المغرب يفكك خلية كانت تحضر لتنفيذ اعمال إرهابية    باريس.. فتاح تتباحث مع الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية    اليوم العالمي لحرية الصحافة.. مطالب بالإفراج الفوري عن بوعشرين والريسوني والراضي    العجز التجاري للمغرب ينكمش 14.6% إلى 61.9 مليار درهم    بعدما أوهموهم بفرص عمل.. احتجاز شباب مغاربة في تايلاند ومطالب بتدخل عاجل لإنقاذهم    الجامعة تعلن عن موعد مباريات كأس العرش    منتخب إفريقي يفرض على الجزائر خوض تصفيات مونديال 2026 بالمغرب    أصيلة.. توقيف سيدة يشتبه في تورطها في حيازة وترويج المخدرات القوية (صور)    وزارة الصحة ترصد 13 إصابة بفيروس كورونا خلال أسبوع    سعر الذهب يواصل الانخفاض للأسبوع الثاني على التوالي    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا للشهر الثاني على التوالي    المضيق تحتضن الدورة الثالثة لترياثلون تامودا باي بمشاركة مختلف الجنسيات    بعد إلغاء موريتانيا الزيادة في رسومها الجمركية.. أسعار الخضر والفواكه مرشحة للارتفاع    الوزير آيت الطالب يعطي انطلاقة خدمات 14 مركزا للرعاية الصحية الأولية بجهة فاس مكناس (صور)    بدعم من السفارة الهولندية.. مندوبية السجون تجدد الشراكة مع جمعية "TIBU AFRICA" (صور)    بنموسى: إصلاح المنظومة التربوية الوطنية ورش استراتيجي يتطلب انخراط جميع الفاعلين    منيب تنعي النويضي: "رغم تقلده مناصب مهمة خلال عهد اليوسفي إلا أنه ظل مناضلا حقوقيا"    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    بركة يعلن عن خارطة طريق للبنيات التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030    جدول مواعيد مباريات المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الاسلامي يعلن ترشح رئيسه للانتخابات الرئاسية في موريتانيا    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    مراسلون بلا حدود عن 2024.. ضغوط سياسية على الاعلام والشرق الأوسط "الأخطر"    مندوبية التخطيط: ارتفاع معدل البطالة إلى 13,7 بالمائة خلال الفصل الأول من 2024    ملف "اليملاحي".. "جرائم الأموال" بالرباط تقضي بعدم الاختصاص وتعيده إلى ابتدائية تطوان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية بولندا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في الذكرى 42 لتأسيسها.. الإيسيسكو تواصل النهوض برسالتها الحضارية وتلبية تطلعات دولها الأعضاء بمجالات اختصاصها    موزمبيق.. انسحاب قوات مجموعة تنمية افريقيا الجنوبية يفتح الطريق أمام حالة من عدم اليقين    المكتب المركزي للأبحاث القضائية يعلن تفكيك خلية إرهابية من 5 عناصر    عدلي يشيد بتألق "ليفركوزن" في روما    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    الكعبي يسجل "هاتريك" ويقود أولمبياكوس للفوز أمام أستون فيلا في دوري المؤتمر الأوروبي    احتجاجات أمام القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء تضامنا مع طلاب الجامعات الداعمين لغزة    شمس الضحى أطاع الله الفني والإنساني في مسارها التشكيلي    إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم    بنك المغرب…66 في المائة من أرباب المقاولات الصناعية المغاربة يعتبرون الولوج إلى التمويل "عاديا"    غامبيا.. بوريطة يتباحث مع نظيره الغابوني    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرة مؤرخ للمغرب في عهد الحسن الثاني .. لقاء- مناقشة مع عبد الله العروي -الجزء الأول
نشر في السند يوم 15 - 10 - 2010

«عبد الله العروي هو، وفق التعبير الجاري، مفكر غني عن التعريف، كما تدل على ذلك غزارة وتنوع إنتاجه، واتساق و عمق أطروحاته الفكرية، وكثرة ما كتب عنه (...).«لقد اغتنمنا فرصة صدور كتابه الأخير «المغرب والحسن الثاني»، وإتمام عملية نشر مذكراته «خواطر الصباح» لنسعى إلى ملاقاته في حوار مناقشة أردناه منصبا على الجوانب العملية. إذ حاولنا من خلال أسئلتنا أن نعرف بعض عناصر قراءة عبد الله العروي للتاريخ المغربي الراهن (1956 - 1999)، وكيف تلمس شخصيا، كمفكر وكمثقف وفاعل سياسي ملتزم، طريقه في متاهات زمن سياسي طبعته من بين ما طبعه المواجهات الدرامية والفرص الضائعة.
«قراءة عبد الله العروي لعهد الحسن الثاني وللتجربة السياسية المغربية المعاصرة بصفة عامة، تتميز، على غرار إنتاجه النظري، باستحضار متواصل للوقائع في تعقدها وتداخلها، مما يجعلها في قطيعة تامة مع النظرة المانوية والدوغمائية الإيديولوجية. فقد شدت انتباهنا في حديث العروي عن التاريخ والسياسة وموقعه الذاتي ك «متفرج ملتزم» (عبارة وصف بها آنفا المفكر الفرنسي ريمون آرون)، عناصر ثلاثة:«- قراءة إرادوية للتاريخ كمسار منفتح يتحدد بأفكار واختيارات وأفعال البشر، وذلك بعيدا عن كل قدرية عمياء أو تأويل كلياني للتاريخ.«- إصرار على إعمال العقل في وصف ومقارنة وتأويل الوقائع والأحداث، باعتباره الأداة المتوفرة للبشر لتنظيم وتأويل معيشهم. وهذه العقلانية النشطة باستمرار تجعل قراءة العروي للسياسة عكس السائد في الحقل العربي أبعد ما تكون عن المقولات الأخفاقية (الخير والشر).«- ويتمخض عن العنصر السابق انحياز عميق للواقعية في الفكر والفعل السياسيين، وذلك ضد الطوباوية والرومانسية التي تؤثث الخطاب السياسي في المجال العربي ».بهذه الفقرات الدالة افتتحت مجلة «مقدمات» عددها الصادر في صيف 2006، والذي تضمن ملفا عن فكر عبد الله العروي، وخاصة حوارا/نقاشا مطولا معه أجراه باحثون من هيئة تحرير المجلة في 25 نونبر 2005.تعميما للفائدة، ونظرا لأهمية الحوار، نقدم ترجمته كاملة لقرائنا.
محمد الصغير جنجار:
نقترح أن يتمحور النقاش بين اعضاء هيئة تحرير «مقدمات» وذ. عبد الله العروي حول الكتب الأربع الأخيرة التي نشرها ضيفنا خلال السنوات الخمسة الأخيرة. تتضمن هذه النصوص نوعا من الوحدة الموضوعاتية، ذلك أن موضوعها هو التاريخ الحديث للمغرب ( 1956 - 1999 )، ويتعلق الأمر بالأجزاء الثلاث من «خواطر الصباح» المنشورة بين 2001 و 2003، والكتاب الأخير الموسوم ب «المغرب والحسن الثاني» الصادر في 2005. جاء المؤلف الأول على شكل مذكرات سجل ضمنها الكاتب، يوما بعد يوم، ملاحظاته وانطباعاته وتحليلاته المتولدة عن بعض الأحداث التي أثرت فيه والتي حصلت بين 1967 و 1999 . ويمكن القول إن المؤلف جمع في هذه المذكرات المواد التي سيحللها لاحقا ضمن كتابه الأخير.هكذا، فخواطر الصباح تشبه كراسات ملاحظات الأنثروبولوجيين أو التخطيطات الأولية للرسامين. ولذا فهذه المذكرات ضرورية بالنسبة لمن يريد قراءة «المغرب والحسن الثاني».غني عن البيان أن هذا الكتاب الأخير كان منتظرا بتهلف، خاصة بعد نشر خبر صدوره في الصحافة. كان البعض ينتظر أن يضمنه عبد الله العروي معلومات مثيرة، وأن يكشف بين طياته بعض أسرار حكم الحسن الثاني، وهو تمرين عودتنا عليه عناوين صحفية وطنية وأجنيبة معينة منذ 1999.الكتاب، في الواقع، نص تحليلي وتأملي يوظف المنظومة النظرية والأدوات التاريخية التي لم يتوقف المؤلف عن تطويرها منذ «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (1967 ). ونظرا لكونه كذلك، فإن الكتاب خيب ظن الذين كانوا ينتظرون قراءة معلومات غير معروفة مدوية في صفحاته. وبالمقابل، اكتشف هؤلاء نصا جديدا في تركيبه (شهادة)، لكنه نص يتضمن العديد من عناصر الاستمرارية مع فكر تطور خلال مدة تفوق أربع عشريات.طلبنا من ذ. عبد الله العروي النقاش مع ثلاثة باحثين، هم أعضاء في هيئة تحرير «مقدمات»، قرأوا مؤلفاته وسيحاولون عبر تساؤلاتهم وتأملاتهم، دعوته إلى تبيان فكر تميز، في الحقل الفكري العربي، بقوته النظرية و استمراريته وعمق تحليلاته لإشكالية الحداثة والتحديث والتأخر النظري للمجتمع المغربي.
الحسن الثاني، الوطنية والديموقراطية
حسن رشيق:
«المغرب والحسن الثاني» كتاب مكثف وغني بالمعلومات، الوثائق، التقييمات والشهادات. إنه يتضمن بورتريهات لفاعلين بصموا التاريخ السياسي الوطني، وأنا أتحدث هنا عن بورتريهات الحسن الثاني، بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، رضى اكديرة، وكذلك بورتريه علال الفاسي ولو بدرجة أقل. المؤلف ثري لدرجة تمنح القارئ سبلا عديدة لمقاربة مضمونه، وسأركز، من جانبي، على سبيلين اثنين: الأول يتعلق بالفاعلين والثاني بالكاتب نفسه.سؤالي الأول هو التالي: ما المضمون الذي يمكن أن نعطيه للوطنية في مراحل ما قبل، أثناء وما بعد الحماية؟ بالطبع، لا يمكننا مناقشة شهادة على أساس كونها تحليلا ، او على أساس كونها إيديولوجية سياسية، ومع ذلك، سأتصرف كما لو أن عبد الله العروي يصوغ بعض التعريفات حول الوطنية، رغم أن هذا ليس بالضبط الموضوع المباشر للكتاب.لماذا نزع الحظوة عن وضع الحسن الثاني كزعيم للوطنية؟ لماذا عدم إضفاء صفة وطني عليه، على غرار الآخرين، بالنسبة للمرحلة التي تمتد إلى 1974، مع بصم وطنيته بكونها مختلفة عن وطنية الآخرين بالطبع؟ تقول إن الحسن الثاني كان، إبان مروره بفلورانسا وهو ولي العرش، كان منذ ذاك رئيسا للحزب المناهض للوطنية؟يجد هذا السؤال سنده في سببين اثنين. السبب الأول ذو طبيعة نظرية: يمكن للوطنية أن تتوافق مع الاستبداد، ذلك أنه لا يوجد، تاريخيا، تناقض بين أن يكون الإنسان وطنيا وعنصريا، ويكفي لتحقق هذا أن يمنح الولاء الأسمى للوطن.ويمكن للإيديولوجيا أساس هذه الوطنية أن تكون التياسر، الشعبوية، الخ، كما تقول ذلك في كتابك. إن شكلا من أشكال الوطنية ينبعث عن المضمون الذي تضفيه على التقليد وإحياء التقليد لدى الحسن الثاني. لقد كان بهذا المعنى، وطنيا حيث فشلت الحركة الوطنية التاريخية، الكتلة والآخرون.إذا ما رجعنا إلى الإنتاج العالم للحركة الوطنية الذي وصلنا على شكل كتب أو صحف مكتوبة، على سبيل المثال، فسنلاحظ أن أسس هذه الحركة كانت اللغة العربية، القومية العربية والإسلام. وقد تمت تعبئة الجماهير حول هذه الأسس وحول الانتماء للمغرب: «عاش المغرب». لم يكن الانتماء للمغرب يترجم عبر الكتابات، بل عبر المظاهرات والشعارات والملبس وعيد العرش، عبر الاحتفالات... لقد وضع أول عيد للعرش، مثلا، حدا فاصلا بين من هم مسلمون ومن هم عرب. لأول مرة أحتفل المغاربة بعيد بشكل مستقل، ليس بوصفهم مسلمين أو عربا، لكن بصفتهم مغاربة.
أصل الآن إلى سؤالي الثاني. ونحن نقرأك، نشعر أن الوطنية متعارضة مع كل ما هو خصوصي وكل ما هو تقليدي. أو بصيغة أخرى أنه لا يمكن للوطنية أن تتوافق لا مع التقليدانية وإعادة خلق التقليد، ولا مع القبلية والخصوصية والانتماء الأمازيغي، الخ. ونشعر أيضا أن هذا الموقف يتمفصل مع فكرة استحالة أن يكون مستبد وطنيا، وأنه كان يجب انتظار سنة 1974 ليصبح الحسن الثاني كذلك، وأنه لم يكن بإمكانه أن يصبح وطنيا إلا عبر اعتناق أطروحات الكتلة. بالفعل، لقد حصل تقارب في وجهات النظر بين الطرفين، لكنه تقارب بين أسلوبين لممارسة الوطنية. فعل الحسن الثاني ذلك بشكل مضمر، فطري، وربما يكون أحمد العلوي هو من وضح أكثر هذا النزوع أفضل من غيره. لماذا إذن تم قبول وطنية مستندة على «الشرع» من قبيل وطنية الحركة الوطنية الممثلة في الكتلة، وخاصة وطنية حزب الاستقلال، وفي نفس الوقت رفض الوطنية القائمة على التقليد نظرا لاعتبار أنها ليست وطنية؟ ومع هذا، فنحن نعلم أن الوطنية في العديد من الدول الأوربية قامت أولا على الثقافة، الحكايات واللهجات الشعبية. لقد شكل المحلي مصدرا للوطنية المغربية، والثقافة الشعبية حاضرة في هذه الوطنية.عبد الله العروي:لقد خصصت أطروحتي لدكتوراه الدولة للوطنية المغربية واستمر اهتمامي بالموضوع منذ ذاك. لقد قارنت إيديولوجيا الحسن الثاني التي وسمتها بالملكية، مع إيديولوجيا الوطنية كحزب وليس بوصفها مرادفة لمحبة للوطن. يمكن للمرء أن يكون محبا لوطنه دون أن يكون وطنيا. الوطنية، كما تطورت في المغرب في القرن التاسع عشر، تبدو جوهريا أنها من خلق الطبقة الكهنوتية بمكونيها الاثنين: طبقة العلماء «المستقلين»، أي الذين لم يكن ينفق عليهم المخزن، والآخرين، الكتاب، الذين كانوا موظفين لدى هذا المخزن. مما جعلني أعتقد، خلافا لما اعتقده بعض الباحثين ولما صرح به الوطنيون أنفسهم في حقبة معينة، أعتقد أنه لم تحدث قطيعة إبان قيام الحماية. إن من استلم المشعل هم سليلو هذه الطبقة الكهنوتية التي حاولت عصرنة البلاد، بتوافق مع العائلة العلوية الحاكمة خلال القرن التاسع عشر، والتي لم تنجح في مسعاها هذا. وهؤلاء هم من قالوا إبان الحصول على الاستقلال: المغرب الجديد من صنعنا.والحال أن المنظرين الإيديولوجيين للحماية قاموا بتحليل مغاير لتاريخ المغرب. لقد كانوا يؤكدون على وجود مغربين: مغرب ناطق بالعربية وآخر بالأمازيغية، كما تمحورت سياستهم برمتها على الحفاظ عن هذه الازدواجية راسخة. مما أدى إلى أن الحركة الوطنية مجبرة، بقوة الواقع، على أن تظل أقلية، وذلك كيفما كانت شرعيتها التاريخية من جهة أخرى. نحن لا نتوفر على الإحصائيات، ورغم ذلك، وبما أن السكان الحضريين كانوا يمثلون بين 15% و 20% من مجموع السكان في 1955، وحتى لو أضفنا سكان المناطق القروية، فبإمكاننا التأكيد على أن الوطنيين، الموسومين كذلك على غرار الشيوعيين في البلدان الغربية، لم يكن باستطاعتهم أن يتجاوزوا ربع المغاربة. هكذا إذن، يتوفر لدينا تصوران اثنان: واحد سياسي والثاني سوسيولوجي. من يمثل البلاد سياسيا ومن يمثلها سوسيولوجيا؟ هذا هو النقاش الذي تواجهت عبره الوطنية كحزب مع الحسن الثاني. جوابا عن كل الذين كانوا يؤكدون عاليا وجهوريا: إننا نتكلم باسم جميع المغاربة، كان الحسن الثاني يرد: أنتم لا تمثلونهم جميعا لا سوسيولوجيا ولا تاريخيا. كان يعتقد أن المناطق القروية، بلاد السيبة في لغة المخزن والحماية، منغلقة في وجه الإيديولوجيا الوطنية. وفضلا عن ذلك، فقد كان متأثرا ثقافيا بإيديولوجيا لليمين الفرنسي مفادها أن الوطنيين جمهوريون بالقوة، يستمدون مشروعيتهم من الشعب وليس من التاريخ. وبصيغة أخرى، فإنه، بالنسبة للوطنيين، إذا كان هناك ملك، فلا يمكنه أن يكون سوى ملك المغاربة، وليس ملك المغرب. هكذا، ففي 1958، حين أسس الخطيب وأحرضان الحركة الشعبية وأعلنا نفسهما ناطقين باسم الأغلبية الصامتة، فإنها دعما تحليل الحسن الثاني الذي كان حينها ولي العهد فحسب.وأنا أتناول كل هذه القضايا، فرض علي توضيح أنه كان ثمة معسكران، وأن الحسن الثاني، بفعل المصلحة السياسية والمعتقد الإيديولوجي، اختار خندقه، وذلك عبر احتضان ما أسميه المغرب الفولكلوري: الرزة، الجلباب، الفروسية، الخ.بعدها، انضافت، إلى هذه الخصومة حول الشرعية التاريخية، مشكلة أكثر جدية وذلك أثناء صياغة الدستور. الحسن الثاني دافع بقوة عن الخصوصية المغربية، وعارض صراحة النزعة القومية العربية لدى اليسار، كما عارض بشكل أقل جلاء الإيديولوجية المالكية التقليدية لعلال الفاسي. هذا الأخير كان يريد، في أعماقه، تحويل النظام الملكي المغربي إلى خلافة أو إمامة شرعية. وهو ما رفضه الحسن الثاني، لأن ذلك كان سيقلص من اختصاصاته ويخلق مشاكل مستعصية مع الخارج. مثلما كان يرفض الديماغوجيا الشعبوية.حين أقول هذا، فأنا أعطي للحسن الثاني بعد منظر سياسي، ملكي، متشبث بالشرعية ومناهض للوطنية التي لا يمكنها أن تكون، من وجهة نظره، إلا كليانية ويعقوبية، أي معادية للاختلافات الجهوية. وهي الاختلافات التي بذل الحسن الثاني كل ما في وسعه لكي لا تتلاشى. وإذ يُذكر الدستور أن للملك صيانة حقوق و حريات المواطنين و الجماعات، فإن هذا يشكل البصمة المميزة للمحافظة الليبرالية الأوربية، تلك التي تعتقد أنها هزمت الفكر الثوري في القرن التاسع عشر والشيوعية في القرن العشرين.- محمد العيادي:هناك إشارتان في كتابك تولدان التساؤل بالنسبة لمسألة الوطنية. أولا، تتحدث عن الحسن الثاني وقد تحول إلى زعيم يجادل الوطنيين، وتضيف أن هذا أثر على مفهوم الهيبة مما أدى إلى الانقلابين العسكريين. ثانيا، حين تشير إلى اختيار المساعدين، فإنك تتحدث على إفقاد الأفراد الجنسية، وإعادتهم للجماعات.- عبد الله العروي:لنحدد أولا مفهوم الزعيم: إنه القائد الذي يصل الحكم عن طريق انقلاب عسكري. انطلق الأمر في سوريا، ثم استمر بالتتابع في مصر، العراق، الجزائر، الخ. ولكي يصبح هذا القائد شعبيا، فإنه يتسلح بالديماغوجيا. الأمر يتعلق إذن بأسلوب في العمل السياسي، يبدأ بشكل لا واعي قبل أن يصبح مُقعّدا أكثر فأكثر في خطابات طويلة بل وكتب كذلك. في مرحلة معينة، تأثر الحسن الثاني بلا ريب بهذا الأسلوب. كان عليه أن يجد مساعدين لحكم البلاد. أين سيعثر عليهم؟ لقد كان عددهم جد محدود في الأحزاب، مما ولد شكلا جديدا من المنافسة مع الوطنيين.إذا توفر لجهة حظ إنتاج شخص مقتدر، فإنه كان يتم اختياره ليصبح، بقوة الواقع وسواء سعى إلى ذلك أم لا، ممثل مصالح جهته لدى السلطة المركزية. وعلاقة بهذه الظاهرة، التي عرفناها جيدا والتي يمكن للذين عاشوا هذه الفترة أن يقدموا أسماء مرتبطة بها، فإنني استعملت صيغة إفقاد الجنسية. كان الفرد، بعد تأميمه داخل الحزب، يعود مجددا إلى أصوله طوعا أو كرها. أما المجادلة، فهي تقلص دائما من قيمة كل من يتعاطاها بطيبة خاطر.- محمد العيادي:وماذا عن الإشكالية الجوهرية المتعلقة بالتناقض بين الوطنية والديمقراطية الجديدة؟- عبد الله العروي:في أيامنا هذه، وحتى في بلدان مثل الولايات المتحدة أو فرنسا، انطلقت التساؤلات حول العلاقات بين الجمهورية والديمقراطية. ويوجد مفهوم الدولة الوطنية في قلب هذه الإشكالية بالطبع. إذا ما استندنا إلى أرسطو، فإننا نلاحظ منحى الديمقراطية للتحول إلى ديماغوجيا. و هي تجد، اليوم، أفضل تعبير لها في إيديولوجيا حقوق الإنسان، الإيديولوجيا التي تدعو، كيفما كانت النتائج، إلى الدفاع عن حقوق الفرد في كل مكان ودائما، حتى حين يشكل ذلك مسا واضحا بمصالح الأمة والدولة. بينما من البديهي أنه يجب، من وجهة نظر الوطنية، التوقف عند حد معين، وأنه لا يمكن الذهاب إلى آخر حد في المنطق الديمقراطي. إننا ننسى وجود مذهب للحقوق المطلقة للفرد، مذهب معروف وجدير بالاحترام هو الفوضوية التي تطالب، بكل منطقية، بالتلاشي التدريجي للدولة. وإذا لم نذهب إلى هذا الحد، فإننا نقع في مآزق ونضطر للبحث على توافقات.أعتقد جازما أنه من المستحيل تحديث بلد دون اعتماد النظام الديمقراطي. وحيث لا تتوفر شروط ذلك، فمن واجب القادة فعل كل شيء، بلا مماطلة، لخلق هذه الشروط، لأنه بدون ديمقراطية لا توجد مسؤولية سياسية. ومن جهة أخرى، كيف نحكم راهنا بلدا يسود فيه الفقر والأمية والزبونية؟ إنها مسألة تقدير، وليس من البديهي أنه بالاستطاعة القيام بالاختيار ذاته في كل مكان.التقليد والثقافة السياسية- محمد الطوزي:«المغرب والحسن الثاني» مصدر ثري للمعلومات، شهادة رجل عاش عددا من الأحداث والأشياء. انطلاقا من هنا، يمكن أن نطرح عليك سؤالا لمعرفة الشروط التي أنجزت في رحمها تسلسل الأحداث. التسلسل يحيطنا علما بوضع الحدث لنقرأه ونفك شفرته. وبصيغة أخرى، نحن في حضرة كرونولوجيا لشيء ما يخترق المؤلف، أي بناء الدولة. ومع ذلك، من الواجب أن أسجل كون غياب بعض الأحداث من كرونولوجيتك، وهي أحداث ليست مهمة بالنسبة لك ربما، لكنها قد تكون كذلك بالنسبة لآخرين. أشير هنا إلى المحاكمات المختلفة والمتكررة. وبصفة شمولية، ما هو إذن الحدث الذي درسته بالنسبة لهذه الحقبة؟- عبد الله العروي:ربما هولت الوقائع وأنا أجعل من حكم الحسن الثاني مواجهة دائمة بينه وبين الخندق الوطني، مع حضور شاهد يشرح بين الفينة والأخرى لماذا يقول ما يقوله. لنذكر، مع ذلك، بأن الحسن الثاني لم يكن يكل ولا يمل من ترديد أنه عضو في عائلة المقاومين، وذلك خطابا إثر خطاب، وأن له الحق في انتقاد الأخطاء السياسية لرفاقه في السلاح. وفي رأيه، فالمحاوران الوحيدان الجديران بأن يتناقش معهما كانا علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، ذلك أن بن بركة عرف المصير المعلوم لدى الجميع. وكان يرد عليهما إما مباشرة وإما بواسطة أحمد العلوي. لم أخطئ تماما لما قدمت الأحداث كما فعلت. هل جعلت منه منظرا بالرغم منه؟ لقد حُكم المغاربة من طرف الحسن الثاني طوال 39 سنة، فهل سيكونون سعداء لو قيل لهم إنهم رُوضوا من قبل رجل بلا قدرات كبيرة؟- حسن رشيق:لنعد إلى سؤال الثقافة السياسية، ثمة طريقتان لتعظيم الأولياء، الأبطال، الملوك، الخ. تعتقد أنه كان يجب إقامة جنازة الحسن الثاني على أساس كونه بطلا وليس وليا. وتقول، وهذا صحيح، إننا لو كنا خضعنا لحماية ألمانية أو بريطانية، لعرفت جنازة الحسن الثاني مراسم عسكرية. قلت إن الأحزاب السياسية الوطنية كانت قليلة الإبداع لما طرحت عليها معالجة الذاكرة والمراسم.- عبد الله العروي:أصر على القول إن المثقف المغربي ينقصه الخيال.- حسن رشيق:كباحث أنثروبولوجي، أؤكد على وجود مئات التخصصات الثقافية... هناك ثقافة سياسية تنسى الشخص، التاريخ، تنسى الحدث بمجرد وقوعه. والحال أننا، حين نتكلم عن الديمقراطية، عن الوطنيين، الخ، فإننا نمتح من تراكم للذاكرات. لكنه ليس لدينا متحف تذكاري، في الدار البيضاء مثلا، كل ما نتوفر عليه يتمثل في أسماء شوارع مكرسة لبعض الوطنيين.ولذا، فإن الثقافة الوطنية، ثقافة تكون ديمقراطية في الآن نفسه، تستحق علاقة مغايرة مع الماضي غير إعادة إحياء الطابع التقليدي. ليس هناك علاقة ديمقراطية «تقدمية» أخرى مع الماضي. كيف ترى علاقة مغايرة لا تكون تقليدية مع الماضي، العلاقة مع الأولياء، الأبطال والأحداث، الخ. - عبد الله العروي:يجب التذكير أننا كنا، إبان الحدث، نتوفر على حكومة تستحق هذا الاسم ورئيس حكومة كان يؤدي فعلا هذه المهمة. كان لدينا أمل في المضي نحو الإعمال التدريجي للدستور. وكان لزاما أن يدفع هذا الأفق المسؤولين، وفي مقدمتهم الحسن الثاني، إلى استشراف المستقبل. لكن روح الروتين منعتهم، حسب رأيي، من ذلك، وخاصة جدار التطير. لقد كان الحسن الثاني متطيرا على غرار كل المغاربة. ارجعوا إلى ما كتبته في هذا الصدد في «خواطر الصباح». ليس ثمة ما هو أكثر حزنا، أكثر إثارة للإحباط النفسي، من جنازات المسلمين. ذلك أن علاقتنا مع الموت شبه حيوانية، ومن ثمة، فمن العسير توضيحها والتفكير فيها، ثم تغييرها عقب ذلك. الطقس مثبت منذ قرون تحت عنوان «أدب الموت» في كتب التقاليد، وله دلالة قانونية، اجتماعية وأخلاقية كبيرة لدرجة لا يمكن معها لأي أحد التجرؤ على التفكير في إدخال أدنى تغيير عليه. يمكن تفهم هذا الأمر على المستوى الشخصي، لكنه يمتلك، للأسف، تأثيرا
على مستوى العقل العمومي. رئيس دولة ليس شيخ زاوية، ليس رب عائلة. ويجب التعامل معه على هذا الأساس (رئاسة الدولة)، لكننا نصدم في هذا المجال بالشعور المساواتي للمسلمين الذين يعتبرون الموت أكبر محقق للمساواة. لقد بقينا فعلا، بالنسبة لهذه النقطة، خارج سلطة روما التي كانت تضع نصب أعينها ترسيخ معنى الدولة لدى مواطنيها، فتنظم، من أجل بلوغ هدفها، بشكل فخيم تربع قادتها على العرش وجنازاتهم في نفس الآن، بل إنها كانت تذهب إلى حد تأليههم. وبالطبع، فالإسلام قد قام، منذ بدايته، ضد هذا الإفراط. لكنه مضى، بدون شك، أكثر من اللازم في الاتجاه المعاكس حيث نلاحظ، طوال تاريخنا، أن هذا أضعف معنى الدولة. وبما أننا غير مشاركين في هذا التقليد الروماني، فإن الجلوس على العرش والجنازة يتمان عندنا بارتجال، مما يفاجئ كثيرا ضيوفنا المنتمين لثقافات أخرى ويجعلهم يصفوننا بعدم النضج سياسيا. نحن لا ندفن أبدا الملك، بل أبانا جميعا. هذا أمر لطيف، هذا إنساني، إنساني أكثر من اللازم، والجميع يتذكر المثل القائل «ابن أو علي، سير أو خلي». في ظل هذه الشروط، كيف نرسخ إذن في العقول طموح بناء دولة قوية، غير مشخصنة، شيء غير ملموس لكنه منذور للبقاء؟ الحسن الثاني كان هو الوحيد القادر على فهم هذا الانشغال، لأنه ظل يحمل هم تشييد دولة تستحق صفتها هذه بجدارة، لكنه لم يكن ليتجرأ يوما على مس التقليد بسبب تطيره. ربما كان عقله سيقول نعم، لكن قلبه كان سيقول لا بكل تأكيد. هو ذا الحد الذي وصلنا إليه.- محمد الصغير جنجار:تقول إن الحسن الثاني كان يشعر بنوع من الحصر كلما تعلق الأمر بالقضايا الدينية. وهناك مثال تسوقه في هذا الإطار: كان يريد إصلاح التعليم، لكن طرح سؤال الدين في المدرسة كان يولد الانحصار في كل المستويات.- عبد الله العروي:مرة أخرى، هذه حالة جميع المغاربة. إنهم لا يتكلمون سوى على الدين، لكنهم لا يتحدثون عنه أبدا بروح نقدية أو ساخرة، بمعنى أنهم يخضعون له، لكن دون أن يشعروا به فعليا.الدستور، إمارة المؤمنين وانتقال العرش- محمد العيادي:
أشرت إلى المنافسة بين الوطنيين والحسن الثاني، الذي صار زعيما، وبسطت أطروحة علال الفاسي الذي كان يريد تحويل الملكية إلى خلافة، كما حددتها، وقيامها مكان الدولة. أربط هذا بتقييمك لدستور 62، وهو دستور تسمونه بالعلمانية، لكن شهودا مباشرين يؤكدون أن صيغته الأولى لم تكن تتضمن أي إشارة إلى إمارة المؤمنين. كيف تفسر إدراج هذا الفصل حول إمارة المؤمنين؟ كيف حدث الانزياح عن المنطق العلماني أو مسلسل العلمنة الذي كانت تشارك فيه الدولة والأحزاب السياسية قبل 65؟ وكيف يمكن أن نقارب مفهوم الإمامة في علاقته مع مسلسل إحياء التقليد الذي انتشر بعد 65؟ يبدو لي أنها أسئلة تستحق توضيحات أكثر.النقطة الثانية: تقول إن الحسن الثاني كان وحده المؤهل لتغيير مراسم الجنازة، وأن هذا كان يجب أن ينجز من أجل نجاح انتقال العرش. تقول إنه كان بالإمكان انتقال العرش وتقديم البيعة وفق سيناريو آخر يمر عبر عمل الوزير الأول والبرلمان، وتضيف أن الحسن الثاني هو الوحيد الذي كان بإمكانه الإقدام على هذا التغيير.ألم يكن هذا سيشكل قطيعة مهمة في تاريخ السياسة المغربية؟- عبد الله العروي:أذكر أولا أن الحسن الثاني لم يكن يعير كثير أهمية لمنطوق الدستور في حد ذاته. لقد كان متيقنا أنه سيوظفه لصالحه في جميع الأحوال. ما يجب أن يهمنا إذن هو الممارسة السياسية. إذا طرحتم علي أسئلة تتعلق بالعقيدة، فسأجيبكم بأن مواقفي في هذا الصدد معبر عنها، في نفس الوقت، في الاستشهادات التي تفتتح فصول الكتاب وفي الملاحق الخاصة بالخصوصيات المغربية. لقد تحدثت ضمنها طويلا عن الإمامة وإمارة المؤمنين.في القرن التاسع عشر، كان الحسن الأول يقيم تمييزا بين الشؤون المندرجة ضمن اختصاصات المخزن (الشؤون المخزنية) وتلك المتعلقة بالشرع. وكان واضحا للجميع أن الأمر يتعلق بمجالين مختلفين، وهو ما نتج عنه الفصل الوظيفي بين الكتاب والعلماء، حيث لم يكونوا يخضعون لنفس التكوين، ولم يكن لهم نفس الفكر، مثلما لم تكن علاقات السلطان مع الهرمين الوظيفيين متماثلة.بعدها جاء الفرنسيون الذين عانوا الأمرين لتنظيم الحقل الديني في الجزائر، لدرجة أنهم لم يقروا مدونة الأسرة الخاصة بالمسلمين إلا قبيل الحرب العالمية الأولى، وهذا معطى كثيرا ما يتم إهماله.ازدواجية السلطة التي وجدها الفرنسيون بالمغرب سهلت مأموريتهم. لقد بسطوا سيطرتهم كاملة على المخزن، أي الحكومة الدنيوية، بينما بقي السلطان الشريف يمارس دوره كرئيس لهرم العلماء التراتبي. لم تكن التسمية تهمهم (سلطان، إمام، خليفة، أمير المؤمنين)، فالسلطان بالنسبة لهم زعيم ديني، وهو ليس ملكا بالمعنى الغربي. وهذا هو الرأي الذي سعوا إلى مأسسته في 1955 بتعيينهم لبن عرفة سلطانا بمباركة حلفائهما، الگلاوي والكتاني.مع الاستقلال، لم ينتبه الوطنيون إطلاقا لكون المسألة مستعجلة. وتم نقاشها في أوساط رجال الدين. اللقب لم يكن مهما بالنسبة للفرنسيين، لكنه كان كذلك بالنسبة للعلماء. ومحمد الخامس لم يعد سلطانا، بل صار ملكا، فهل هو أيضا، أو في نفس الوقت، خليفة، إمام، أمير المؤمنين، أمير المسلمين؟ وهو النقاش الذي حصل بين مختلف التيارات التقليدانية أو السلفية. الحسن الثاني، على غرار الوطنيين، لم يعر الموضوع كثير اهتمام حينها. لكنه استوعب أهميته شيئا فشيئا، وفي جميع الأحوال، فإنه فعل هذا أسرع من منافسيه. وحسب تحليلي، فإن الحسن الثاني، إذا كان قد قبل في نهاية المطاف حل إمارة المؤمنين المقترح رغم الإشكاليات الدينية التي يطرحها، فإنه أقدم على ذلك لوقف زيغان آخر كانت تمثله الخلافة المساندة من طرف علال الفاسي وعبد الله گنون، وهو المقترح الذي كان سيخلق مصاعب مستعصية الحل داخليا وخارجيا.هل كان الوطنيون سيستفيدون من هذا النقاش لو أتيحت لهم فرصة المشاركة فيه؟ أعتقد ذلك. كان بإمكانهم التذكير بازدواجية السلطة في المغرب التقليدي وفي مغرب الحماية، وجعل هذا أساسا لانطلاق علمنة واقعية.إن الموضوع صعب، ويستلزم توضيحات أكثر. ومع ذلك، لا يمكننا مؤاخذة وطنيي تلك الحقبة على عدم الاهتمام به، ذلك أننا نحن كذلك لا نتوفر على نظرة جلية حوله اليوم. يستشهد بعض الإسلاميين بابن حزم أو ابن تيمية، ويقولون إن العاهل الشرعي الوحيد هو أمير المؤمنين وإنه يجب توحيد السلطتين المدنية والدينية، المخزنية والشرعية، وذلك في قطيعة تامة مع التقاليد المغربية. وهم يغضون الطرف على كون الأول صاغ نظريته والأندلس على وشك التلاشي لأنها عجزت عن بناء دولة عقلانية مستقرة. أما الثاني، ابن تيمية، فقد أنشأ آلة حربية ضد التركمان الذين طردوا العرب من السلطة ولم يعترفوا لهم إلا بحظوة رمزية. المنظران معا لم يفعلا سوى القيام برد فعل حيال أزمة تدوم منذ قرون. فكيف نقدم ما شكل أصل الأزمة على أساس كونه حلا لها؟ ومع ذلك، فهذا ما يقوم به الناس الذين لا يمتلكون أي حس تاريخي، أية معرفة بالتسلسل الفعلي للأحداث.- محمد العيادي:سيناريو انتقال العرش!- عبد الله العروي:قضية انتقال العرش جد مهمة. وحولها اندلعت أول أزمة كبرى في الإسلام. وحول هذا الموضوع بالضبط، كان الحسن الثاني متشبعا بالشرعية بمعناها لدى الملكيات الغربية. ولذا، فرض انتقال العرش إلى الولد الأكبر سنا، وفعل هذا دون أن يعترض العلماء.- محمد العيادي:في الواقع، كنت أعني أساسا انتقال العرش في 1999 حين أثرت الموضوع، وفاة الحسن الثاني وتربع ابنه محمد السادس على العرش ودور البرلمان.- عبد الله العروي:من أجل فهم نمط تفكير الحسن الثاني، يجب الاهتمام بالجانب الآخر من تكوينه، الجانب التقليدي. ويتعلق الأمر بالعائلة، العلاقة مع الأم، آداب المعاشرة، الخ. وهنا نكون أمام مستوى شعوري أعمق من مستوى التحليل السياسي. نظريا، كان من الممكن إدخال عناصر تجديدية اعتمادا على الدستور. وعلى كل حال، فالملكية معرفة بكونها شعبية واجتماعية، وهكذا فإنه كان يكفي توسيع معنى الكلمات. بدل أن يضمن انتقال العرش عبر بيعة الأسرة، الحكومة ومجموعات مختلفة مثلما ظل هذا يحصل باستمرار، يمكن أن يتم ذلك من طرف الشعب ممثلا بالبرلمان. لقد مات الملك، لكن الدولة مستمرة. فمن يمثل هذه الاستمرارية خلال برهة وجيزة من الزمن؟ إنه الوزير الأول وهو يقف أمام ممثلي الشعب المجتمعين. مات الملك، عاش الملك، ليس ثمة قطيعة إذن. هكذا، نغادر المنطق العائلي، الشريف، لنلج منطق الدولة. وهذا لا يمنع المراسم الخاصة في أوساط العائلة. أما الجانب العسكري في تنظيم الجنازة، فهو يبرز أننا ندفن القائد، المنظم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.