شهد شهرا يناير وفبراير2012 احتفالات شعوب تخلصت من كابوس الاستبداد الجاثم على الصدور منذ عقود، حتى أن أفواجا بالملايين من الشعوب العربية عاشت وماتت دون أن تعرف للحرية نسيما وللكرامة معنى؛ ولدت في القهر وعاشته بكل تفاصيله ولبت نداء الرب تحمل في الصدور غمة وهما. خلدت إذن شعوب تونس "إذا الشعب يوما أراد الحياة" ومصر أم الدنيا وليبيا عمر المختار الذكرى الأولى لإسقاط أحفاد الفراعنة بأساليب و"فواتير" بشرية مختلفة لكنها متفقة في المآل: الاستبداد مهما تجبر وطغى إلى زوال. تهاوت أنظمة حكمت البلاد والعباد بالحديد والنار، وعانقت الشعوب الحرية وأنعشتها نسائمها، وهي اليوم تشق طريقها بخطى حثيثة لكنس مخلفات الاستبداد، وتلك مَهمة أعظم وأشق من إسقاط الطغيان. في تونس كما في مصر وليبيا توضع اللبنات لنظام سياسي يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية لا من هوى الحاكم، وتحدد القرارات والتوجهات من اختيار الشعب بانتخابات نزيهة لا الالتفافية على إرادة الشعب باستحقاقات مزيفة محددة نتائجها سلفا. والمقابل، وفي المغرب خلدت حركة 20فبراير ذكراها الأولى لتجد نفسها في ذات المربع، وهي للموضوعية وإن أسهمت في رفع منسوب الوعي الشعبي وانتزعت حق التظاهر السلمي وكسرت حاجز الخوف وأرغمت النظام على تعديل أجندته وتحويل بوصلته السياسية لم تحقق تغييرا جوهريا في منظومة النظام السياسي؛ فالتعديل الدستوري كرس احتكار السلطة في نفس اليد وربما بالتأمل عمق هذا الاحتكار ودَسْتَرَه والتحكم في آليات إحداث المؤسسات المقررة البرلمان، الحكومة، المجالس والهيئات الحيوية أو الاستراتيجية ما زال قائما لتبقى هذه المؤسسات شكلية صورية خادمة للاستبداد، بل ومُشرْعِنة لهيمنته. بعد سنة من انطلاقها، نجحت حركة 20فبراير في التأسيس للفعل الاحتجاجي وتثبيته سلوكا وثقافة في المجتمع، ورسخت منهجه السلمي وقعّدت لأشكال الاحتجاج في انتظار أن تنضج شروط التغيير الأخرى، ومنها انخراط الطبقة المتوسطة وعموم المثقفين باعتبارهم فئة متنورة واعية وازنة في أي مجتمع. بعد سنة من انطلاقها، حُق للحركة أن تعدد منجزاتها، ووجب عليها أن تقيِّم أداءها تجاوزا لمواطن الخلل سقفا وخطابا وتواصلا وتعبئة، فالمعارك الفاصلة لا تحسم في مواجهة أو نزال، فكيف إذا كان الخصم استبدادا رسخ جذوره عبر قرون، و"نجح" في اكتساب القدرة على التكيف مع المتغيرات، وراكم تجارب في ترويض المعارضين واحتوائهم. إن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وعلى طلابها مع الثبات على المواقف تطوير أساليب التدافع مع الباطل الذي يجدد دماءه ويغير واجهاته استخفافا بعقول العامة والتفافا على مطالبهم. بعد سنة من الربيع العربي، تغيرت المعادلات ولم تعد الالتفافات تفيد، فالنظام "نجح" في كسب بعض الوقت، لكنه اضطُر ليلعب آخر أوراقه بتوظيف مكون ذي شعبية معتبرة ولا شك كان يخطط لاستعماله بعد سنوات، ومع مكسب الحق في التظاهر وتنامي الوعي الشعبي تناسلت الملفات الاجتماعية والقضايا القطاعية وأمام ارتهان مؤسسات الدولة لفساد ينخر نخاعها لن يصمد "الإصلاح" المخزني المزعوم ولن تفيد جرعاته التسكينية في استرجاع الاستقرار وهيبة الدولة، وسيجد المخزن نفسه أمام جولة ثانية من احتجاج في إطار حركة 20فبراير أو خارجها، يطرح نفس المطالب: حرية، عدالة، كرامة. بل إن غباء النظام السياسي الذي أوهمه أنه استعاد زمام المبادرة، دفعه لفتح ملفات محاربة البناء العشوائي و"تحرير" الساحات العمومية والشوارع من غزو الباعة المتجولين أو يصطلح عليهم ب"الفَرَّاشَة"؛ والمخزن بذلك يروم تسجيل هدفين من ركلة واحدة: استعادة هيبة الدولة، والتشويش على الحكومة التي انقضت أيامها 100دون أن تسجل إنجازا ملموسا في واقع الشعب، اللهم خرجات إعلامية لا تتجاوز التعبير عن حسن نوايا وزراء المصباح التي ليست موضوع شك أو ارتياب وشغلها بمعارك جانبية وتوريطها في مواجهات شعبية تأكل رصيدها السياسي في حالة الفشل، وهو نفس المنحى الذي خُطط أن تسير فيه إثارة ملفات فساد إداري ومالي أسهمت فيه حكومات متعاقبة، حتى إن وزراء سابقين يتبادلون الاتهام بالفساد، وكل من أشير له بالفساد يهدد ويتوعّد بكشف المستور، بل إن برلمانيا اقترح على وزير العدل والحريات أن يُمده بقائمة القضاة المتورطين في الفساد، فيما يشبه التحدي أن الفساد أكبر من أن تتصدى له الحكومة. فساد استشرى في أوصال أجهزة الدولة نهبا لمقدرات البلد وتبذيراً لثروات الشعب، وظلم اجتماعي نال من كرامة المواطن يُؤذِنان بمزيد من الاحتقان والخراب لا قدر الله على حد تعبير ابن خلدون، فهل من معتبر قبل فوات الآوان.