يعتبر مفهوم " الإعتقال السياسي " من المصطلحات الملغمة في الفكر السياسي المعاصر لما له من رمزية توظف في سياقات متعددة و متغايرة و لما يشكله المصطلح من رأس مال معنوي يصعب الإقتراب منه بله النبش في جذوره أو تصحيح مفهومه وفق ضوابط الفكر السياسي العلمي الدقيق .و لئن كان مفهوم الإعتقال السياسي يتقاطع مع مجموعة من الحقول المعرفية الأخرى إلا أن أهم المجالات التداولية التي ينحصر فيها النقاش بشكل مباشر حقلي السياسة و القانون حيث يبرز فيهما حجم الجدل الذي خلقه مفهوم الإعتقال السياسي منذ قرن من الزمن على الأقل بين الأدبيات الفلسفية المتناولة له . طبعا لا يمكننا تناول موضوع شائك و معقد و مترابط مثل موضوع الإعتقال السياسي دون إستحضار فيلسوف المفهوم الذي عمل في إطار مشروع فكري متكامل حول الإعتقال السياسي لمدة طويلة جدا و هو الألماني " كريستوف فالنتين شتاينرت" صاحب الأطروحة الشهيرة و المسماة " بدراسات نظرية و تجريبية حول الإعتقال السياسي " و التي تناول فيها تعريف الإعتقال السياسي و معاييره و تحليله كممارسة للسلطة و توظيف من قبل الأغيار ما يجعل كتابات هذا الفيلسوف مرجعا كبيرا في فهم حقيقة مفهوم الإعتقال السياسي خصوصا في ظل غياب دراسات جادة تكشف حقيقة المفهوم وفق أصوله المعرفية الحقيقية . يعرف شتاينرت الإعتقال السياسي او المعتقل السياسي بأنه " الشخص الذي يدان و يسجن في محاكمة سياسية متحيزة أو قرار تنفيذي في غياب محاكمة وفق قناعته السياسية لا وفق أفعاله المرتكبة " ( الأطروحة ص 13) وواضح من خلال التعريف أن شتاينرت يركز على المحاكمة نفسها شكلا قبل مناقشة النوايا أو الإنتماء السياسي اذ إن المحاكمة السياسية تعرف بداية بشروطها الإنشائية الصورية قبل تطبيقاتها الجوهرية كأن يمنع القاضي حق الإجابة عن المعتقل أو حرمان المعتقل من حقوق الإنصات لهم و توكيل الدفاع أو كتكييف وهمي لوقائع الملف لتناسب عقوبات مشددة او غيرها من الحالات الأخرى و عموما فإن المعيار المعتمد في هذه الحالة هو معيار المحاكمة نفسها لا غيرها من الدوافع . ثم يمضي شتاينرت في في شرحه لتعريف الاعتقال السياسي عبر تشريح مصطلح المحاكمة المتحيزة إذ يعتبر شتاينرت أنه لا بد من توفر 3 شروط رئيسية في مفهوم المحاكمة المتحيزة أولها مخالفة الأساس القانوني الوطني و يعني به أن لا تستند المحاكمة الى نصوص قانونية معروفة محددة و شفافة .ثانيا إنتهاك مبادئ العدالة الإجرائية و مثاله الإعتقال دون ضمانات دفاعية أو تحيز قضائي واضح .ثالثا تجاوز الإنتهاك للحقوق الأساسية الدولية كالإنعدام الكلي للحريات المنصوص عليها في الإتفاقيات الدولية و قواعد حقوق الانسان العامة .هذه الشروط متى عدم منها شرط واحد تصبح في نظر شتاينرت محاكمة متحيزة و يمكن مقاربتها في نطاق الإعتقال السياسي و تعريفاته و تدخل في دائرة التحليل القانوني و السياسي للمفهوم إذ التركيز هنا ينصب على النظام القضائي لا الإيديولوجي و يتشعب في شموله ليشمل من يسجن بسبب هويته العرقية او الدينية او حتى الجنسية كما يؤسس نظرته التحليلية على نزاهة الإجراء ككل بدل محاكمة الأفعال و مدى مشروعيتها . قام شتاينرت في إطار حصره لتعاريف مفهوم الاعتقال السياسي بتحليل منهجي ل 366 تعريفا مقدما للمفهوم في الأدب الأكاديمي منذ سنة 1956 و توصل بعدها الى قناعة تامة بصعوبة التلبس بالمصطلح و يؤكد أنه غالبا ما يستخدم لتوظيفات أكاديمية أو سياسية و هو نا جعله يختار التعريف اعلاه لأنه الأقرب في روحه الى قواعد القانون و أصول العدالة و هو ما دافع عنه شتاينرت في كتابه الثاني " الإعتقال السياسي و تعبئة الإحتجاجات"حيث درس فيه أوجه العلاقة الممكنة بين الاعتقال و طريقته كألية لفض الاحتجاجات و تأثيراتها على المحاكمات البعدية اذ تظل في نظره المحاكمة غير عادلة اذا كانت لصالح السلطة السياسية كليا و ليس لأجل جريمة جنائية عادلة و هذا في نظرنا يزيد من امكانية ابهام مفهوم الاعتقال السياسي حيث ان الاستفادة الكلية للسلطة السياسية متعذرة اليوم في ظل الطفرة التكنولوجيا التي تفرض نوع من رقابة الرأي العام على اطوار المحاكمات و متابعات مباشرة لمجرياتها . في مقاله " من هو المعتقل السياسي " يفصل شتاينرت في شخصية المعتقل السياسي وفق مراحل متدرجة و منظمة أولها أن يكون المعتقل ذو فكر اجتماعي او سياسي منظم يدافع عنه ثانيا أن يكون عارفا بالقانون و اصوله و مطلعا على فلسفة الفكر السياسي ثالثا عالما بدقائق الفكر الذي ينتقده و لئن عاد شتاينرت في كتابه " مدة الاعتقال السياسي " الى تهذيب الشروط السابقة الا انه ظل وفيا لنسقه المركز على شخصية المعتقل و اغفال الشروط الموضوعية التي قد تكون وراء صنعه و هذا من هفوات اطروحة شتاينرت حسب اعتقادنا. يمثل الفكر السياسي مرأة عاكسة لتحولات علاقة الانسان بالسلطة .المجتمع و العدالة فمنذ فلاسفة اليونان الى منظري العقد الاجتماعي ثم مفكري الحداثة و النقد السياسي ظل هذا الفكر يسعى لفهم الأسس التي تبرر جدلية الطلب و الإستجابة او الامتناع و مراحل الصعود و النزول بين ارباب الحقوق فيما بينهم و في ظل عالم اليوم المتسم بالتعقيد تبرز الحاجة الى فكر سياسي يجمع بين المبادئ النظرية و القراءة النقدية للواقع دون الوقوع في المثالية المفرطة او الاحادية المنفرة حتى يتجدد العقد الاجتماعي وفق اسس سليمة لا افراط فيها و لا تفريط . جمال الدين اجليان