن يستجيب، بالأساس، للحرية والعدالة والكرامة التي يتوق إليها المجتمع المغربي بمختلف فئاته، موضحا، خلال محاضرة ألقاها بمراكش، نهاية الأسبوع الماضي، في ندوة بعنوان: “تحولات المجتمع المغربي وسؤال الثقافة”، بأن المغاربة يحتاجون إلى عرض سياسي جديد وليس إلى ردود أفعال، مشيرا في هذا الصدد إلى تصريح أطلقه، قبل أسبوع، أحد السياسيين، دون أن يسميه، اعتبر فيه بأن المرجعية الأساسية لحزبه هي مناوأة هيئة سياسية أخرى، وهو ما علق عليه المؤرخ السابق للمملكة بأن مثل هكذا رد فعل لا يمكن أن يشكل عرضا سياسيا جديدا. وتابع بأن الجيل الجديد يحتاج إلى خطاب سياسي يركز على القيم المذكورة، معتبرا بأن مفتاح التأثير في هذه الشريحة، التي قال إنها ترعرعت في كنف ثورة ثقافية جديدة، متمثلة في الثورة الرقمية، يكمن في اعتماد خطاب جديد يستجيب لتطلعاتها، وليس الحديث إليها بمرجعيات خطاب الحركة الوطنية أو الخطاب اليساري، ولا بمرجعية الخطاب القومي أو الإسلام السياسي. وبعدما طرح سؤالا حول ما هي المسؤوليات المفترضة تجاه هذا الجيل الجديد؟ أجاب، خلال الندوة المنظمة من طرف جمعية الشبيبة المدرسية تحت شعار: “التنمية الثقافية قاطرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية”، في إطار الجامعة الوطنية للتكوين “امحمد بوستة”، (أجاب) بأن هذه المسؤوليات تقتضي عروضا جديدة في السياسة والاقتصاد والثقافة. وبخصوص الجانب السياسي، دعا إلى ممارسة السياسة في إطار مؤسساتي، في الوقت الذي قال فيه إن المغرب يعيش حاليا “انجرافا” إلى ظاهرة غير صحية تتمثل في انتشار ما سمّاه ب”القطاع السياسي غير المهيكل”، الذي تمارس فيه السياسة في غير قوالبها، “والحال أنه في المجتمع الحديث لا بد للسياسة أن تُزاول في إطار الأحزاب والهيئات الوسيطة والنقابات والجمعيات، أما عندما تموت السياسة ينهض القطاع السياسي غير المهيكل”، يقول أوريد. وأضاف أن المغرب يعيش، حاليا، في ظل القطاع المذكور، من خلال أشكال مختلفة، إما عبر اللجوء إلى الشارع أو في صورة “انجرافات” خطابية أو ما تَطفح به شبكات التواصل، أومن خلال كلام بذيء أو أغانٍ أو شعارات تُرفع في الملاعب الرياضية، مضيفا بأن هذا القطاع غير المهيكل قد يكون فترة انتقالية، ولكن لا بديل في نهاية المطاف عن ممارسة السياسة في إطار مؤسساتي ومن خلال عرض سياسي جديد، خالصا، في هذا الجانب، إلى أن الأزمة التي تعيشها الأحزاب هي التي أفضت إلى استشراء هذا القطاع غير المهيكل في السياسة. وأوضح في ما يخص الجانب الاقتصادي الجديد، أنه لا يمكن الحديث عن الجيل الجديد من خلال استعراض نماذج أو إجراءات عابرة لمعالجة أزمات معينة، بل لا بد من رؤية اقتصادية تقتضي بالاقتصاديات المنتجة، فضلا عن ضرورة أن يكون للعرض السياسي موقف حُيال الإشكاليتين الكبيرتين في الاقتصاد، حول علاقة الإنتاج بالتوزيع، كما يجب عليه التوفيق بين عنصري المال والعمل. أما المسألة الثالثة، فتتعلق بضرورة تقديم عرض ثقافي جديد ورؤية جديدة للثقافة والقطع مع تحويل الثقافة إلى وسيلة من وسائل التسلية، لافتا إلى أنه لا يجادل أحد في الحق المشروع في التسلية، ولكن ليس مقبولا أن تصبح التسلية هي المفهوم الوحيد للثقافة، معتبرا بأن تنظيم المهرجانات أو الاحتفاء بالمغنين يعد أمرا إيجابيا، ولكن في المقابل لا بد من جامعة للتفكير والبحث وطرح القضايا، ولا بد من إحداث فضاءات يشتغل فيها المفكرون، ومن واقع سياسي يتيح لأصحاب الفكر أن يعبروا عن آرائهم من دون تضييق، “فالمسألة ليست مرتبطة، فحسب، بالإطار المادي، ولكن بقيم معينة، إذ لا يمكن تصور ثقافة من دون حرية التعبير والفكر” يوضح أوريد، الذي ختم هذا الشق بالإشارة إلى أنه ليس هناك مجتمع إنساني تطور بدون طرح قضايا فلسفية ومن دون مفكرين، مذكّرا، في هذا الصدد، ببيت شعري للمتنبي يقول في أحد شطريه “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، خالصا إلى أن الفكر ضروري، ولا يمكن اختزال نهضة الأمم في تقنيات تُقتنى، بل لا بد من الفكر، الذي شدد على أنه لا يمكنه البروز من دون أن يحتضنه المجتمع. واستهل أوريد محاضرته، التي ألقاها بقاعة الاجتماعات الكبرى بمقر جهة مراكشآسفي بحي “سيدي يوسف بنعلي”، بالإشارة إلى أن الأحزاب المغربية كانت مرتبطة باتجاهات فكرية، وكان المنخرطون فيها أشخاصا مثقفين، لهم هاجس ثقافي وعادات ثقافية، ولم تكن السياسة منفصلة عن المرجعية الثقافية، وكان يحدث أن يلتقي رجل السياسة والمثقف، كما في حالة علال الفاسي، والشيء عينه بالنسبة إلى الاتحاد الاشتراكي الذي كان حزبا سياسيا مرتبطا بمرجعة ثقافية، موضحا بأن هذا السياق هو الذي كان سائدا في المغرب، والعالم أجمع، في السبعينيات والثمانينيات حتى سقوط حائط برلين، في إطار التحولات التي عرفتها أوروبا الشرقية، التي قال إنها كانت بفعل المثقفين، ولذلك فقد كانت الثقافة مرتبطة بفعل سياسي ومشروع وتصور سياسيين، ولكن التغيير حصل بعد سقوط جدار برلين، إذ تغير مفهوم الثقافة والمثقف، ولم تعد العلاقة العضوية بين المثقف والسياسي قائمة، بل أخذت تتحلل، وأصبح المثقف بالأساس خبيرا يشتغل في إطار الجامعة أو مراكز البحث، ولم يعد ينخرط في الشأن العام، وبذلك تغيرت القواعد الناظمة سواء في العمل السياسي أو الثقافي، ولم يعد الفعل الثقافي مرتبطا بالضرورة بالفكر، بل حصل نوع من التدجين للفعل الثقافي عرفت فيه الثقافة اندحارا وأصبحت معه مختزلة في التسلية. واستدل أوريد بكتاب للمفكر الفرنسي، “ريجيس دوبريه”، بعنوان: “Sur le pont d'Avignon” ينتقد فيه هذا التوجه في بلد الثقافة وموطن المفكرين، كما استدل بكتاب “المثقف والسلطة” الذي جمع فيه المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد سلسلة محاضرات ألقاها في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” حول دور المثقف، انتقد فيها تقاعس المثقف عن القيام بدوره النقدي، الذي كان يمنع من الوقوع في المطبات، كما انتقد فيه النزوع إلى التخصص، الذي يفقد فيه المثقف الرؤية الشاملة ويصبح مختصا في قضايا دقيقة بدون أن ينخرط في قضايا الشأن العام، قبل أن يرجع أوريد إلى حالة المغرب، الذي قال إنه، وعوض أن يكون فيه مثقفون منخرطون في الشأن العام، أصبحت فيه الساحة مقتصرة على خبراء متخصصين في قضايا حسب الطلب، فيما الخاسر الأكبر هو الفكر، إذ لم يعد المغرب ينتج فكرا وأصبح، في هذا الجانب، يعيش عالة على الآخر، ويستهلك التصورات التي تمليها بعض المراكز بالخارج. وخلص أوريد إلى أنه لا يمكن أن يعتمد المغرب المقاربة التقنية التي يقوم بها التكنوقراط، مرجعا ذلك إلى أن المثقف والباحث عندما يشتغل في إطار ضيق يصبح تكنوقراطيا، مذكّرا بأنه سبق له أن وضع الأصبع على هذا “الانجراف”، قبل عشر سنوات، في كتابه “مرآة الغرب المنكسرة”، الذي اعتبر فيه بأن الثقافة أصبحت تعاني من “التشييء والتدجين”، مستعملا تعبيرا مشهورا لوزير الدعاية في ألمانيا النازية،غوبلز، “كلما سمعت كلمة ثقافة، كلما تحسست مسدسي”، معوضا إياها بعبارة أخرى، مفادها بأنه “كلما استعملنا فكرا كلما استخرجنا ثقافة”، كما لو أن الثقافة أصبحت من وسائل الإجهاز على الفكر، موضحا بأن العديد من الأنشطة الثقافية أصبحت لا علاقة لها بالفكر، بل من وسائل الإجهاز عليه، ويتم الاحتفاء فيها بأسماء قال إنها “لم تكن رموزا لا من حيث الانخراط الثقافي ولا من حيث الأخلاق”.