واش يبقى ولا يستاقل. اليوم يتحدد مصير رئيس الحكومة الصبليوني. خدا ويكاند باش ياخد قرارو بعد اتهام مراتو بالفساد    بالفيديو.. الجيش الإسباني ينفذ تمارين عسكرية على الحدود مع الناظور    الصين: "بي إم دبليو" تستثمر 2,8 مليار دولار اضافية شمال شرق البلد    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    تقرير: المغرب وإسرائيل يسعيان تعميق التعاون العسكري رغم الحرب في غزة    منظمة المطبخ المركزي العالمي تستأنف عملها في غزة بعد مقتل سبعة من عمالها    استطلاع.. غالبية المريكانيين كيبان ليهوم أن إدارة ترامب أنجح من ديال بايدن    أول تعليق من مدرب نهضة بركان على مواجهة الزمالك في نهائي كأس "الكاف"    يوسفية برشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني بعد التعادل مع تطوان    ماركا: المغرب يستغل الفرصة.. استعدادات متقدمة لنهائيات كأس العالم وسط فضائح الاتحاد الإسباني    الحكومة والنقابات توقعات على زيادات عامة في الأجور وتخفيضات في الضريبة على الدخل    توقعات طقس اليوم الاثنين في المغرب    هجوم مسلح يخلف سبعة قتلى بالاكوادور    رواد مركبة الفضاء الصينية "شنتشو-17" يعودون إلى الأرض في 30 أبريل    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    "العدالة والتنمية" يندد بدعوات إلى استقالة ابن كيران بعد خسارة انتخابات جزئية    فريق يوسفية برشيد يتعادل مع "الماط"    مدرب بركان يعلق على مواجهة الزمالك    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    البطولة: المغرب التطواني يضمن البقاء ضمن فرق قسم الصفوة وبرشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني    مرصد يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    بايتاس: ولوج المغاربة للعلاج بات سريعا بفضل "أمو تضامن" عكس "راميد"    مكناس.. اختتام فعاليات الدورة ال16 للمعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    كلمة هامة للأمين العام لحزب الاستقلال في الجلسة الختامية للمؤتمر    طنجة تسجل أعلى نسبة من التساقطات المطرية خلال 24 ساعة الماضية    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    الجهود الدولية تتكثف من أجل هدنة غزة    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (18 )
نشر في بيان اليوم يوم 13 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
-18-
في الصباح الموالي، كان أول خروجنا باتجاه الساحل الغربي لرأس ثلث مداري في هذا الركن من الجنوب الشرقي كان يعيش أكثر أنصار الروغي تعصباً له؛ بني بوغفِّر.
ومع مطلع الشمس شرعنا في قصف القرى، والاقتراب من البر، احتشد القرويون على الشاطئ، مختبئين وراء الصخور. ثم جعلوا يرموننا بقصف كثيف، حتى لقد كنا نسمع لقذائفهم صفيراً في آذاننا.
استدعينا، على الفور، جميع الجنود ليصعدوا إلى السطح، فنشبت بيننا، حينئذ، معركة طاحنة بطلقات البنادق.
كان قلة قليلة من الجنود من يجيدون استخدام المصوِّبة؛ فكانوا يرمون من فوق الدِّسام الصغير؛ بحيث يسقط الرصاص في الماء على مسافة أقل من 200 متر عن السفينة، إلى أن أفهمتهم أن أن عليهم أن يسددوا إلى ما فوق السدام الكبير. كان أحد الرجال يضغط على الزناد وهو مغمض عينيه، وكان آخر يطلق النار وهو يسند عقب البندقية إلى بطنه! وكان بحارتنا والقائد يرمون بأفضل من ذلك. وعلى البر كانت الفرقعات الضوئية التي تحدثها الطلقات تحدد لنا الأهداف بوضوح. وأكثرنا، كذلك، من استعمال بندقيتين من نوع «مكسيم». وكنا، في الوقت نفسه، نرمي بالمدافع القرى الواقعة على المرتفعات. وفي صباح اليوم الموالي، علمنا بالنتيجة السارة لتلك المعركة : فقد دمرنا منزلين، وقتلنا رجلين وامرأتين وطفلاً وبقرة!
وفي 24 أبريل، خرجنا نريد المنطقة نفسها، نزولاً عند رغبة بن الطاهر. أعتقد أن الخوف من الألغام في مارتشيكا هو وحده الذي دفع بالرجل العجوز سريع التنفيذ إلى أن ينقل مسرح العمليات إلى مكان آخر. وما كدنا نشرع في تبادل الرمي وبعض الرجال من البر، في الجهة المغربية، على ساحل كاب نيغري، حتى أبصرنا بمركبين شراعيين، فبادرنا إلى تعقبهما. لكن أن رآنا الركاب حتى انحرفوا جهة الساحل، فأفلحوا في الوصول إلى الشاطئ؛ حيث ربطوا المركبين، وتواروا وراء التلال. ولما صرنا على مقربة من ذلك المخبإ، لا تكاد تفصلنا عنه غير مائة متر، فتحنا عليه النار. فقابلوا هجومنا، في البداية، بهجوم مضاد، لكننا لم نلبث أن أخرسنا طلقاتهم باستعمالنا مدافع مكسيم بشكل متواصل، ثم أنزلنا قاربنا في الماء، وجعلنا فيه بعض الرجال، فتسنى لنا الاستيلاء على المركبين، فيما كنا، من على سطح السفينة، نمنع أصحابهما من الإتيان بأي حركة. ثم حمل طاقمنا، في عير ما عناء، الحمولة التي كانت على السفينتين، وجعلنا نفرغها بهدوء : كانت 50 كيساً من الدقيق، و2 كيسان من الصوف، ومقدار قليل من السكر، و4 صناديق من النفط، و2 صندوقان من الصابون.
كان بن الطاهر يراقب تلك الغنيمة بعينين متيقظتين نفاذتين، وهو يسجل كل شيء، كفعل ضابط السفينة أثناء ما يجري إفراغ حمولتها. وقد كان في نيتيه أن يمضي لجلب المركب الثاني، لولا أنه كان انتزع من أيدي الرجال، وهو في صياح وزعيق، قالب سكر، بعد أن استولوا عليه، فرفض هؤلاء أن يجازفوا بأنفسهم مرة ثانية، لذلك رفعنا الأب إلى السطح، واستأنفنا مسيرنا صوب مليلة، نزولاً عند الرغبة الصريحة من الرجال العجوز.
هناك وجدنا المسؤولين قد علموا، عن طريق البر بما حدث، ووجدنا العامل في سورة من الغضب. قال لي إن المركب كان آتياً من مليلية، وإن الحمولة التي كانت عليه تخص بعض تجار المدينة، فإذا كنا نسرق هذا النوع من السلع، فسنقوض التجارة كلها. فلم أتمالك نفسي أن أرد عليه بأننا لم نأسر المركب في البر، بل في البحر، ضمن تراب العدو. ثم أرسلت إليه ببن الطاهر ليتفاهم وإياه. بعد ذلك قال لنا، بلسان الترجمان، إنه لا ينبغي لنا، في المستقبل، أن نعود إلى مليلية بما يقع بين أيدينا من غنائم، وإن علينا أن نتوارى، بأسرع ما في الإمكان، بتلك الغنيمة. أجاب بن الطاهر أنه سيرحل في اليوم الموالي بكل تأكيد. فقاطعته مؤكداً أنني سأرحل قبله، لأنني لا أريد، بأي حال، أن أثقل على السلطات الإسبانية بمقام طويل جداً. ثم أضفت قائلاً إنني لو كنت لوحدي، لما كنا رجعنا إلى مليلية بغنيمتنا؛ ولكنت مضيت بها إلى عجرود. بيد أني لم يكن لي بد من الإذعان لأوامر الرجل العجوز، فهو القائد السابق لبعثتنا، ولا يمكن أن تُلقى عليَّ المسؤولية في ما يبدر عنه من أفعال.
وقبل أن نغادر، سلمني فرتوت، يداً ليد، رسالة من الوزير. فقد كتب إليَّ يرجوني، في لطف، أن أبقي على بن الطاهر، ليظل في مركزه، وأن نكثر من دورياتنا على الساحل. وقبل كل شيء، فلم يكن يفترض بي، لو أمكن، أن أمكث لأكثر من 24 ساعة في مليلة. ومن الواضح أنني قد أُعطيَني حينئذ من السلطة أكثر مما كان لي من قبل.
وفي 26 أبريل، بلغنا عجرود بغنيمتنا. وقد وافق العجوز على أن ينزل إلى البر، لكن لا حمولته. فشرحت له أننا لا يمكننا أن نظل محتفظين بالسلع على متن السفينة، لأن الإسبان أبلغونا بوضوح أنه لم يكن يجدر بنا أن نعود إلى مليلية بأي غنيمة. ولو علموا أننا لم نطع أوامرهم فسنخسر بخطئنا إلى غير رجعة تلك المعاملة الحسنة التي كنا نجدنها منهم إلى ذلك الحين. فلذلك ذلك رفضت أن أعود إلى مليلية. تملكه الغضب، فزعم أننا لو أودعنا الحمولة قصبة السعيدية، فستضيع على الحكومة، لأن الباشا يستحوذ عليها. تركته يرغي ويزبد، وبقيت متشبثاً بقراري. وفي الأخير، رضخ للأمر، فلم يمانع، بعد، في تفريغ الحمولة. فلم يكن، هو نفسه، يعتقد أن الحكومة ستطالب بالغنيمة.
وإنما بات، على العكس، يعتبر نه المالك الوحيد لها، وخشيته أن يصيع عليه شيء منها. نزلت إلى البر بمعية بومغيث للتحدث في الأمر مع الباشا، ورافقني بن الطاهر ليظل على رقيباً، وربما، كذلك، لينقذ ما مان لا يزال بالإمكان إنقاذه.
كانت القصبة لا تزال تغط في هدوء شامل، فالوقت لم يكن تجاوز الثامنة صباحاً. ثم جاء من قادنا إلى بيت الباشا، فوجدنا الرجل يغتسل. طلب منا أن ننتظره في حجرة طويلة وضيقة، تعلوها قوسان عربيان، يقسمانها إلى ثلاثة أقسام : الأول عبارة عن بهو خلو من أي زخارف، وأما الثاني، والمنخفض عنه بدرجة، فتكسوه زربيتان، وهو يمثل قاعة للاستقبال، فيما الثالث، المرتفع درجة، يُتخذ غرفة للنوم، قد مُد فيه سرير كبير مغطى بالتول. القوس الذي يفصل بين الحجرتين الأخيرتين مهدم أعلاه. الجدران كلها مبيضة بصورة جيدة، لكن عارية تماماً. السقف قوامه أخشاب خشنة وأعواد، والأرضية من طين جاف. لقد كان لي متسع من الوقت لأجيل بصري، متفحصاً كل شيء، لأن الباشا تأخر عنا كثيراً، وبن الطاهر يجلس إلى جانبي وقد لاذ بالصمت.
وها إن السيد قد ظهر بعد لأي، وهو لا يزال مبللاً كله من الاغتسال، فحيَّانا، ثم ذهب إلى ذهب إلى حجرته، وجعل يرتدي سراويله وثيابه العريضه التي يتخذها له حجاباً. فلما بات مستعداً، التحق بنا، ثم لبس جوربيه. وجعل، شيئاً فشيئاً، يكمل هندامه. ثم جعل، لساعة، يحادثنا في بعض توافه الأمور. لم يسألنا الغرض من زيارتنا. وقد ظل بن الطاهر يلتزم الصمت، فلم أجد بداً من طرق الموضوع. فقد حكيت له أننا احتجزنا سفينة وحمولتها، وأن تلك الغنيمة ينبغي أن تودع في القصبة، لأن الاحتفاظ بها على متن السفينة سيكون فيه فظاظة وقلة لياقة تجاه السلطات الإسبانية في مليلية. قلت له إنني أرى من الطبيعي تماماً أن تعود هذه الأشياء كلها إلى الحكومة، ولن أحتفظ بغير المصابيح والغاز والصابون، لأزود بها السفينة، لأستعملها في ما يخدم مصالح الحكومة. لكن ينبغي إعطاء الرجال شيئاً مما سيفضل من تلك الغنيمة، فإن من شأن ذلك أن يشجعهم على ركوب المخاطر في ما قد يتفق لنا، في المستقبل، من غنائم. وزدت إلى ذلك قولي إن من المحتمل أن الباشا لا يريد أن يتخذ بنفسه من قرار، واقترحت أن تُرفع المسألة كتابة إلى الطريس، من دون المساس بالحمولة، إلى حين وصول جوابه. وقد كان بن الطاهر على يقين أن الطريس سيعطيه تلك الغنيمة كلها؛ فلذلك وافق على أن نرسل ببرقية إلى الوزير. لكنني صرفته عن الأمر، بأن نبهته إلى وجوب فعل ما في الإمكان لإبقاء المسألة طي الكتمان، ولقد وجدت مقترحاتي تأييداً من لدن الباشا. فلم يبق للعجوز إلا أن يذعن للأمر.
بعد هذا النقاش، أمر الباشا بفطور قوامه أرغفة وزبدة وجبن. وقد لاحظت أنه تناول قطعة خبز، وفتحها، وجعل يدهن دخلها بأصابعه. فتساءلت إلى من سيعطي تلك المزبَّدة. فمد إليَّ بها. ثم لحس سبابته، بعد أن استعملها في دهن الزبدة. وبالطريقة نفسها أعد قطعة أخرى من الخبز لأجل بن الطاهر. فاغتبطت أن جعل لي الأسبقية.
في تلك الأثناء، كان يجرى إنزال الحمولة المجتجزة، ووضعها داخل القصبة، في العراء. كانت الريح تهب باردة من الغرب. ولما عزمنا، في الأخير، على ركوب السفينة، اشتد اضطراب الأمواج، حتى لقد غمرت القارب، وابتللنا منها جميعاً. وضعية كانت جديدة على قائد الرحلة العجوز، فرأيته يقعي على قدمي أحد الرجال، ثم لم يتمالك نفسه من شدة الخوف، أن يسرب منه على رجلي الرجل ما يتسرب من الخائف الهلوع.
وفي اليوم الموالي، أبحرنا صوب مليلية.
أمليت على فرتوت رسالة إلى الطريس، أستفسره فيها في قرارة بشأن الغنيمة، وأخبره، كذلك، بأن بن الطاهر كان يرتكب، أو يريد أن يرتكب، اختلاسات جديدة، وأنه يتمادى في تجاوزاته، بما قد يدفع الإسبان إلى طردنا نهائياً من مليلية، وأنني أرى من مصلحة عملنا أن يرسل إلينا بقائد آخر للرحلة، ولاسيما أن رجالي معه في مشاحنات متواصلة، وأنهم يهددون بالعصيان، وأنه قد تمادى في تجنياته، بحيث لما وقع شجار بين أحد البحارة وواحد من رجاله، لم يزد على أن أمر بضرب رجالي في حال تكرر ما حدث، وأنني بت ألاقي عناء كبيراً في تهدئة البحارة، وبعد ذلك أغلظت القول كثيراً للعجوز، بما ما كان منه من وقاحة، بحيث ألجمته لأسابيع.
في الأيام التالية حاولنا أن نقوم برحلة إلى الحسيمة؛ حيث كان بن الطاهر يريد أن يتنقم من قبيلة تلمسماني. لكننا كنا كلما هممنا بالتحرك، نضطر إلى الرجوع على أعقابنا، عند رأس ثلث مداري. وكأني بالعجوز كان يود أن يتحاشى التوكيل التجاري، فعندما ألمحت إليه، بهدوء، بعد فشل محاولتنا الأولى للالتحاق بالحسيمة، إلى ضرورة أن نظهر، مرة أخرى، في مارتشيكا، تملكه الحنق، وزعم أنه لا يقدر أن يذهب إلى هناك بسبب خطر الألغام، لأنه هو المسؤول عن السفينة أمام السلطان. بيد أننا ذهبنا عند أعدائنا بمبادرة خاصة مني، وبذلك أجبرت العجوز على إطلاق النار، على الرغم من الخوف الذي كان يتملكه؛ ذلك بأنني اقتربت كثيراً، بحيث كنا نلقى القصف من البر، فلم يعد له بد من الرد.
كان بن الطاهر هلوعاً من الألغام، فكنا لا نفوت فرصة لنزيده خوفاً على خوف. فإذا مر بنا شيء من الأشياء، كان أحدنا يصيح : «لغم!»، فكان دائم الخوف أن يصاب. بيد أن الألغام لم تكن هي وحدها السبب في خوفه وانشغاله. فقد كان يخاف البحر أيضاً. فكلما شرعت السفينة تتأرجح، إلا وطلب إلينا أن نعود إلى المرسى. فلا غرو أن يكون «أميرال» هذا شأنه، من احترام من رجاله.
ومن الجزر الجعفرية، قمنا بعدة رحلات استشكافية صوب ساحل كبدانة ومارتشيكا، حتى عودتنا إلى مليلية في 3 ماي. وكان أن سلمني حينها فرتوت رسالة من الطريس يبين لنا فيها كيفية اقتسام الغنيمة. الثلثان يمنحان لي ولطاقم البحارة، والثلث لبن الطاهر وجنوده. وعلاوة على ذلك، فقد أخبرني بأنني وحدي المسؤول على قيادة الطاقم، وليس عليَّ أن أترك للعجوز أن يتدخل في الأمر، فخدمة السفينة لا تعنيه في شيء. وتلقى بن الطاهر، كذلك، رسالة من الوزير يؤاخذه فيها كثيراً بعدم جدواه، ويأمره أن يكون أكثر فعالية.
بذل فرتوت جهده ليصلح بيني والعجوز، لكنه لم يفلح كثيراً؛ فقد كان من المتعذر عليَّ أن أحترم رجلاً خاملاً، وبليداً وجباناً، لم يكن يفوِّت فرصة ليزعق ويرغي ويزبد. غير أني وعدته أن أقيم هدنة مع بن الطاهر.
في 4 ماي تمكنا، بعد لأى، من الخروج في الرحلة التي كنا نزمع القيام بها منذ وقت طويل، إلى الحسيمة، كان ينتظرنا مسير طويل من 14 ساعة، فلذلك حددت موعد الانطلاق في الساعة الثالثة صباحاً. وارتقيت شخصياً السفينة في الساعة الثانية والنصف، وأعدت القارب إلى البر ليُقل بن الطاهر، لكننا ظللنا، كما هو معهود في معظم الأحيان، نرتقب أن نركبه السفينة، في الساعة المحددة، لكن دون جدوى. فلما كانت الساعة الدابعة، ظهر، أخيراً، مركب خاص تبينت على متنه العجوز، قادماً ناحية سفينتنا.
وكان قاربنا يسير من ورائهما وهو يتعرج ارتفاعاً وانخفاضاً، ويتأرجح ذات اليمين وذات الشمال، بشكل مخيف. فاستشعرت وقوع مكروه، ولم يخطئ إحساسي. نزل من السفينة بن الطاهر، وفرتوت والمعلم محمد، وقد كان هذا الأخير في غاية الانشراح. وقد أخبرني ابن الطاهر، بلسان الترجمان، أن رجالي كلهم مخمورون في البر، فطمأنته أن لا خوف من الأمر، وأنني سأقله، بعد اليوم الموالي، إلى الحسيمة في الموعد المعلوم. وبالفعل، فقد لاحظت، بعدئذ، أن لا وجود لأي بحار على متن السفينة، وكذلك غاب عنها جميع السائقين، إلا اثنان. ولما أخبرني ابن الطاهر، فوق ذلك، بأن بعض رجالي قد اعتُقلوا في بعض الشجارات، ساءني الأمر.
كان قاربنا يتقدم متئداً، وهو يتأرجح. ورأيت الخليفة وأحد السائقين يكدون ويجهدون لدفعه. وما انتهى عناؤهم إلا أن انطلقت السفينة الٌسپانية، بعد لأي، صوبهم، وجذبتهم. ورأيت، من بعيد، أن المجذفين كانوا ثملين. وتعرفت على الطريس (أحد أقرباء الوزير، كان يحظى بوضع مميز على متن السفينة) مستلقياً، في خلفية السفينة بالعرض؛ فكان كأنه جثة هامدة. ولاحظت، في الأخير، أن السفينة كانت ملآى ماء، توشك أن تغرق. وما أن تم لنا ربطها، حتى قفز إسبانيان داخلها، وانهالا ضرباً على المخمورين، وأخذا ينزلانهم. كان الخليفة أقلهم سكراً، فكان صعوده أسرع، وكذلك بقي السائق واعياً إلى حركاته. بعد ذلك، لزم إركاب الطريس «الجثة»، فلما عاد هذا الأخير إلى الانتصاب، بعد جهد جهيد، ومساعدة من بعض الرجال الأشداء، سمعنا من تحته زمجرة، ثم برز الرامي الثاني. وفيما كان الطريس، الرخو النحيف كأنه خرقة مبلولة، يصعد السلم بمشقة، وهي يزحف على يديه ورجليه، جعل الرامي يحاول، وهو يضحك ببلاهة، أن يلتقط الأسماك التي اشتراها إذ هو على البر، وهي، الآن، تتخبط في الماء المتجمع في قعر السفينة، من غير أن يفلح في الإمساك بها، مهما فعل. وقد أمكن له، في الأخير، أن يرتقي سطح السفينة، فمضى ليستريح، وكذلك فعل الخليفة والطريس؛ فقد تواروا عن الأنظار بسرعة تحت السطح. ولبث السائق في الأسفل ينحو بأشنع الشباب على عبد العزيز.
في تلك الأثناء، كانت الجهود تُبذَل سدى لنزح الماء عن السفينة، إلى أن انتبهنا إلى أن سدادة الرمل كانت قد أزيلت. ولم يكن سبيل إلى استعمال السفينة إلا أن تُعاد السدادة إلى مكانها. وبينما كنا، نحن الأوروپيين، نستمتع بذلك الحادث، كان العجوز بن الطاهر يقف هناك، مذهولاً، لا يعرف ما يفعل.
نزلت، بعد ذلك، إلى البر، ومعي السائقان، للبحث عن رجالي. لكن عبثنا. فقد كان من المستحيل أن نقع على واحد منهم. انتظرت على الشاطئ نهاية تلك الحكاية، فلم يكن بمقدورنا أن نرحل من دونهم. وفي الساعة السابعة، رأينا، بعد لأي، عربة تقترب. ثم دنت من قاربنا، وترجل عنها أفراد الفرقة كلهم، وهم محمرُّو الخدود بفعل الكحول، شاردو الأبصار. لكنهم كانوا جميعاً متماسكين. ناديت على أحدهم، فوقف أمامي كفعل الجندي ليتلقى الأمر، ويداه تشدان على سرواله، وأعلن أن الجميع حاضرون. وبذلك صار بمقدورنا، أخيراً، أن نصعد إلى السفينة. وقد لاحظت أن رجالي، على الرغم من سكرهم، لم يكن بينهم من يخل باللياقة، أو يخرج إلى الوقاحة. فمنذ سنوات وأنا أتولى قيادة «التركي»، وتلك كانت أول مرة تتجاوز فيها الفرقة كلها الوقتَ المحدد للاستراحة على البر لذهاب أفرادها للشرب. وقد استغربت لبقائهم ملتزمين الهدوء، على الرغم من الغشاوة التي كانت على أذهانهم. فلما صرنا على متن السفينة، رفعوا القارب بكل نظام، وانطلقنا في الليل إلى الحسيمة. فبلغناها في يوم 5 ماي، على الساعة الثامنة صباحاً.
كان يتعين على ابن الطاهر أن يسلم رسائل جاء بها من طنجة إلى أهل بقيوة. ولما أن أعياه الانتظار، ولم يلح في الأفق من قارب، لم يجد بداً من حملها إلى الحسيمة. ثم نزلنا بالساحل الغربي من خليج الحسيمة، وألقينا المرساة في ساحل العدو، إلى صباح اليوم الموالي. وفي مساء ذلك اليوم، أجزنا لأنفسنا أن نقوم بدعابة : فقد أرسلنا من على متن السفينة صندوقاً صغيراً، فلم مر بقربنا، نبهنا العجوز إليه، قائلين إنه لغم طاف. فلبث المسكين ساهراً لم يغمض له جفن، خشية التعرض لاعتداء. وقبل أن يعود إليه هدوؤه، اتفق لنا حادث آخر هينٌ. فقد أشهر أحد زنوج الرجل العجوز سكيناً في وجه ضابطنا الأول على أن عاقبه على فظاظة بدرت منه. وقد اعترف البحارة بأن السكين يعود إليهم، وأنه سرِق منهم قبل بضعة أيام. وبطبيعة الحال، فقد انتُزِع السكين من الزنجي، وانصرف من غير أن يلقى عقاباً، وإن كنا نود أن يتلقى بعض الجلدات عقاباً له على تلك السرقة. والحقيقة أن الزنوج هم وحدهم الذين كانوا لا يزالون يعتبرون ابن الطاهر سيداً عليهم، فلم يكن يرغب في أن يفسد على نفسه ذلك الوضع.
كان يوم 6 ماي يوم عيد مغربي. ففي الصباح الباكر، توجه الجنود كلهم إلى مؤخرة السفينة، وأطلقوا بعض الطلقات أمام ناظري العجوز، ثم جعلوا يقبلون رجليه تباعاً. لكن العيد لم يمنع العجوز، المتعطش للدم، أن يفتح النار على قرى التمسماني. ولقد أمضينا ليلة هادئة على تلك سواحل تلك القرى، من غير أن نتعرض منها لأي إزعاج. فكان ردنا على تلك الضيافة ذلك الرد غير الودي. ولقد فر أهل أهل تلك القرى المهددة زرافات، ومنهم من لم يكن عليه غير قميص، واختبأوا في المخانق وخلف الصخور. لقد كانت تحية محزنة في ذلك العيد لأولئك الناس. بيد أنهم لم يتجاوزوا عن تلك الصفاقة منا، فجعلوا يردون علينا بنار تزداد كثافة، لم تفلح طلقات مدافعنا «المكسيم» في إسكاتها.
لم يسبق للعجوز أن كان بهذا القدر من القتالية. ثم سرنا متئدين، بطول الساحل، ومناوشين حتى الزوال، كل ما يتراءى لنا من بشر أو قرى. وفي الأخير لزمنا أن نوقف مناوشاتنا، إذ كان التيار يبعدنا عن الساحل. وجعل البحارة والرجال يحتفلون بالعيد في غناء وضحك ورقص، لتخليد ذلك اليوم. ثم قاموا ببعض التمرينات على الرمي، لم تكن لتخطر ببال واحد منهم في الأوقات العدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.