يدخل مصطلح الإصلاح ومفهومه ضمن الحقل الدلالي الديني من خلال ورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الداعية إليه، واعتباره وظيفة للأنبياء والمرسلين وكل من تبعهم وسار على نهجهم في التغيير والشوق إلى النهضة. ففي القرآن الكريم ورد الجذع المشترك(ص ـ ل ـ ح)بمشتقات عديدة، منها: صلح ـ أصلح ـ أصلحوا ـ الصلح ـ الإصلاح..الخ. قال تعالى : - (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم)(الأعراف : 85). - إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله؟(هود: 88). - فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه؟(المائدة: 39). - وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين؟(الأنعام: 85). - عن أم كلثوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس الكاذب بأن يقول الرجل في إصلاح ما بين الناس(مسند أحمد: كتاب مسند القبائل: رقم الحديث26010). - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للعبد المملوك المصلح أجران...( مسلم: باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله : حديث رقم3144 ). إنها آيات وأحاديث عديدة تترا في الموضوع، وتظهر أن الإصلاح قيمة وعمل يدخل ضمن دائرة النهوض بأعباء الأمر المعروف والنهي عن المنكر. ومن النهي عن المنكر: الظلم - والاستبداد - والتأمر بالغلبة والشوكة...الخ. ومن المعروف: الحرية -والكرامة - والعدل - وحقوق الإنسان - وتسيير الناس شؤونهم بالرضا والتوافق ... الخ. وهذه كلها مواضيع سياسية، تدخل ضمن دائرة إصلاح أوضاع البلاد التي يعيش فيها المسلم، ومطاردة الفساد العام والخاص عند ظهوره، ولهذا كان المصلح في غالب الأحيان معارضاً للسلطة السياسية(انظر: الإسلام والديمقراطية: سعيد بنسعيد: ص 13). وفي هذا رد على كل من زعم أن الإصلاح في الإسلام مهادنة أو ترقيع أو قبول بأنصاف الحلول أو أقل من النصف، اختياراً لفقه العافية على فقه المدافعة. إن موضوع الإصلاح يكتسب أهميته من كونه موضوعاً يتسم بالديمومة والاستمرار مع كل الأجيال وشدة حاجتها إليه، إذ مهما بلغ عمق ونجاعة ما اكتسبوا في ميادين الحياة المتعددة، فلا تزال أعينهم وأنفسهم تتوق إلى ما هو أفضل، وتذهب إلى إصلاح الواقع الذي تعيشه وإن كان في مجمله مرضي ومقبول إذا قورن بحال بعض الأمم والدول؛ أو حتى عند عدم المقارنة. فلا زال سعي الإنسان متواصل في البحث عن الكمالات، ولا يزال هذا السعي دؤوب في طريق الإصلاح. إنه موضوع كل الأجيال التي إن حصلت على الرقي والنهوض والتقدم في مجال العمران، فإنها تشعر بأن ما وصلت إليه لا يفي بمتطلبات الطموح. وفي المغرب لا زال سؤال الإصلاح حديث الوقت والساعة، وفريضة العصر كما كان قبل قرنين من الزمان عندما انطرح للمدارسة. إن وقوفنا عند المصطلح الذي اختاره المشتغلون بالميدان السياسي وغيره من الميادين والمجالات المعرفية والثقافية والفكرية والاجتماعية دون غيره من المصطلحات؛ أو مع مصطلحات أخرى من الحقل الديني والتي لم تشتهر اشتهاره، ولم تتميز مثل تميزه قد عبر على أمور منها: أ- الامتياح من المنظومة الفكرية وهوية الأمة المرتبطة بالدين فلم تكن الحاجة داعية إلى الأخذ والاقتباس في المصطلحات ما دامت المنظومة الثقافية ولود قادرة على توليد المصطلحات ومعانيها التي هي ألصق بأمتنا، وتحمل دلالات يتفاعل معها المثقفون والجمهور على حد سواء. ب- إن اختيار القطيعة بين هوية الأمة ومنظومتها الفكرية ومنها جانب المصطلحات، لم يظهر في هذه الفترة التي اخترتها للدراسة، إذ مع شدة وقع الهزيمة النكراء (إيسلي 1844)، والهزيمة المفجعة التي لم تدع النكراء يستراح من مصيبتها (تطوان 1860)، فإنها خلقت إصراراً على الهوية (دون ما علق بها من تجارب الناس وأحوالهم و مسبقاتهم) من أجل النهوض من العثرة واستئناف مسيرة العطاء والبذل وإصلاح ما وقع فيه العطب. ج- إن هناك إجماعا من قبل السلطة الزمنية والمثقفين والمفكرين والعلماء على اختيار مصطلح الإصلاح والذود عنه، فالسلطان المولى عبد العزيز يصرح لمراسل جريدة الزمن (مج ٍَِّمُّ) قائلا: يخطئ الناس عامة بالخارج، في تقدير عواطف شعبي، إنهم يقدمونه كشعب معاد كلياً لكل فكرة تعني إصلاحات نافعة للبلاد، إن هذا غير صحيح بالمرة، إن الإصلاحات النافعة مرغوب فيها، ليس من طرف المخزن فقط، ولكن من طرف رعايانا أيضاً(نقلا عن مجلس الأعيان: الخديمي: ص 270). أما عموم الشعب وخاصة الفئة المثقفة فيه فلم تكن أقل حرصاً على إمضاء إصلاح سياسي راشد، إذ فور تولي السلطان عبد الحفيظ للملك ـ خلفاً لأخيه عبد العزيز الذي خلعه العلماء ـ تمت دعوته صراحة على صفحات جريدة لسان المغرب بالقول: بما أن الوقت قد دعى إلى الإصلاح، والشبيبة العصرية قد هللت قلوبها وانشرحت صدورها له، وجلالة السلطان الجديد يعرف لزومه، فنحن لا نألو جهدًا في المناداة بطلبه على صفحات الجرائد في جلالته، وهو يعلم أننا ما قلدناه بيعتنا، واخترناه لإمامتنا، وخطبنا وده رغبة منا وطوعاً، من غير أن يجلب بخيل ولا رجال، إلا أملاً في أن ينقدنا من وهدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا، وأن يبرهن للكل على أهليته ومقدرته ترقية شعبه، وعلى رغبته في الإصلاح وجـدارته بإدارة ما قلدتـه أمته..( مذكرات حياة وجهاد: الوزاني: ج 1/ص86).