حولت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية الطائرات سجونا. هذا ما اعلنته السلطات الايطالية مؤخرا، وما اشار اليه قرار البرلمان الأوروبي. سجون غير شرعية تحتل سماء العالم، وتقوم بنقل المخطوفين من المشتبه بعلاقاتهم ب الارهاب الي اماكن التعذيب في العالم الثالث، او الي سجن غوانتنامو في كوبا. والطائرة السجن تحط في المطارات الأوروبية، بعلم السلطات هناك او من دون علمها، من اجل ان تنقل المخطوفين الي بلاد لا تحترم حقوق الانسان فيها. وهذا ما جري مع سجناء سوريين ومصريين والي آخره... المثير في المسألة انها تطرح علي بساط البحث مسألة القيم الانسانية في زمننا. فالولايات المتحدة، تتصرف بعقلية كولونيالية اعتقدنا انها انتهت مع آخر الحروب الاستعمارية في فيتنام. لكن يبدو ان الجرموثة العنصرية التي تعشش في صلب ثقافة الاستشراق والهيمنة، اثبتت قدرتها علي التأقلم مع عالم ما بعد الحرب الباردة، بل انها اتخذت اشكالا اكتر وحشية واجراما. السؤال اخلاقي في جوهره، صحيح ان تكتيكات السجن الطائر جزء من مسلسل الحروب الهمجية التي تجتاح العالم في اطار حرب الحضارات التي تشنها امريكا، لكن قاموس هذه الحرب، لا يكشف المأزق السياسي الامريكي فقط، بل يكشف اولا المأزق الأخلاقي الذي وقعت السياسة الامريكية في اسره حين قررت استخدام احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) المأسوية من اجل التصرف كثور هائج يطيح بكل قواعد السياسة الدولية، مستندا علي الخداع والكذب من اجل تبرير سياساته الحمقاء. تحويل الطائرات سجوناً تحمل مخطوفين، الكثيرون منهم ابرياء، عمل لا يقل وحشية عن خطف طائرات مدنية وتحويلها قنابل بشرية. هذه هي المسألة الأخلاقية التي تكشف ان السياسة الامريكية تتصرف بعقلية العصابة، وليس بعقلية الامبراطورية الوحيدة في عالم اليوم. لا يكتفي الامريكيون بخطف الناس، بل يقومون اما بتسليمهم الي حكومات تمارس التعذيب الوحشي في سجونها، او بنقلهم الي سجن يشبه المقبرة يدعي غوانتانامو. ما معني حقوق الانسان الذي تجاهر به امريكا، وتمول منظماته غير الحكومية في العالم؟ كيف يحق للحكومة الامريكية ان تعطي دروسا للنظامين السوري والمصري، عندما تقوم بتشغيلهما كأدواة لممارسة التعذيب الوحشي علي سجناء يتم نقلهم بالطائرات الي هذين البلدين او الي غيرهما؟ اما غوانتنامو فانه تجسيد للعنصرية التي لا حدود لها، يسجن المئات في شروط لا يسمح بها القانون الامريكي، لذا تم اكتشاف وسيلة للتحايل علي القانون عبر بناء معسكر للموت يتفوق فيه الخيال الاجرامي علي الخيال نفسه، وتصير صور المعتقلين باقدامهم المكبلة وعيونهم المغمضة واقفاصهم صورة تحتل زمننا بالوحشية والعنف البدائي. السؤال الاخلاقي هو السؤال الاساسي، المسألة ليست سياسية فقط، بل تعبر عن لا اخلاقية تيار المحافظين الجدد، الذي يعيد العالم الي عقلية القرون الوسطي، مشعلا الحروب الدينية ومؤسسا لثقافة الموت الممزوجة بتكنولوجيا ما بعد الحداثة. اختيارهم للمشرق العربي كي يكون ميدان تجسيد هذا الانهيار الاخلاقي، ليس صدفة، ففي المشرق تتقاطع ثلاثة عوامل:العامل الأول هو النفط، الذي تتزايد الشراهة الامريكية عليه، وكانت خطة احتلال العراق البائسة تفترض ان امريكا ستقوم بتطويق الصين واوروبا من خلال هيمنتها علي نفط العرب. العامل الثاني هو اسرائيل، التي تبقي اولوية استراتيجية امريكية مطلقة. الهدف ليس حماية اسرائيل من الاخطار، اذ لا خطر جديا يتهددها، بل الابقاء علي احتلالها وهيمنتها، كي تبقي قوة احتياطية للغزو الامريكي.العامل الثالث، هو الاسلام، الذي يثير ذكريات صليبية وكولونيالية وعنصرية، مستندة الي ثقافة الاستشراق، والذي تم استخدامه في سياق الحرب الباردة من اجل سحق الحركة الوطنية وتحويل افغانستان الي المعركة الاخيرة مع الاتحاد السوفييتي، ويتم استخدامه اليوم كأداة لتغذية المشاعر العنصرية ضد العرب والمسلمين. لقد اختيرت بلادنا كي يجري دفعها الي التوحش الكامل، وفي سياق هذا التوحش يجري تسويغ كل الممارسات الهمجية الامريكية والاسرائيلية وتبريرها. بل ان المضمر في هذه الممارسات لم يعد تحقيق انجاز سياسي ما، بعد الفشل الامريكي الذريع في العراق، بل دفع المشرق العربي الي هاوية التفكك، والي حروب طائفية ودينية تقضي عليه، وتخرجه من المعادلات التاريخية. الرد علي هذا الواقع المخيف لا يكون بتبني المعادلة العنصرية وقلبها، بل يبدأ في اعادة تأسيس مستوي سياسي اخلاقي عربي، يشكل ارضية اي رد سياسي.ولعل الواقع الفلسطيني اليوم يقدم لنا الدرس الأول عن كيفية تأسيس هذا المستوي الأخلاقي. حكومة الوحدة الوطنية لن تجترح معجزة سياسية، فمناخ اقفال السياسة والشروط الهمايونية الامريكية لن يتغيرا، لكنها مطالبة باجتراح مبني اخلاقي يعلن تحريم الاقتتال، وتحريم العبث بالدم، ويؤسس لأفق نضالي جديد. المعركة اليوم اخلاقية اولا، وهذا ما يجب ان تفهمه النخب في لبنان وفلسطين والعراق، ان خسارة المستوي الاخلاقي والغرق في لغة رد الفعل وسط رمال الطائفية وهذيانات الديكتاتورية، سوف تعني خسارة كل شيء.من هنا تبدأ المعركة الجديدة، وهي معركة ثقافية بامتياز، ولا عذر لأحد، لأن الهاوية تهدد بابتلاع الجميع.