في ندوة حول الإعلام والتنوع والتعددية السياسية، نُظّمت مساء الجمعة الماضية بالرباط، قال أحد المتحدثين، إن هناك برنامجا حواريا في التلفزيون المغربي يعمل على تخريب النقاش السياسي. لم يسمّ المتحدث البرنامج المقصود ولا صاحبه، ربما احتياطاً وتجنباً لكل التأويلات المغرضة، وربما ترفعاً وتحاشياً الدعاية للمعني بالأمر. غير أن المعني بالأمر لا يحتاج إلى دعاية، لأنه أشهر من نار على علم. يلقبّونه ب»مسقط الطائرات»، وهو وصف لا ينزعج منه بل يتقبّله ضاحكا. أما لماذا نُعت مصطفى العلوي أشهر الإعلاميين المغاربة بذلك النعت، فلأنه يُحاكي بَطل نكتة معروفة، تقول إن تلميذا لا يتقن في دروس الإنشاء غير وصف الحدائق، فوجئ خلال الامتحان بكونه يُطلب منه أن يكتب عن رحلة عبر الطائرة، فما كان منه إلا أن كتب «أقلعت الطائرة من المطار، ولكنها سرعان ما سقطت في الحديقة»، وأخذ يسهب في وصف الحديقة، موضوعه المفضل! سنيناً طويلة، ومصطفى العلوي على غرار تلميذ النكتة المعروفة يكرر التعبيرات نفسها في تعليقاته المصاحبة للأنشطة الملكية، من قبيل: «ها هي ذي الجموع خرجت يا مولاي عن بكرة أبيها لتستقبلكم...»، وهي تعبيرات يحفظها الكبير والصغير من فرط تكرارها في كل مناسبة وحين، لكن الإعلامي المذكور أصبح يحاول في الآونة الأخيرة التخلص منها، وبالتالي طرد لعنة اللقب المشار إليه عنه. وبالنظر لقربه من دوائر القرار في المغرب، ومواكبته لأنشطة الملك، صار مصطفى العلوي أصدق ممثل للإعلام المخزني (المخزن مصطلح تقليدي يشير إلى تحالف السلطة والمال). وبالتالي، فالرجل من هذا الموقع ملأ الدنيا وشغل الناس باستمرار. والمثير للانتباه هو الالتباس الذي يطبع علاقة العديد من الفاعلين في السياسة والمجتمع به. جلهم ينتقدونه في غيابه، ولكنهم يتوددون إليه في حضوره، خاصة وأنه يتوفر على أداة خاصة للترويج الإعلامي، هي برنامجه التلفزيوني المباشر «حوار». يُعاب على هذا البرنامج أنه يميّع النقاش السياسي أو يخرّبه بتعبير الباحث المومأ إليه في بداية المقال ، ويحوّل القضايا السياسية الكبرى إلى موضوعات مبتذلة، كما يُلام مصطفى العلوي بكونه يحرج ضيوف برنامجه وينتقص من مواقفهم ومن خطابات الأحزاب التي ينتمون إليها. وعلى الرغم من كل ذلك، فالكثير من السياسيين بمن فيهم المسؤولون الحكوميون يتسابقون على البرنامج المذكور، ويبحثون بطريقة أو بأخرى أن يكونوا ضيوفا فيه، ويخاطبون صاحبه بعبارة «مولاي مصطفى»؛ أولا، لاقتناعهم بأن «حوار» من أكثر البرامج مشاهدة على التلفزيون المغربي، وثانيا لأنه في اعتقادهم محط عناية من لدن الأجهزة العليا في البلاد، لاسيما بالنظر إلى قرب صاحبه من «دار المخزن». يتمنون المشاركة في البرنامج، حتى ولو أدى بهم ذلك إلى «البهدلة»، وبالخصوص إذا كانت تنقصهم البديهة والحجة وسلاسة اللسان. وقليلون جدا هم ضيوف البرنامج الذين يتحولون إلى أبطال، بفضل قدرتهم على السجال (أو البوليميك)، ومن ثم لا تمر الحلقات التي يشاركون فيها مرور الكرام. وبما أن البرنامج مرتبط بمعده ومقدمه مصطفى العلوي ذي الوضع الاعتباري الخاص في التلفزيون المغربي (وقد تجاوز سن التقاعد)، فإنه غير خاضع لموعد مضبوط ومتفق عليه؛ إنه يظهر ويختفي، وقد يعلن عن حلقة ما ويحذفها في آخر حلقة كما وقع قبل أسبوعين ، دون أن يكلف الإعلامي نفسه أو القناة نفسها الاعتذار للمشاهدين. ويبقى حكماء «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري» فاغرين أفواههم لا يدرون ماذا يعملون إزاء هذه الحالة الفريدة، وكل واحد يقول في قرارة نفسه: «ليبادر غيري، فأنا لا أتحمل مسؤولية قرار ما ضد صحافي مدلل من طرف الجهات المعلومة». وإذا تجاوزنا حالة «مسقط الطائرات»، فالملاحظ أن التلفزيون المغربي يفتقر إلى برامج النقاش السياسي، على الرغم من أن العديد من التقارير واستطلاعات الرأي تؤكد أهمية وضرورة هذه البرامج وقدرتها على استقطاب المشاهدين، وخصوصا الشباب. وحتى حين يبرمج التلفزيون بعض البرامج الخاصة في مناسبات معينة (كالانتخابات مثلا) فإنها تكون بلا طعم أو مذاق، ويقدمها إعلاميون بدون أدنى جهد أو حماس، كما لو أنهم يؤدون عبئا ثقيلا. هذه الأيام، تقدم القناة الأولى برنامجا من هذا الصنف يحمل اسم «مواقف»، والصواب أن يسمى «قف»، إذ اختار أصحابه للضيوف أن يبقوا واقفين خلال مدة النقاش؛ هذا مبلغهم من الاجتهاد والاختلاف! وماذا يضيرهم لو تركوا الناس جالسين، وركزوا على الجوهر، أي على كيفية إدارة النقاش، عوض الطريقة الميكانيكية التقليدية التي يتصرف بها منشط البرنامج، والتي تساهم في تنفير المواطنين عامة من السياسة والسياسيين ومن البرامج السياسية التي تتكرم بها عليهم أحياناً القنوات المغربية. نجوم البرامج الدينية ومن السياسة إلى الدين، فقد كشفت دراسة قام بها «المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة» مؤخرا حول «التدين عند الشباب المغربي»، أن غالبية هؤلاء الشباب يجهلون الدعاة المغاربة المنضويين تحت لواء «المجلس العلمي الأعلى» و»المجالس الجهوية»، وفي المقابل، يجدون ضالتهم في الدعاة المشارقة الذين تستضيفهم الفضائيات العربية، أمثال: يوسف القرضاوي ومحمد حسان وعمرو خالد وطارق السويدان ومحمود المصري، وغيرهم. ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن المغرب لا يتوفر على دعاة يضاهون زملاءهم المشارقة؟ كلا، ولكن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تفرض وصايتها الكاملة على المجال، وتجعله اختصاصا محصورا عليها وحدها، بذريعة «حساسيته» وارتباطه بخصوصية المذهب المالكي المتبنَّى محلياً. ومن جهة ثانية، فالكثير من الأئمة يعتبرون أنفسهم كما لو أنهم موظفون تابعون لوزارة أحمد التوفيق، ومن ثم يبتعدون عن كل ما من شأنه أن يسبب لهم وجع الرأس وغضب الوزير المذكور. القنوات التلفزيونية المحلية تتأثر بالمعطيين سالفي الذكر، وتطبق مقولة «كم حاجة قضيناها بتركها»، فلا تكلف نفسها عناء البحث عن دعاة قادرين على استقطاب الشباب المغربي من خلال برامج تلفزيونية مباشرة، وتكتفي بمن يقدمون المواضيع الدينية بطريقة مملة ومنفرة في الغالب، ولذلك لا نجد في المغرب دعاة ارتقوا إلى مصاف النجومية عبر التلفزيون كم هو موجود في المشرق العربي. أكيد أن نتائج الدراسة المتعلقة بالشباب المغربي والتدين والتي قامت على استطلاعات رأي ولقاءات ميدانية، لن تروق مسؤولي التلفزيون المغربي؛ لاعتبارين اثنين: أولا، لأنها تدحض فكرتهم القائمة على أن شباب المغرب لا تستهويه سوى برامج الترفيه المبتذلة والسهرات الصاخبة وحركات «الراب» الغريبة؛ إذ بينت الدراسة أن المعطى الديني يحتل مكانة بارزة لدى الأجيال الجديدة. وثانيا، لأنها أظهرت بالملموس أن عيون وآذان شرائح عديدة من المواطنين المغاربة تظل مشدودة إلى مجموعة من الفضائيات العربية التي ساهمت في إبراز دعاة نجوم لهم قدرة على التأثير والتوجيه والاستقطاب. أخيرا، لنتأمل المفارقة التالية: في سهرة غنائية تلفزيونية، ركّز المخرج على لقطات تظهر نساء من الجمهور مرتديات غطاء الرأس والجلابيب وهن يرقصن على صوت مُغَنٍّ شعبي، وكأن مسؤولي التلفزيون يريدون أن يمرروا من خلال تلك اللقطات خطاباً مفاده: «انظروا، حتى النساء (المحتجبات) يشاركن في حفلة غنائية مبثوثة على التلفزيون!». ولكن، هل كل غطاء للرأس هو بالضرورة حجاب؟ وهل بهذه الطريقة نستقطب الجمهور إلى التلفزيون؟ أم أننا في الواقع نزيد من نفوره منه وسخطه عليه؟ الطاهر الطويل، عن القدس العربي، عدد 5 أكتوبر 2011.