“نغوغي واثيونغو”، الكيني، هو واحد من أبرز أدباء إفريقيا اليوم، إلى جانب النيجيريين وولي شوينكا وتشنوا أتشيبي، وهو مرشح دائم لجائزة نوبل للآداب. تشهد كتاباته المختلفة والمتنوعة، في الرواية والمسرح والنقد الأدبي، على انتصاره للقارة السمراء وإنسانها المستضعف وهوياتها المهمشة وثقافاتها المهملَة. في هذا الكتاب: “تفكيك استعمار العقل”، يدافع “واثيونغو”، بالتزام وشغف كبيرين، عن فكرة استعمال اللغات والأسماء الإفريقية في الفكر والأدب والسياسة وتخليص أشكال التعبير وأنماط الحياة من مخلفات الاستعمار، حتى تتفكك أنظمة الإمبريالية ويتحقق الاستقلال الكامل. للغة بما هي ثقافة ثلاث خصائص مهمة. فالثقافة هي نتاج التاريخ وانعكاس له في المقابل. بعبارة أخرى، الثقافة هي نتاج وانعكاس للبشر، إذ يتواصل الواحد منهم مع الآخر في الصراع من أجل خلق الثروة ومراقبتها. لكن الثقافة لا تعكس ذلك التاريخ فحسب، أو هي تفعل ذلك بالأحرى، وهي تصوغ بالفعل صورا أو نظائر عن عالم الطبيعة والغذاء. من هنا، تغدو الخاصية الثانية للغة بما هي ثقافة أشبه بعامل تشكيل صورة في ذهن طفلٍ. ذلك أن تصورنا الكلي عن أنفسنا كأناس، أفراد أو جماعات، يقوم على تلك الصور والنظائر التي قد تتناسب بشكل صحيح أو لا تتناسب مع الواقع الفعلي للصراعات مع الطبيعة والغذاء، هذا الواقع الذي أنتجها في المقام الأول. لكن قدرتنا على مواجهة العالم مواجهة خلاقة مشروطة بكيفية تناسب تلك الصور أو عدمه مع ذلك الواقع، وكيفية تحريف واقع صراعاتنا أو استجلائه. من هنا، تكون اللغة بما هي ثقافة واسطة بيني وبين ذاتي، وبين ذاتي والذوات الأخرى، وبيني وبين الطبيعة. إذ تتوسط اللغة في كينونتي ذاتها. وهذا الأمر ينتهي بنا إلى الخاصية الثالثة للغة بما هي ثقافة، حيث تنقل الثقافة تلك الصور عن العالم والواقع أو ترسلها عبر اللغة المنطوقة والمكتوبة؛ أي عبر لغة خاصة. بعبارة أخرى، إن القدرة على الكلام، والقدرة على تنظيم الأصوات بطريقة تروم التفاهم المشترك بين البشر هي قدرة كونية. هذه هي كونية اللغة، وهي صفة خاصة بالإنسان. وهي تتناسب مع كونية الصراع مع الطبيعة، وذاك القائم بين البشر. غير أن فرادة الأصوات، والكلمات، وتنظيم الكلمات في عبارات وجمل، والطريقة، أو القوانين، الخاصة بتنظيمها، هي ما يميز لغة ما عن أخرى. هكذا، لا تنقل ثقافة خاصة ما عبر اللغة في كونيتها، وإنما في فرادتها بما هي لغة مجتمع معين ذي تاريخ خاص. والأدب المكتوب والخطابة هما الوسيلة الأساس التي تنقل بها لغة ما صور العالم المتضمنة في الثقافة الحاملة لها. واللغة، شأنها شأن التواصل والثقافة، هي إذا نتاج بعضها. يخلق التواصلُ الثقافةَ؛ والثقافة هي وسيلة التواصل. وتحمل اللغةُ الثقافةَ، وتحمل الثقافةُ، عبر الخطابة والأدب خصوصا، كاملَ بناء القيم التي بها ننتهي إلى إدراك ذواتنا ومكانتنا في العالم. إذ تؤثر كيفية إدراك الناس أنفسهم في الكيفية التي ينظرون بها إلى ثقافتهم، وإلى سياستهم، وإلى الإنتاج الاجتماعي للثروة، وإلى العلاقة الكاملة مع الطبيعة وباقي الكائنات الأخرى. من هنا، لا تنفصل اللغة عن ذواتنا باعتبارنا جماعة من البشر تتميز بشكل وشخصية معينين، وتاريخ خاص، وعلاقة خاصة مع العالم. إذا، ماذا فعل فرض الاستعمار لغة أجنبية بنا، نحن الأطفال؟ كانت غاية الاستعمار الفعلية مراقبة ثروة الشعب؛ ما أنتجه، وكيف أنتجه، وكيف وزّعه. بعبارة أخرى، كان يروم مراقبة كامل مجال لغة الحياة الواقعية. إذ فرض الاستعمار رقابته على الإنتاج الاجتماعي للثروة عبر الغزو العسكري والدكتاتورية السياسية اللاحقة. لكن أهم مجال من مجالات هيمنته هو الكون الذهني للمستعمَر، والسيطرة عبر الثقافة على كيفية إدراك الناس ذواتهم وعلاقتهم مع العالم. فالهيمنة الاقتصادية والسياسية لن تكتمل أبدا أو تصير فعالة من غير الهيمنة على العقول. ذلك أن مراقبة ثقافة شعب ما هي سوى مراقبة لأدواته التي يعرف بها ذاته في علاقته مع الآخرين. انطوت هذه المراقبة، بالنسبة إلى الاستعمار، على خاصيتين من العملية ذاتها هما: تدمير أو تبخيس ثقافة شعب ما بأناة، وكذا فنه ورقصاته وأديانه وتاريخه وجغرافيته وتربيته وخطابته وأدبه، والإعلاء الواعي بشأن لغة المستعمِر. إذ كانت هيمنة لغات الأمم الاستعمارية على لغة شعب ما حاسمة في الهيمنة على الكون الذهني للمستعمَر. لنأخذ اللغة بما هي تواصل. لقد شقَّ فرضُ لغة أجنبية ومنع اللغات المحلية، المكتوبة والشفاهية، بالفعل الانسجامَ الذي كان قائما من قبل بين الطفل الإفريقي وخصائص اللغة الثلاث. وبما أن اللغة الجديدة، بما هي لغة تواصل كانت نتاجا وانعكاسا “للغة الحياة الواقعية” في مكان آخر، فإنها لم تستطع أبدا أن تعكس أو تحاكي، شفاهة أو كتابة، الحياة الواقعية لذلك المجتمع على نحو صحيح. قد يفسر هذا الأمر جزئيا لِمَ ظلت التكنولوجيا تبدو لنا برّانية إلى حد ما، حيث هي منتجهم، لا منتجنا. إذ ظلت كلمة “صاروخ” تحمل نبرة غريبة وبعيدة إلى أن تعرفت مؤخرا على مقابلها في ال”جيكويو”، وهو “نغوروكوهي”، مما جعلني أفهمها على نحو مختلف. لقد صار التعلم عند الطفل المستعمَر، نشاطا دماغيا، لا تجربة عاطفية محسوسة.