الجيش يحصد لقب بطولة الكرة النسوية    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    مرصد يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    مكناس.. اختتام فعاليات الدورة ال16 للمعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    بايتاس: ولوج المغاربة للعلاج بات سريعا بفضل "أمو تضامن" عكس "راميد"    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    كلمة هامة للأمين العام لحزب الاستقلال في الجلسة الختامية للمؤتمر    طنجة تسجل أعلى نسبة من التساقطات المطرية خلال 24 ساعة الماضية    اتحاد العاصمة ما بغاوش يطلعو يديرو التسخينات قبل ماتش بركان.. واش ناويين ما يلعبوش    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    أشرف حكيمي بطلا للدوري الفرنسي رفقة باريس سان جيرمان    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    نادي الوداد يتعادل مع المغرب الفاسي    حماس تنفي خروج بعض قادتها من غزة ضمن "صفقة الهدنة"    بيدرو سانشيز، لا ترحل..    احتجاج أبيض.. أطباء مغاربة يطالبون بحماية الأطقم الصحية في غزة    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    طنجة.. توقيف شخص لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة واعتراض السبيل وحيازة أقراص مخدرة    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    جمباز الجزائر يرفض التنافس في مراكش    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة البحث عن العلمانية في تراثنا المغربي
نشر في التجديد يوم 19 - 09 - 2002

تأملات في نقطة برنامجية داخل برامج الأحزاب السياسية المغربية
يغري الحدث اليوم الأقلام للحديث عن الفرقاء السياسيين وبيان اختياراتهم وبرامجهم , ويستحوذ المنطق السياسي على الكتابة , فلا تكاد تجد في غمرة الحملات التعريفية ولا حتى التأملات التحليلية والنقدية أدنى ارتباط بالحقل المعرفي الذي يعنى ابتداء بتحديد مجال الدراسة ومنهج التناول .
لن يكون كلامنا عاما , نفقد بين تلابيبه الحقيقة المعرفية , إنما القصد متجه نحو بحث عينة صغيرة في الخطاب السياسي , أو قل للدقة : نقطة برنامجية , نسعى إلى تحديد دلالاتها وأبعادها من داخل الحقل المعرفي . يتعلق الأمر بقضية الهوية الحضارية , أو الأصالة التاريخية , أو المرجعية الإسلامية التي يكاد يكون الإجماع بين الفرقاء السياسيين على إدراجها في أدبياتهم وبرامجهم السياسية . السؤال الذي يطرح : لماذا لا تجرؤ التوجهات العلمانية على طرح اختياراتها الواضحة ضمن برامجها السياسية ؟ لماذا الالتفاف حول مفهوم الهوية وتمطيطه وتوسيع دلالاته حتى يصير حقله الدلالي يسمح بأي توظيف وتأويل وتوجيه ؟ لماذا تحرص بعض التوجهات على إعطاء مضامين جديدة لمفهوم الهوية , مضامين خارجة عن الذ1ت / الأنا , منتمية بالضرورة للآخر/ التجربة الغربية ؟ .
أسئلة ينبري التفسير السياسي ليجيب عنها بتحليله المعهود , ذلك أن النخبة الثقافية والسياسية على السواء لا تتبنى المفاهيم كما تشكلت معرفيا , إنما همها التوظيف , وأحيانا التطويع لخدمة الموقع الذي تنطلق منه حسب لعبة الصراع السياسي ومن يديرها .
صحيح أن التفسير السياسي يسعف كثيرا , ونرى مصداقه في التحولات العميقة التي تعرفها التوجهات السياسية والفكرية , فلا يكاد المرء يصدق كيف ينقلب الإنسان من الضفة اليسرى إلى الضفة اليمنى , ويتبنى بعض المفاهيم والتقليعات الفلسفية التي كان بالأمس يعلن عليها الحرب . وللمرء أن يرى لا أن يصدق كيف يتحول الماركسي إلى ليبرالي التفكير والمنزع , ليس الليبرالية الني كان يدعو إليها الليبرالي , لكن التي كان يحذر منها حين تصير ليبرالية متوحشة تأكل الأخضر واليابس .
ومع أن التفسير السياسي لمثل هذه التحولات يسعف كثيرا لكننا لن نركب قطاره, إنما التفسير الذي نطمئن إليه هو ذاك الذي له إلى الحقل المعرفي والمنهجي انتساب . ترى ما الطرح الجديد الذي يقدمه هذا التفسير ؟
في التفسير المعرفي للظاهرة
ينبغي أن نتواضع جميعا على حقيقة معرفية تسجلت في تراثنا المغربي , ولم يعد المجال يسمح بإنكارها , ذلك أن هناك قطيعة بين فكرنا وعملنا السياسي كما تشكل وتطور , وبين تراثنا المغربي .فعلى الرغم من المحاولات التي سعت إلى تأكيد الارتباط بين الفكر السلفي والحركة الوطنية , فإن الذي ينبغي أن نسجله بهذا الصدد , هو أنه في مرحلة تاريخية معينة من تاريخ مغربنا المعاصر, تمت تصفية المضامين السلفية الإسلامية , واستعيض عنها بما يسم " السلفية الجديدة" المعتدلة , التي أريد لها أن تشكل بداية النزوع إلى الحداثة , كما يحلو للبعض أن يذهب إلى ذلك , قصد تبنيها وبالتالي البحث عن الشرعية التاريخية , والتأصيل المعرفي للذات العلمانية من داخل التراث المعرفي المغربي ,.لكن هذه السلفية الحداثية بزعمهم , لم يرد لها أن تستمر لخطورتها , وإمكانية ردتها , عبر استدعائها للمفاهيم السلفية الأصيلة التي تشكل عائقا للنهوض بالمفهوم العلماني . الخلاصة أن هذه السلفية , على الرغم من انفتاحها , وقدرتها على محاورة الفكر الغربي , بأدواته ومنهجية تحليله أحيانا , إلا أن اغتيالها كان هو الخيار الذي اختارته النخبة العلمانية , حتى صار رموز
هذه السلفية n إن قمنا برصد كتابات الستينات والسبعينات n مجرد منظرين بورجوازيين , وللقارئ أن يرجع إلى كتابات عبد الله العروي فهو المنظر الإيديولوجي لمثل هذه النعوت التي لا تصمد أمام عناصر المنهج , والحقيقة المعرفية . ولنا أن نتذكر تلك المقالة الطويلة التي دبجها توفيق الشاهد في مجلة أقلام ص : 8 تحت عنوان : "حول النقد الذاتي : أزمة التفكير السلفي", حيث يتبنى الكاتب النعوت العروية , ويمضي بعيدا في إقرار نعوت أخرى تؤطرها الرغبة في دفن هذا التراث السلفي الأصيل المتمثل في كتاب" النقد " الذاتي الذي نستطيع أن نقول , وبدون مبالغة : إنه تميز في الطرح , واستقلالية في التنظير , وفرادة في التناول , وقدرة هائلة على التأمل والتحليق .
بعد تصفية المضامين السلفية , تشكل في المغرب خطاب سياسي جديد لا يرى في التراث المغربي أي نبتة صالحة يمكن رعايتها , لتتواصل مع الفكر التقدمي , ومن ثمة كانت تلك المرحلة من أخطر المراحل التي تم فيها إقبار التراث المغربي والمعارف المغربية , لأن إحياءها ودراستها يعني إعادة إحياء الفكر السلفي الرديف الحقيقي للرجعية حسب المنظور التقدمي . وهكذا يصير تاريخ المغرب تاريخا سلطانيا معبرا عن التحالف المسيطر , وتصير كتابات العلماء الغطاء الإيديولوجي , والشرعية الدينية لممارسة السلطة . وتلك مصادرات أقبرت العناصر المضيئة في تراثنا , وخلقت جيلا ينظر إلى المصادر بريبة كبيرة . وهنا أذكر كم كان سيل السباب يتوجه بعنف نحو شخصية نالت إعجاب الجميع , الغرب قبل الشرق , وبفضل جهودها تم انقاد جزء كبير من تاريخ المغرب , أذكر كم كان ينال المؤرخ الناصري ذلك الكيل من السباب والشتم .
كان من الطبيعي أن ينهزم ما يسمى الفكر التقدمي , وكان من الطبيعي أيضا أن تظل مفرزاته الفكرية غير ملتفت إليها , لأنها تفتقد العمق المنهجي والمعرفي , وكان غاية مناها أن تساير" موضة فكرية " سرعان ما استفاق المشهد الثقافي من ضيق تقاسيمها وتقطيعاتها .
وإذا كان المشهد الثقافي و السياسي يتسم بنوع من الصراع بين المضمون الإسلامي والمضمون العلماني , فلماذا يتوحد الجميع على طرح الهوية والأصالة المغربية التاريخية كاختيار ثقافي, ونقطة برنامجية توضع في ديباجة كل مشروع سياسي ؟ .
التأصيل المعرفي لقضية الهوية في الخطاب المعرفي
بدءا تستوقفني بعض المعارك الثقافية والسياسية التي تشحذ فيها كل الأسلحة , بما في ذلك السلاح المعرفي , وتستوقفني خاصة معركة الأحوال الشخصية , تلك المعركة التي سعى كل طرف إلى ترجمة تلك النقطة البرنامجية , فبينما تمسك التوجه الإسلامي بقطعيات الشرع والفهوم المجمع عليها أو على الأقل التي تفيد غلبة الظن في دلالتها , راح التوجه العلماني يلتمس بعض الفتاوى والنوازل لانتزاع رأي هنا أو هناك لتأييد وجهة نظره , تعلق الأمر باجتهاد الأستاذ علال الفاسي أو باجتهاد الفقيه ابن عرضون . لا يهم الحديث عن المعركة , إنما الذي يستوجب التوقف ذلك التحول في التعامل مع التراث المعرفي المغربي . فإذا كان التوجه الإسلامي بحكم منطلقاته واختياراته وفيا لنصوص الشرع ومقاصده لا يجد أية قطيعة بين فكره وبين التراث المعرفي المغربي كما تشكل وتطور , حتى صار من الجائز القول : لو أننا جئنا ببعض النصوص التي كتبت في القرن 18 أو القرن19 بما تحتويه من مضامين إسلامية , لكانت صالحة لأن تكون مادة محورية داخل الخطاب الإسلامي مع أخذ الاعتبار للبعد التاريخي , وهكذا فلا تختلف كل من نظرت الفقيه ابن الموقت في كتابه مرآة المساوئ الوقتية , وهو
يسجل ملاحظاته وانتقاداته , أو نظرة الحسين بن الطيب بوعشرين الخزرجي المكناسي في كتابه : " التنبيه المعرب عما عليه حال المغرب ", لا تختلف نظرات هؤلاء ومنطلقاتهم عن نظرة الإسلاميين المعاصرين وهم يشخصون الواقع ويطرحون البدائل .
لكن التوجه العلماني يجد التراث غريبا عنه , بل يجد نفسه غريبا عن التراث المعرفي المغربي , فيبذل جهدا جهيدا من أجل المنازعة في قضية من القضايا , وكم يكون حظه عظيما إن وجد فتوى شريدة , أو قولا مغمورا يتمسك به معلنا ارتباطه" بالاجتهاد المستنير" المنطلق من فهم نصوص الشرع ومقاصده ,ومن " قراءة عقلانية " لتراثنا المعرفي. .لكن إذا كان التوجه العلماني في معركته هنا أوهناك يلتمس من تراثنا المعرفي المغربي ما يصلح أن يتكئ عليه ليجسد عمقه التاريخي , وانسجامه مع الهوية الحضارية , فلماذا لا يحرص على التأصيل لذاته من داخل تراثنا المعرفي المغربي ؟
إذا كان التوجه العلماني المشرقي قد وجد في كتابات علي عبد الرازق, ورفاعة الطهطاوي وطه حسين , الأساس المعرفي لتشكيل منطلقات خطابه , فإن التوجه العلماني المغربي عجز أن يجد أصوله ومنطلقاته داخل التراث المعرفي المغربي , وكان عجزه أكبر في حقل التاريخ . ولهذا راح يستقي مفاهيمه إما من نقل معارف الغرب وقيمه وأفكاره , ومحاولة استنباتها في المشهد الثقافي , وإما عبر الترويج لمنتجات الفكر المشرقي العلماني .
وهكذا لم يستطع الخطاب العلماني أن يشكل عمقه المعرفي , وإنما صار تابعا , ينقل فلسفات الغرب , ويجتهد في ترجمتها وتبنيها , لا يهمه إذ يفعل ذلك أن يتحول من موقع إلى موقع , ما دام في نهاية المطاف وفيا لآخر التقليعات الفلسفية الغربية . وهو في تبعيته تلك لم ينس أن يروج للنتاج المشرقي العلماني سواء الدعائي منه ككتابات فرج فودة التي تفتقد عنصر المنهج , أو التي تتزيى بزي العلمية والموضوعية ككتابات فؤاد زكريا ومحمد سعيد العشماوي ونصر حامد أبو زيد .
والثابت عنده بحكم ارتهانه للتجربة النهضوية الغربية , وبحكم تلقفه لمنتجات التوجه العلماني المشرقي - أنه على الرغم من ذلك لم يستطعه أن يجذر ذاته داخل النسيج الثقافي المغربي , فلا كتابات المؤرخين الكبار أمثال الزياني واليفرني والضعيف والدكالي والناصري ولا حتى عبد الرحمان بن زيدان تسعف في تشكيل الأرضية المعرفية للفكر العلماني , ولا حتى في كتابات العلماء . وأمام هذا الفقر المدقع في التأصيل المعرفي سلك التوجه العلماني المغربي ثلاثة مسالك :
المسلك الأول : رحلة البحث على العلمانية من داخل الحقل الأصولي :
ابتدأت الرحلة أولا من داخل الحقل الأصولي , فالتمس التوجه العلماني سلاح الطعن في العقل البياني كما نظر له الإمام الشافعي , فهو عقل يتأسس على محورية النصوص , يتجلى ذلك من خلال اعتماده على اللغة لفهم الخطاب الشرعي , وعلى القياس في الوقائع التي ليست فيها نص , وكل من اللغة والقياس تستبطن رؤية منهجية تجعل النص الشرعي منطلقا وأساسا في بناء وإنتاج المعرفة . وواضح أن الهجوم المعرفي على" العقل البياني " استهدف مركزية النصوص في المنهجية والتفكير الإسلامي , وهكذا اقترح التوجه العلماني على نسق نجم الدين الطوفي وأدنى منه منهجية وبناء إعادة النظر في ترتيب الأصول تحت دعاوى " تأصيل الأصول أو عصر تدوين جديد " كما أطلقها الدكتور الجابري , لتنال المصلحة بما هي تقدير عقلي برهاني المرتبة الأولى , وتبقى النصوص بعدها خادمة لهذا الدليل الإجمالي الأول .
المسلك الثاني : رحلة البحث على العلمانية من داخل الحقل الفلسفي
أما الرحلة الثانية , فقد كانت احتفاء بمعلمة فلسفية إسلامية , إنه ابن رشد الفقيه الفيلسوف , حيث انبرت الكتابات العلمانية لقراءة نصوص هذا الفيلسوف مبرزة طبيعة النظر البرهاني الذي يفصل بين الخطاب الجدلي الحجاجي الذي يعتمد النصوص واللغة والأقيسة الإلحاقية , وبين الخطاب البرهاني الذي يعتمد الحجة العقلية والأقيسة البرهانية والاستقراء ليستقيم لهم : إمكانية فصل النظر الشرعي عن النظر البرهاني, ذلك الفصل الذي لا يعني التصادم والتضاد , وإنما يؤدي مهمة الوصل القادمة " ذلك أن الحق لا يضاد الحق ولكن يعضده ويشهد له " كما يقول ابن رشد في فصل المقال .وكانت هذه المرحلة هي التي سمحت بتدفق الكتابات حول مفهوم التأويل ومفهوم النص , وكانت مدخلا معرفيا : لإمكانية قراءة النصوص من خارج الفضاء البياني , بل لإمكانية القطع مع عناصر التفكير البياني الذي يؤمن بمركزية النصوص , وتبني الخطاب البرهاني الذي يعتمد الحجة العقلية القادرة على التقدير المصلحي البديل الحقيقي للنص الشرعي حسب الرؤية العلمانية .
المسلك الثالث : رحلة البحث عن العلمانية من داخل أدب الرحلة المغربية
أما المرحلة الثالثة فكانت من داخا نتاجات المفكرين المغاربة في القرن 18 والقرن 19 وخاصة الرحلات السفارية , إذ يجنح غالبا الوفود الرسميون الذين بعثوا في مهمة رسمية إلى بلاد الغرب إلى تسجيل ملاحظاتهم عن الديار التي زاروها . وهي تتراوح حسب المراحل التاريخية بين نقد لدار الكفر , وإثبات العزة الإسلامية كما هو الشأن في رحلات " فكاك الأسير , ورحلة الإكسير في فكاك الأسير , ورحلة البدر السافر " , وبين اكتشاف الضعف والهزيمة تجاه ما وصل إليه الغرب من مدنية وحضارة , وبين لحظة الانبهار والدهشة , واكتشاف الذات من خلال المقارنة مع الآخر كما تجلى ذلك في رحلات : " رحلة الصفار , الرحلة الإبريزية , ورحلة تحفة الملك العزيز , ورحلة الغسال...... . وقد حاولت الكتابات العلمانية أن تسهم في رفع الغبار عن هذا اللون من التأليف دون غيره , وقد نفهم العناية الخاصة التي تحظى بها مخطوطات الرحلة دون غيرها في حركة التحقيق في بلدنا , مما يطرح سؤال الإيديولوجيا حتى في البحث العلمي .
والناظر في الكتابات العلمانية التي تتناول هذا اللون من المنتوج المغربي, يراها كم تركز بخلفية مكشوفة على بعض الملاحظات والانطباعات التي يبديها الرحالة المغربي وهو يقارن الضعف الذي لحق بالأمة , والقوة التي امتلكها الغرب , وهي في تركيزها على هذه الانطباعات تخدم موضوعاتها وأولويات خطابها , فقيم الغرب وأفكاره , ومؤسساته مركزية في الخطاب العلماني .
والناقد الحصيف يعلم أن السفير أو الرحالة المغربي إنما يتحدث عن مقومات المدنية الغربية , وينبهر بالنظام , والحرية في بلاد الغرب التي رآها , وعن الجدية في العمل وتقديت الأوقات , ليظهر مقدار تخلي الأمة عن دينها وتعاليم نبيها كما تصرح بذلك نصوص الرحلات ,
وظاهر من خلال استقراء هذه النصوص أن مؤلفيها لم ينسلخوا من تعاليم دينهم , ولم ينخرطوا كليا في قيم الغرب , ولم يتما هوا مع نظمه وقوانينه . وكثيرا ما يثبت الرحالة عزة الإسلام , وذل المسلمين بسبب ترك تعاليمه , ولكن التوجه العلماني أبدا لا يلتفت إلى هذه الملاحظات في انتقائية غريبة قصدها القاصد التسطير على المضامين التي تقرب من الغرب , وتبعد الشقة من الإسلام وأرضيته العقيدية .
خلا صات
وهكذا نرى من خلال الرحلات الثلاث السعي الحثيث لإيجاد أصول معرفية للعلمانية المغربية من خلال تراثنا المعرفي المغربي .ونرى كيف فشلت هذه المحاولات أمام التماسك النظري للمنهجية الأصولية كما تسطرت عند المدرسة الشاطبية , وكما تبناها الخطاب الإسلامي المعاصر , هذه المنهجية التي وضعت الأصول في تراتبيتها المنطقية وصاغت نظرية المقاصد ,فكانت للمصلحة مكانتها , وحجيتها واعتبارها دون أن يمس ذلك مركزية النص الشرعي , . وفشلت أيضا لكون القراءة للفلسفة الرشدية كانت قراءة إيديولوجية انتقائية ,فصلت تفصيلا بقصد التوصل إلى نتائج مسبقة , وفشلت ثالثا لأن التراث المغربي كله بجميع فنونه وألوانه يخدم قضية المرجعية , ويؤكد أن كرامة الذات المغربية في شتى مناشط الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا يكون إلا بالإسلام . وهكذا فملاحظات المؤرخين والنسابة وأصحاب التراجم وأصحاب الرحلات , وأصحاب التقاييد والكناشات , وأصحاب النوازل والفتاوى كلها تؤكد على شمولية الإسلام , وقدرته على تحريك الواقع الاجتماعي , وقدرته خاصة على إبداع الحلول الصالحة لكل مناحي الحياة.
لقد اقتنع التوجه العلماني بفشله في التأصيل , واقتنع أيضا أن خطابه لا يستطيع تحريك المجتمع المغربي , واقتنع أكثر من ذلك بأنه عاجز عن تجدير ذاته في النسيج المجتمعي المغربي, وكان اقتناعه أكبر بتجدر الخطاب الإسلامي , وتجدر الحركة الإسلامية , وقدرتها على تحريك الشارع المغربي .
بهذا يبدو واضحا لماذا تجنح كل التوجهات بمختلف ألوان الطيف السياسي, بما في ذلك التوجه العلماني, إلى إدراج نقطة الهوية الحضارية للشعب المغربي , والأصالة التاريخية , والمقومات الثقافية , وذلك ملحظ بحثنا أبعاده , وسيستبين أكثر كلما دققنا في عناصر الخطاب العلماني بالمغرب ومراحل تشكله , وتلك مهمة أخرى نتركها لمقالات قادمة إن شاء الله .
الأستاذ الباحث : بلال التليدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.