الخط : إستمع للمقال في صيف 2024، انطلقت خيوط واحدة من أخطر عمليات الاحتيال السيادي التي استهدفت المغرب من الداخل والخارج. في قلب هذه العملية، ظهر اسم مهدي حيجاوي، العنصر السابق المطرود في جهاز الاستخبارات الخارجية(DGED)، الذي استغل صفته السابقة وصفات وهمية منتحلة ليقود شبكة نصب عابرة للحدود، توظف أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتسعى إلى اختراق النسيج السيادي للمملكة وتشويه صورتها المؤسساتية على الصعيدين الداخلي والدولي. بحسب شهادات رجل الأعمال مصطفى عزيز، فإن حيجاوي لم يتردد في استخدام تقنية "التزييف العميق" (DeepFake)لإنتاج تسجيلات مزورة بصوت شبيه بالمستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، بهدف إقناع مستثمرين كبار – من أمثال بأن المشروع الذي يروج له يحظى برعاية ملكية مباشرة. وادعى أنه مكلّف شخصيا بمواكبة التحضيرات الاستثمارية المرتبطة بكأس العالم 2030. كان الهدف من هذه التسجيلات هو زرع الثقة لدى المستثمرين الأجانب، ودفعهم لضخ أموال ضخمة في مشاريع خيالية، على رأسها مشروع سُمي "مدينة الإعلام" زعم تشييده قرب برج محمد السادس في الرباط. هذه المقاطع المزيفة – المنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي – كانت مدخلا لتمرير وعود بمواقع استراتيجية وصفقات مربحة، ما جعل الضحايا يوافقون على تسليم مبالغ ضخمة نقدا أو عبر التحويلات، دون أن يروا شيئا من تلك المشاريع على أرض الواقع. المخطط لم يقتصر على التسجيلات المزيفة، بل شمل أيضا استغلال واجهات ومواقع داخل المغرب، منها مقر فرع للبنك الشعبي في الدارالبيضاء، حيث نظم حيجاوي اجتماعا ضم محمد كمال مقداد، ونزهة صابر، إلى جانب مستثمر أجنبي. وفي اجتماع ثانٍ تم تقديم مقر وهمي مؤثث بالدارالبيضاء على أنه تابع للأميرة للا مريم، رغم أن مقر شركتها يوجد في حي الرياضبالرباط. حيجاوي أوهم ضحاياه بأن المشروع يحظى بمباركة الأميرة، وبأن الملك أعطى الضوء الأخضر له شخصيا لتأمين الأرض والتمويل، وأن الأميرة "جد مسرورة" بالمبادرة. وتم خلال أحد اللقاءات طلب رشوة بقيمة 8 ملايين درهم من المستثمر الأجنبي لمواصلة الإجراءات، بحضور موظف مطرود من الأمن يدعى عبد الواحد السدجاري، الذي انتحل صفة مستشار الملك فؤاد عالي الهمة. لكن الأخطر في هذا الملف، أن هذه العملية الاحتيالية لم تكن مجرد مبادرة فردية من موظف مطرود، بل كانت امتدادا لتحرك أوسع يقوده إلياس العماري في الكواليس. وفق مصادر موثوقة، استغل حيجاوي علاقته الوثيقة بالعماري وتفاخره بقربه من فؤاد عالي الهمة لتضخيم نفوذه المزعوم. العماري، الذي كان يسعى منذ سنوات لإزاحة عبد اللطيف حموشي من منصبه، وجد في حيجاوي وجيراندو أذرعا ميدانية لتحريك المعركة من الخلف: من تسريبات كاذبة، إلى مقالات مدفوعة، فحملات تشويه عبر اليوتيوب والتضليل الرقمي. تُظهر المعطيات أن علي المرابط، القلم المأجور القريب من كابرانات الجزائر، لم يكن سوى جزء من آلة إعلامية استخدمها العماري لترويج سيناريو "الصراع داخل الأجهزة"، واستثمار مسرحيات مثل "لقاء جيراندو مع الهمة" لضرب الثقة في مؤسسات الدولة السيادية. ما بثه المرابط في قناته، لا ينفصل عن الأجندة القديمة/الجديدة للعماري في اختراق تماسك الدولة وخلق انقسام رمزي خطير. بحسب معطيات موثوقة، فإن علاقة مهدي حيجاوي بمحيط طحنون بن زايد، رئيس جهاز المخابرات في الإمارات، مؤكدة، وكذلك علاقات أحد أبنائه بنفس المحيط. وهذا ما يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول الهدف من حماية شخصية مثل حيجاوي، وعن إمكانية وجود رهانات إستراتيجية خارجية لإعادة هندسة مراكز النفوذ داخل المغرب من خلال وكلاء محليين. بل إن بعض المعطيات تشير إلى أن حيجاوي روّج داخليا لفكرة أنه سيخلف قريبا محمد ياسين المنصوري على رأسDGED، في خطوة غير مسبوقة في الوقاحة، سعى من خلالها إلى تقديم نفسه كورقة "جيوسياسية" بديلة قادرة على تأمين توازنات غير مغربية. رغم تعقيد هذا المخطط، فقد نجحت الدولة المغربية – بفضل يقظة أجهزتها الأمنية واستخباراتها المتقدمة – في تفكيك هذه الشبكة المعقدة قبل أن تنتج أضرارا دبلوماسية أو اقتصادية كبرى. تم رصد الجوازات الدبلوماسية المزورة، وتحديد مصدر التسجيلات المركبة، وكشف الانتحال داخل البنيات المؤسساتية. وجرى تطويق هذه الهجمات السيبرانية والسياسية من الداخل والخارج، مع بداية إسقاط بعض عناصر الشبكة أمام العدالة. هذا التفوق الأمني والاستخباراتي أفشل المخطط قبل أن يتحول إلى أزمة سياسية أو دبلوماسية كبرى، وأظهر أن المغرب ليس سهل الاختراق، حتى وإن تم استخدام أدوات رقمية متقدمة وتقنيات تزييف غير مسبوقة. ما وقع ليس مجرد احتيال مالي، بل مشروع تهديد سيادي بأدوات رقمية، غايته نسف الثقة بين المواطنين والدولة، وبين الدولة وشركائها، وبين المؤسسات نفسها. وما جرى مع جيراندو في مسرحية "اللقاء مع المستشار"، ومع المستثمرين في قصة "مدينة الإعلام"، ومع التسجيلات المزورة لصوت الهمة، ليس سوى مقدمات لحرب رمزية ناعمة تُخاض على جبهة الشرعية والثقة. في الحلقة المقبلة، سننتقل إلى تفكيك واحدة من أخطر سرديات التضليل: أكذوبة "الدولة الموازية"و"الصراع المزعوم بين الأجهزة"، وكيف يُستخدم هذا المفهوم كتكتيك تفكيكي لضرب صلابة الدولة الوطنية.