الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو في الأقاليم الجنوبية    الوساطة السعودية تنجح في وقف التصعيد الباكستاني الهندي    برشلونة يقتنص الكلاسيكو ب"ريمونتادا تاريخية"    إحالة أربعة أشخاص على النيابة العامة لتورطهم في سرقة باستعمال دراجة نارية بالدار البيضاء    "فاموس تطوان والفوز بداية البقاء".. البرلماني الطوب يدعم المغرب التطواني قبل مواجهة السوالم    خطأ غامض يُفعّل زلاجات طائرة لارام.. وتكلفة إعادتها لوضعها الطبيعي قد تتجاوز 30 مليون سنتيم    برقية تهنئة من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس إلى قداسة البابا ليو الرابع عشر بمناسبة انتخابه لاعتلاء الكرسي البابوي    وزير الخارجية الفرنسي: العلاقات مع الجزائر "مجمدة تماما" بعد تبادل طرد الموظفين    وهبي: طموح أشبال الأطلس لم يتغير وهدفنا أبعد نقطة في كأس إفريقيا    شجرة الأركان في يومها العالمي رمز للهوية والصمود والتحدي الأمازيغي المغربي .    وجدة: تفكيك شبكة لترويج المؤثرات العقلية    جمعية الشعلة تنظم ورشات تفاعلية للاستعداد للامتحانات    المحامي أشكور يعانق السياسة مجددا من بوابة حزب الاستقلال ويخلط الأوراق الانتخابية بمرتيل    مراكش تحتضن أول مؤتمر وطني للحوامض بالمغرب من 13 إلى 15 ماي 2025    البابا ليون الرابع عشر يحث على وقف الحرب في غزة ويدعو إلى "سلام عادل ودائم" بأوكرانيا    نجم هوليوود غاري دوردان يقع في حب المغرب خلال تصوير فيلمه الجديد    مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا يعود إلى الواجهة بميزانية أقل    الحزب الشعبي في مليلية يهاجم مشروع محطة تحلية المياه في المغرب للتستر على فشله    إسرائيل تستعيد رفات جندي من سوريا    شراكات استراتيجية مغربية صينية لتعزيز التعاون الصناعي والمالي    الحرس المدني الإسباني يوقف صيادين مغربيين بتهمة تهريب مهاجرين    انهيار "عمارة فاس".. مطالب برلمانية لوزير الداخلية بإحصائيات وإجراءات عاجلة بشأن المباني الآيلة للسقوط    سعر الدرهم يرتفع أمام الأورو والدولار.. واحتياطيات المغرب تقفز إلى أزيد من 400 مليار درهم    "سكرات" تتوّج بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني لجائزة محمد الجم لمسرح الشباب    الصحراء المغربية تلهم مصممي "أسبوع القفطان 2025" في نسخته الفضية    ميسي يتلقى أسوأ هزيمة له في مسيرته الأميركية    مزور: الكفاءات المغربية عماد السيادة الصناعية ومستقبل واعد للصناعة الوطنية    موعد الحسم.. هذا توقيت مباراة المغرب وسيراليون في ربع نهائي كأس إفريقيا    شاهد.. سائحات يطلبن من لامين يامال أن يلتقط لهن صورة دون أن يعرفن من يكون    "الاتحاد" يتمسك بتلاوة ملتمس الرقابة لسحب الثقة من الحكومة    القاهرة.. تتويج المغرب بلقب "أفضل بلد في إفريقا" في كرة المضرب للسنة السابعة على التوالي    غ.زة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم    بوتين يقترح إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول انطلاقا من 15 ماي    الصحراء المغربية.. الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم تمويل استثمارات بقيمة 150 مليون أورو    تحريك السراب بأيادي بعض العرب    أجواء احتفالية تختتم "أسبوع القفطان"    سلا تحتضن الدورة الأولى من مهرجان فن الشارع " حيطان"    طقس الأحد: زخات رعدية بعدد من المناطق    زلزال بقوة 4,7 درجات يضرب جنوب البيرو    في بهاء الوطن… الأمن يزهر    موريتانيا ترغب في الاستفادة من تجربة المغرب في التكوين المهني (وزير)    بعد فراره لساعات.. سائق سيارة نقل العمال المتسبب في مقتل سيدة مسنة يسلم نفسه لأمن طنجة    الأشبال: الهدف التأهل إلى المونديال    جناح الصناعة التقليدية المغربية يفوز بجائزة أفضل رواق في معرض باريس    الأسهم تحفز تداولات بورصة البيضاء    البيضاء تحدد مواعيد استثنائية للمجازر الكبرى بالتزامن مع عيد الأضحى    الموت يفجع الفنان المغربي رشيد الوالي    مهرجان مغربي يضيء سماء طاراغونا بمناسبة مرور 15 سنة على تأسيس قنصلية المملكة    بينالي البندقية.. جلالة الملك بوأ الثقافة والفنون المكانة التي تليق بهما في مغرب حديث (مهدي قطبي)    إنذار صحي في الأندلس بسبب بوحمرون.. وحالات واردة من المغرب تثير القلق    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد أوهام الهوية أو الثوابت المقدسة
نشر في السند يوم 05 - 11 - 2010

في الستينات من القرن الماضي، بلور ميشيل فوكو مفهوما جديدا لتوصيف ما كان يجمع على تسميته بالثوابت أو المرجعيات الفكرية المكونة لهوية مجموعة بشرية معينة خلال مرحلة زمنية، وهو مفهوم: الإبستيم. وعلى ضوءه شرح مثلا كيف بقي الغربيون خلال المدة الممتدة منذ القرن السابع عشر، يفكرون أو ينظرون إلى العالم انطلاقا من زاوية نظر خاصة، هي ما عرف بعقلانية الأنوار وتبعاتها من نزعات انسية ومادية وميكانيكية وعلموية ...ألخ. وطوال هذه الفترة تم تهميش أو تبخيس كل زوايا النظر الآخرى التي نعتت باللاعقلانية.
وهذا المفهوم نفسه هو ما سيعيد كوهن ثم إدغار موران، صياغته في قالب آخر تحت مسمى: الباراديغم أو الأنموذج الفكري، ويقصد به ذلك المرجع الفكري أو المنهجي، الذي عنه تنبثق عديد من النظريات والتصورات الفكرية التي لا تسمح بالنظر أو التفكير في الظواهر الطبيعية والاجتماعية، إلا في إطار الحدود التي يرسمها منذ البداية ذلك الباراديغم.
وفي السبعينات أيضا، اقترح العالم البيولوجي شارل داوكنز، مفهوم "الميمة" الثقافية الذي يماثل عنده "الجينة" في البيولوجيا، أي تلك الوحدة (بفتح الحاء) أو البذرة التي تسعى للتوالد والتكاثر بهدف نقل سماتها الوراثية إلى ما يتناسل عنها. فعلى نموذج النبتة مثلا التي تنتج بذورا وتلقي بها إلى الطبيعة لإعادة توالدها، ينتج الفكر البشري في كل لحظة العديد من الميمات أو الأفكار أو "الجينات الثقافية"، ويطلقها في الفضاء الثقافي للجماعة البشرية، لتنتقل بين الأدمغة ليعاد استنساخها أو إعادة صياغتها في قوالب جديدة ومتغيرة. غير أنه كما في مثال النبتة دائما، إذ ليس كل البذور تحظى بالضرورة بالتربة المناسبة للإنبات، فيموت بعضها وتدخل أخرى في حالة كمون في انتظار الفرصة المواتية، كذلك ليس كل الميمات تحظى بنفس فرص الانتشار والتنقل عبر الأدمغة، أو إمكانية إعادة صياغتها في أشكال أرقى وأكثر نفاذا من منافساتها.
لكن قد يحصل أحيانا أن تجد ميمة ما، "التربة" الذهنية والاجتماعية المناسبة لكي تنمو وتترعرع، وكما البذرة التي قد تتحول إلى شجرة وارفة تغطي وتسحق ما يحيط بها من نباتات أخرى، قد تتطور الميمة من فكرة بسيطة وعادية إلى إيديولوجية أو نظرية أكثر تعقيدا تدمج إليها أفكار أخرى فتتحول ككرة ثلج تستحوذ على العقول وتطحن كل ما يخالفها من أفكار وميمات مناقضة لها. وهذا النمو الاستثنائي لبعض الميمات أو الأفكار هو ما يكون في أصل ظهور ابستيمات أو بارديغمات أو ديانات أو إيديولوجيات كبرى، تهيمن على طرق تفكير شعوب بكاملها ولحقب طويلة من الزمن. هذا مع العلم أنه في بداية تشكل هذه الظواهر الثقافية الأخيرة، لا أحد قد يكون بإمكانه التنبؤ بذلك مسبقا، وبالتالي نحن لا نقر بتميز أو عظمة فكرة ما إلا بعديا وليس حين انبثاقها.
وكأي مجتمع بشري، ونحن نعيش في مجتمعنا، لابد أن نمارس سلوكنا أو نفكر ضمن الإطار الذي حددته لنا ابستيمات أو باراديغمات معينة، سواء كنا على وعي بذلك أو لم نكن. ومثلنا في ذلك كمثل حشرة صغيرة تعيش أعلى شجرة سامقة، تمثل لها هذه الأخيرة كل العالم الذي تعرفه، ولا تدري أن الشجرة نفسها لم تكن في أصلها سوى بذرة صغيرة ربما في حجمها أو أقل.
وقد كان هدف ميشيل فوكو في منهجه المعروف بالبحث الأركيولوجي، هو النبش بالضبط في أصول مثل هذه الأفكار والنظريات الكبرى وإعادة وضعها في حجمها الطبيعي باعتبارها لم تكن في بدايتها، أكثر من أفكار بسيطة بجانب العديد من الأفكار الأخرى، ولم يكن هناك ما يسمح بتمييزها عن هذه الأخيرة، لولا أنها استفادت من شروط تاريخية وذهنية مناسبة هي التي دفعت بها إلى المقدمة على حساب غريماتها.
هذا ربما ما كان يسعى إليه محمد أركون وهو يعمل على تطبيق نفس المنهج فيما سماه بالإسلاميات التطبيقية،
للنبش في التراث الإسلامي، والكشف عن الجذور الحقيقية أو البذرات الأولى التي تطورت عنها هذه المعتقدات الكبرى التي تحكم حاليا تفكيرنا وسلوكنا كمسلمين، ويتعامل معها البعض كثوابت مقدسة أو ينظر إليها وكأنها معطيات خارج نطاق العقل والتاريخ.
من جهتنا ما نطمح إليه هو أن نسير مستقبلا على نفس النهج في محاولة تفكيك البعض من هذه المعتقدات والقناعات التي بقيت تفرض علينا ألا ننظر إلى العالم إلا من خلل "الثقب" الذي تفتحه لنا لهذا الغرض.
ونحن إذ ننطلق مثلا من سؤال: ماذا يعني في مخيلة وقناعة جل مواطنينا، أن تكون مغربيا؟ قد نجد الجواب مركزا بكثافة في ذلك الشعار الثلاثي الذي لقن لنا منذ نعومة أظفارنا: الله، الوطن، الملك. فماذا تعني هاته الكلمات الثلاث وماذا تخفيه وراءها من معطيات ومعاني تراكمت عبر حقب طويلة من الزمن؟ ذلك ما سنحاول التعرض له تدريجيا بدءا في هذه المقالة بالكلمة الأولى في الشعار: الله.
تحيل هذه الكلمة منذ البداية، على أنه على المغربي:
1- أن يكون بالضرورة مؤمنا بوجود قوة عليا تسير الكون هي ما نطلق عليه اسم الله. وبالتالي ليس من حق المغربي أن يكون ملحدا أو حتى لاأدريا. وإذا ما حصلت مثل هذه القناعة عند البعض، فهو مجبر على ممارسة التقية والتستر على ذلك، أو أن يعبر عنها بطرق ملتوية لا يفهمها إلا من يعنيهم الأمر كما هو الحال عند العديد من المثقفين والمفكرين.
غير أنه لفهم أصل الإيمان في ذاته، ولماذا هي ظاهرة شبه مطلقة عند كل الشعوب ومن مختلف العصور، فذلك ما تعجز عنه الإمكانيات العلمية المتوفرة لحد الآن. وقد يدعو البعض لضرورة العودة على الأقل إلى مائة ألف سنة من قبل، حين انبثاق هذه الظاهرة لأول مرة عند الجماعات الأولى للإنسان العاقل، وكيف أنها ترسخت عميقا طوال هذا التاريخ الطويل، في تركيبة الدماغ البشري، بحيث يعتقد البعض حتى بوجود جينة وراثية تساعد على ذلك.
2- وأن يكون مسلما، أي مصدقا لرسالة محمد. فلا يحق للمغربي أن يكون مسيحيا ولا بوذيا ولا هندوسيا ولا أنيميا. والاستثناء هنا هو بالنسبة لليهود من السكان الأصليين للمغرب. غير أنه في هذه الحالة، يمنع على أي مغربي مسلم أن ينقلب إلى اليهودية، وإن كان العكس مسموحا به. كما يفرض على اليهود أن يبقوا في إطار وضع الذمي، أي مواطن من الدرجة الثانية يعيش تحت حماية السلطان.
هذا مع العلم أن الرسالة المحمدية لم تكن في أصلها سوى ميمة أو فكرة مغمورة تتصارع آنذاك مع أفكار ومعتقدات أخرى كثيرة تعج بها منطقة الجزيرة العربية. وكان المعتقد الحنيفي، الذي يبدو أن الرسول تأثر به كثيرا بحسب الباحث عبد الكريم خليل، قبل وبعد زواجه بخديجة ودور عمها ورقة بن نوفل في ذلك، هو نفسه إحدى الصيغ أو الميمات التي انبثقت عن المعتقدات التي كانت رائجة من قبل بين الطوائف المتفرعة عن أتباع عيسى ومنها طائفة النصارى، أو الأبيونية كما يسميها البعض، من الذين عارضوا التأويل المسيحي لرسالة عيسى خاصة فيما يتعلق بألوهية هذا الأخير كما وضح عابد الجابري ذلك في آخر كتاب له.
كيف انتصرت عقيدة الإسلام بعد ذلك، هل لأن وراءها قوة ومشيئة إلهية لا أحد كان في إمكانه إيقافها، كما هو معتقد
المؤمنين بها بطبيعة الحال، أم يجب البحث في الظروف التاريخية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وخاصة التطاحن القائم في شمال الجزيرة وفي جنوبها بين الإمبراطوريتين المسيطرتين آنذاك: الساسانية والبيزنطية، وكذلك في الخلافات العنيفة التي تفجرت وسط المسيحيين أنفسهم خاصة بعد تدخل هذه الدولة الأخيرة على الخط في هذا المجال؟
3- وعلى المغربي أن يكون سنيا، لا شيعيا ولا خارجيا، أو كل ما تفرع عن هذين المذهبين الأخيرين من فرق أخرى. فقد حوكم مغاربة في بداية الستينات لاشتباه انتماءهم إلى الطائفة البهائية إحدى الطوائف المتفرعة عن المذهب الإسماعيلي الشيعي. وفي السنة الماضية شنت الدولة حملة على ما سمته خطر التشيع على وحدة العقيدة في المغرب.
ومعنى أن تكون سنيا، أن تبجل الخلفاء الراشدين الأربعة، وأن لا تقذف في حق الخليفة الثالث عثمان بن عفان أو عائشة، كما يفعل الشيعة، ولا في حق الإثنين بالإضافة إلى علي بن أبي طالب كما يفعل الخوارج. كذلك تجب الطاعة لكل الخلفاء والسلاطين وعدم الخروج عليهم مهما كانت الفظاعات التي يقترفونها، وذلك باسم درء الفتنة بين المسلمين والعمل بمبدأ الإرجاء.
وأن تكون سنيا، يفترض أن تقول بقول ما يسمى "أهل الجماعة والسنة"، وهم تلك الجماعة من الفقهاء والمحدثين من بعض التابعين وتابعي التابعين، الذين نجح الحكم الأموي في تطويعهم سواء بالترغيب أو الترهيب، بعد أن صفى كل معارضيه الآخرين، فلم يبق من يخاطب المسلمين في شؤون دينهم ودنياهم غير مثل هؤلاء الفقهاء، ومن تم اعتبرت آراءهم بعد ذلك تعسفا بأنها تعكس إجماع المسلمين. وقد روج هؤلاء لنظريتي الإرجاء والجبر، بمعنى الإقرار بمشيئة الله كما هي، أو بالأحرى كما أرادها الخلفاء أن تكون، من دون نقد أو تمحيص أو استعمال للنظر العقلي. هذا مع العلم أن مثل هذه النظريات لم تكن غريبة عن ما أقره من قبلهم مسيحيوا الطائفة اليعقوبية أو السريان من عرب الشام آنذاك ، وعلى رأسهم الراهب يوحنا الدمشقي كبير موظفي ديوان معاوية ومن تبعه من خلفاء بني أمية حتى عهد سليمان بن عبد الملك.
4- وأن تكون مغربيا، لا يكفي أن تكون سنيا فقط بشكل معوم، ولكن أن تلتزم بالثوابت الثلاث: الفقه المالكي والتصوف الجنيدي والعقيدة الأشعرية.
ومعنى المالكية، أن تقبل بالقواعد التي اعتمدها الإمام مالك في تأويل التشريعات الإسلامية، وهي على التوالي: القرآن، ثم السنة أو أقوال وأفعال الرسول، ثم أقوال الصحابة، ثم إجماع الفقهاء من الجماعة المذكورة أعلاه، ثم القياس على ما سبق، وأخيرا مبدأ الاستحسان. وهكذا فلا مجال للنظر العقلي في فقه المالكيين ولا اجتهاد في حضور النص أو أراء وسنة الرسول والصحابة، كما سمح بذلك نسبيا على الأقل مذهب أبي حنيفة. غير أنه يسجل مع ذلك لمالك، أن ترك بابا صغيرا مفتوحا في مذهبه، عكس الشافعية مثلا أو الحنبلية أو الظاهرية، وذلك حين أقر بالإستحسان فيما يخص المصالح المسترسلة للناس، أو ما يسمى بمبدأ جلب المنفعة ودرء المضرة. وهذا ما سمح مثلا بمناسبة مناقشة قضية تعدد الزوجات أو سن البلوغ للزواج في إطار مدونة الأسرة المعتمدة مؤخرا في المغرب، بالاجتهاد والاقتباس من مذاهب أخرى، ومن بينها المذهب الحنفي.
5- وأن تكون مغربيا، وترغب في تحقيق الإشباع الروحي عن طريق التصوف، فلا حق لك أن تتجاوز ما أقره جنيد على هذا المستوى: أي أن تقر وتلتزم أولا بالسنة والشريعة، بحيث لا مجال لبعض الشطحات الصوفية على طريقة الحلاج أو ابن عربي أو كل ما يمت بصلة لتقاليد الباطنية. وكل الزوايا الصوفية التي عرفها المغرب التزمت بهذه الحدود، وبالتالي ساهمت بشكل أساسي بجانب الفقهاء، في تأطير طريقة تدين المغاربة، وبالخصوص عرفت كيف توفق بين الإطار الإسلامي السني الرسمي، وبين عدد من المعتقدات الشعبية الموروثة عن العهد ما قبل الإسلامي، وهو ما أنتج ما يعرف بالإسلام الشعبي.
6- وأخيرا أن تكون مغربيا، يعني أن تتبنى العقيدة الأشعرية في النظر إلى كينونة الله وعلاقته بالعبد والعالم. فأبو الحسن الأشعري بعد أن انقلب على أستاذه وزوج أمه أبي علي الجبائي المعتزلي، أنكر القول بحرية الإرادة وقدرة الإنسان على تقرير أو خلق أفعاله بنفسه، وكان ذلك مطابقا لما سبق وأقره القديس أوغسطين منذ القرن الخامس ميلادي بالنسبة للمسيحية. وعوض ذلك تكلم عن ما سماه بالكسب، وهي نوع من التوفيقية بين القول بحرية الإرادة والقول بالجبرية، فالله هو الذي يخلق أفعال العباد والعبد يكتسبها حين يصبح مؤهلا أو جديرا بذلك. لكن الإشكال الذي لم يحل أبدا في هذه القضية، هو من يجعل العبد مؤهلا وجديرا بكسب أفعاله، هل من تلقاءه هو نفسه أم بتدخل من مشيئة الله؟
وقد عارض الأشعري أيضا قول المعتزلة بنفي الصفات الإلهية، وبدل ذلك دعا إلى القول بما ورد نصيا في القرآن في هذا الشأن بدون تشبيه أو تكليف أو تأويل، أو بعبارة أوضح هو منع من استخدام النظر العقلي في كينونة الله وعلاقته بالعالم والإنسان، ومن تم وضع حدا لأية إمكانية للتفكير الفلسفي، أو أنه أعطى مبررا شرعيا لمحاربة وتكفير الفلاسفة، هو ما زاد من تثبيته وترسيخه تلميذه الغزالي حين كتب عن تهافت الفلاسفة، وما نقله إلى المغرب تلميذ هذا الأخير ابن تومرت الموحدي. ومن ذلك التاريخ بدأت حملة اضطهاد الفلاسفة والمفكرين الأحرار سواء من طرف العامة أو من طرف السلاطين، بدءا بابن رشد ووصولا إلى حامد أبو نصر.
وبشكل عام يمكن اعتبار الأشعرية الباراديغم الأكثر تأثيرا وانغراسا في طريقة تفكير المغاربة وغالبية المسلمين، أو هو ما بقي يمثل النافذة الوحيدة الممكنة التي ينظر منها هؤلاء إلى ما يقع في العالم. والعديد من الأحكام الشعبية أو العبارات المتداولة بين المغاربة، من قبيل "سبب ياعبدي وأنا نعينك" أو "الأرزاق في يد الله" أو كل شيئ هو مكتوب" ... هي من التأثيرات المباشرة للعقيدة الأشعرية.
بل أن ما ذهبت إليه الأشعرية في نفي مبدأ السببية وربط العلة بالمعلول، في ردها على أطروحة الأرسطيين ومنهم بعض المعتزلة وبعض الفلاسفة المسلمين، في التمييز بين العقل الأول والعقل المحرك، وبالتالي تصوير وكأن كل شيء في هذا الكون يتم بتدخل مباشر ولحظي من الله، أو كما عبر عن ذلك الغزالي في المثال المشهور: أنه لو التقى القطن والنار فلن يحدث الحريق إلا بعد أن يأمر الله بذلك، ليمكن اعتباره أخطر ما بثته هذه الأخيرة في طريقة تفكير المسلمين، وبه سدت عليهم كل أبواب البحث العقلي والعلمي، وجعلتهم لا يستطيعون استيعاب ما يجري في العالم.
لذلك وكخلاصة لكل ما ورد حول باراديغم أو المعنى الذي يحمله شعار الله في ذهنية المغاربة، أن هذا الأخير وكأي مفهوم آخر، هو عبارة عن مركب من عدة مفاهيم فرعية، حددناها هنا في ستة: الإيمان بوجود الله والإيمان بالرسالة المحمدية ثم العمل على نهج أهل السنة والجماعة، وعلى نهج الإمام مالك في الفقه وجنيد في التصوف وأخيرا الأشعري في العقيدة أو في كيفية تأويل كل ما سبق.
ولأنه كما يحدث في كل الثورات أو التحولات الثقافية الكبرى، لا يمكن الانتقال إلى باراديغم جديد إلا بعد تجاوز الباراديغم السابق. غير أن التجاوز لا يعني الإلغاء الكلي وإنما تفكيك الباراديغم الأول إلى عناصره المكونة ثم إعادة التركيب بإزاحة بعض من هذه العناصر أو إضافة مكونات جديدة. وفي باراديغم "الله" كما عرفناه أعلاه، إذا كان الإيمان بوجود الله وبالنبي محمد، وبحق البحث عن الإشباع الروحي أو التصوف، هي في الغالب مسائل يعيشها الفرد بشكل شخصي ولا تطرح إشكالا بالنسبة للآخرين، وإذا كان الفقه المالكي هو عمليا متجاوز في الواقع سواء بعد تبني القانون الوضعي في أغلب مجالات الحياة أو بالإمكانيات المتاحة للاجتهاد حتى من داخله في المجالات المتبقية كقضية الأسرة أو الميراث، فإن المكونين الآخرين: الإلتزام بأقوال أهل الجماعة والسنة أو بالعقيدة الأشعرية هما ما يجب مراجعته في هذا الباراديغم وتخليص المغاربة منهما، إذا كنا نريد فعلا أن نتصالح مع عصرنا الحالي وننخرط فيه إيجابيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.