غزة.. ارتفاع وفيات التجويع الإسرائيلي إلى 162 فلسطينيا بينهم 92 طفلا    ترامب يأمر بنشر غواصتين نوويتين ردا على تصريحات روسية "استفزازية"    24 تلميذا مغربيا يجتازون بنجاح مباراة الالتحاق بمدرسة "بوليتكنيك" لسنة 2025        جوق المعهد الموسيقي للطرب الأندلسي يضرب موعدا لضيوف الدورة 39 لملتقى الأندلسيات بشفشاون    النيابة العامة الفرنسية تطالب باحالة حكيمي إلى المحكمة الجنائية بتهمة الاغتصاب    تطوان.. التأكيد على الانخراط الجماعي في تنفيذ التعليمات الملكية لإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية    أمين حارث يُقنع دي زيربي ويعزز حظوظه في البقاء مع مارسيليا    المنتخب المغربي يدخل "الشان" بخبرة البطولات وطموح التتويج    مديرية الأرصاد الجوية تحذر من موجة حر من السبت إلى الأربعاء بعدد من مناطق المملكة    المغرب يتصدى لمحاولة تسييس الجزائر لاتفاقية "رامسار" للمناطق الرطبة        سعر الدولار يتراجع بعد بيانات ضعيفة    "القسام" تنشر فيديو لرهينة إسرائيلي    لقاء سياسي مرتقب بوزارة الداخلية لمناقشة المنظومة الانتخابية المقبلة    الجمارك المغربية تحبط محاولة تهريب أزيد من 54 ألف قرص مهلوس بباب سبتة    وزير العدل : لا قانون يلزم الموظفين بشهادة مغادرة البلاد    تقدير فلسطيني للمساعدة الإنسانية والطبية العاجلة للشعب الفلسطيني، وخاصة ساكنة قطاع غزة        تتناول قضية الصحراء المغربية.. الكاتب الطنجاوي عبد الواحد استيتو يطلق أول رواية هجينة في العالم    "قد يبدو الأمر غريبا!".. لماذا لا نتخذ من التايلاند نموذجا للسياحة في المغرب؟    "مكتب الفوسفاط" يخطط لزيادة إنتاج أسمدة "تي.إس.بي" إلى 7 ملايين طن نهاية 2025    في الذكرى 26 لعيد العرش .. مولاي الحسن يرتقي إلى رتبة كولونيل ماجور    المبعوث الأميركي ويتكوف يزور غزة وسط كارثة إنسانية    رشيد الوالي: فيلم «الطابع» تكريم للعمال المغاربة في مناجم فرنسا    المهرجان المتوسطي للناظور يختتم نسخته الحادية عشرة وسط حضور جماهيري غير مسبوق    عبد العلي النكاع فنان مغربي يبدع بإلهام في فن التصوير الفوتوغرافي الضوئي    نداء لإنقاذ مغربية عالقة بقطاع غزة    وثائق مزورة وأموال "النوار" .. فضائح ضريبية تنكشف في سوق العقار    بطولة العالم للألعاب المائية (سنغافورة 2025) .. الصيني تشين يحرز ذهبية ثانية في منافسات السباحة على الصدر    دراسة: مشروب غازي "دايت" واحد يوميا يرفع خطر الإصابة بالسكري بنسبة 38%    رئيس البنك الإفريقي للتنمية: المغرب بقيادة الملك محمد السادس يرسخ مكانته كقوة صاعدة في إفريقيا    نشوب حريق بالغابات المجاورة لدواوير تمروت وبني بشير    بعد الخطاب الملكي.. "ائتلاف الجبل" يراسل أخنوش لإنصاف الهامش والقطع مع مغرب يسير بسرعتين    الشيخات وجامعة ابن طفيل.. أين يكمن الخلل؟    فرنسا توقف استقبال فلسطينيين من غزة بعد رصد منشورات تحريضية لطالبة    دراسة تُظهِر أن البطاطا متحدرة من الطماطم    الطعن في قرارات "فيفا" ممكن خارج سويسرا    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية البنين بمناسبة العيد الوطني لبلاده    إسبانيا تُزيل علمها بهدوء من جزيرتين قبالة سواحل الحسيمة    مجدلاني يشيد بالمساندة المغربية لغزة    أسامة العزوزي ينضم رسميا إلى نادي أوكسير الفرنسي    أربعة قتلى حصيلة سلسلة الغارات الإسرائيلية الخميس على لبنان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    ديواني: اعتماد الحافلات الكهربائية في المغرب يطرح تحديات متعددة    "غلوفو" توقع اتفاقا مع مجلس المنافسة وتعلن عن خطة دعم لعمال التوصيل    تحكيم المغرب خارج مونديال الفتيات    حركة غير مسبوقة بمقر السفارة الجزائرية في الرباط... هل تلوح بوادر تغيير في الأفق؟    أوسيمهن ينضم لغلطة سراي بصفة نهائية مقابل 75 مليون أورو    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    بعد فصيلة "الريف" اكتشاف فصيلة دم جديدة تُسجّل لأول مرة في العالم        ما مدة صلاحية المستحضرات الخاصة بالتجميل؟    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    على ‬بعد ‬أمتار ‬من ‬المسجد ‬النبوي‮…‬ خيال ‬يشتغل ‬على ‬المدينة ‬الأولى‮!‬    اكتشافات أثرية غير مسبوقة بسجلماسة تكشف عن 10 قرون من تاريخ المغرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحراب الذكية
نشر في كود يوم 30 - 06 - 2014

كشفت التصريحات التي أدلى بها السيد مدحت بوريكات إلى جريدة "المساء"، في إطار حوار مطول يُنشر في حلقات، عن تفاصيل جديدة تشخص هول المأساة التي عاشها المعتقلون بالمكان الذي يحمل اسم معتقل تازمامارت الرهيب وسيء الذكر والذي كان مسرحاً لجرائم وممارسات فظيعة، منها على وجه الخصوص : الاختطاف والاحتجاز والشطط في استعمال السلطة، والاعتقال التحكمي والمس بالحق في السلامة - عدم تقديم المساعدة لأشخاص في خطر - الإعدام خارج نطاق القانون - حرمان المعتقلين من الحقوق المخولة، قانونياً، للسجين كالتطبيب والزيارة والنظافة والفسحة الكافية.. إلخ، ووضعهم في ما يشبه الكهوف أو الجحور أو الاسطبلات النتنة، بلا أدنى مقومات للإقامة الإنسانية من أفرشة وأغطية وأَسِرَّةٍ وتهوية وإنارة ودورة للمياه... - دفن الجثث خفية -المعاملة القاسية والمهينة والحاطة بالكرامة والعقاب الجماعي والحرمان من الحد الكافي من الغذاء والماء - عدم التبليغ عن جنايات والتستر على مجرمين..

العسكريون الذين أُوكل إليهم أمر تنفيذ هذه الممارسات، المخالفة للقانون والماسة بحقوق الإنسان، تلقوا تعليمات صارمة كانت تقتضي، فضلاً عن ذلك، التزام الصمت المطبق وعدم إفشاء سر وجود هذا المُعْتَقَلِ السري وعدم الكشف عن طبيعة المهام التي ينفذونها، وحتى في حديثهم مع رؤسائهم كان يُطلب منهم (حسب بعض الروايات) استعمال لغة مرموزة، حيث يخبرون، مثلاً، بأن كوكا تهرسات (قنينة كوكا تكسرت)، فيأتي الرد بهذه الصيغة رْمِي الشقوفا (إلق بالشظايا)، في إشارة إلى صدور أمر بدفن جثة معتقل توفي.
كان الهدف من نقل المعتقلين إلى تازمامارت هو تركهم يموتون ببطء في ذلك المكان الذي أصبح عبارة عن جحيم، مثل جرذان تم حقنها بالسم الذي يسري في العروق والشرايين، ويحطم الجسد شيئًا فشيئاً، ويحول صاحبه إلى شبح، ويؤدي إلى الموت بعد فترة طويلة من المعاناة والألم والاجتفاف والتيبس.

وبصدد حدود مسؤولية العسكريين الذين تولوا حراسة المُعْتَقَلِ المشار إليه، يجدر التذكير، هنا، بوجود ثلاث نظريات تعالج كل منها وضع المرؤوس الذي ينفذ أمراً غير قانوني تلقاه من رئيسه النظامي، أي الحالة التي تصدر فيها السلطة الشرعية أمراً مخالفاً للقانون، بمعنى أن إذن السلطة الشرعية متوفر دون أمر القانون، حيث يوجه الرئيس، مثلاً، تعليماته إلى مرؤوسيه بارتكاب جرائم وإتيان أفعال تمس بحريات الأفراد أو سلامتهم أو حرمة مساكنهم، خارج الشروط والمتطلبات التي ينص عليها القانون. وهذه النظريات الثلاث هي :

- نظرية الطاعة العمياء، وبناء عليها فإن المرؤوس، الذي يثبت تلقيه أوامر من صاحب السلطة الشرعية المُخَوَّلَةِ حق إصدار مثل هذه الأوامر، لا يتعرض للمساءلة إذا نفذ تلك الأوامر، حتى ولو تضمنت أفعالاً مخالفة للقانون. وعيب هذه النظرية أنها توفر للرؤساء شروطا سهلة لتنفيذ جرائم وانتهاكات، وبالتالي تؤدي إلى ارتكاب جرائم وانتهاكات أكثر. ولكن علة الأخذ بهذه النظرية –حسب البعض- هي أن إخضاع أوامر الرؤساء، خاصة في ميدان حساس كالميدان العسكري، إلى الأخذ والرد والمجادلة من طرف المرؤوسين سيفضي إلى زعزعة النظام وأسس العلاقات القائمة على الامتثال، وهي أساسية لنجاح أي جيش في كسب المعارك وحسن أداء وظائفه ومهامه؛

- نظرية الحراب الذكية، وبناء عليها لا يُعتبر المرؤوس معفى من المساءلة حتى ولو أثبت أنه اكتفى بتنفيذ أوامر واضحة وُجهت إليه من طرف رؤسائه النظاميين، إذا كان الفعل الذي جرى إتيانه مخالفًا للقانون. بمعنى أن واجب المرؤوس هو رفض تطبيق أية أوامر غير قانونية يتلقاها، وإلا تحول إلى شريك في الجرم. هذه النظرية تفرض على الرؤساء التزام الاحتراس والسيطرة على غرائزهم لأنهم سيجدون صعوبة في ضمان تنفيذ الأوامر غير القانونية التي يصدرونها؛

- نظرية توفيقية أو مختلطة، وهي تميز بين حالتين : فإذا كانت أوامر الرؤساء واضحة في مخالفتها للقوانين ولا يمكن أن يثور أي شك في طابعها اللاقانوني، فليس هناك أي مبرر ليشارك المرؤوس رئيسه في الجريمة وينفذ الأوامر، فليس من المستساغ، مثلاً، أن يقبل المرؤوس باغتصاب سجينات أو بتعذيب مسجونين أو بسرقة متاع أناس أو الانتقام منهم بإحراق بيوتهم.. أما إذا كان يغشى الأوامر بعض الغموض بحيث لا يمكن الجزم بمنافاتها للقانون، فيمكن، في هذه الحالة، أن يُعتبر وجود هذه الأوامر سبباً لإعفاء من نفذها من المسؤولية.

وقد اعتبر الملك الراحل الحسن الثاني، في بداية السبعينيات، أن العسكريين الذين قاموا بتنفيذ عملية انقلابية ضد النظام القائم لا يمكن أن يفلتوا من العقاب بدعوى وجود أوامر من رؤسائهم، وذكَّر بنظرية الحراب الذكية (les baïonnettes intelligentes) التي يجب، في مثل هذه الحالات، أن تكون المرجع في تحديد مصير العسكريين الذين لم يخططوا للانقلاب ولكنهم نفذوا أوامر رؤسائهم بإتيان الأعمال التي يتطلبها الانقلاب.
العسكريون الذين أُلحقوا ب"العمل" في تازمامارت، كانوا سيطالبون، عند الاقتضاء، بعدم تحميلهم مسؤولية عدد من الوقائع التي شهدها المعتقل، عن طريق إثبات توفر شروط العذر المنصوص عليه في الفصلين 225 و258 من القانون الجنائي المغربي (التصرف بناء على أمر من الرؤساء، في نطاق اختصاصاتهم التي يجب على المرؤوس طاعتهم فيها) أو عن طريق إثبات قيام الإكراه المعنوي؛ ومع ذلك فإن بعض هؤلاء العسكريين تحايل على جملة من الأوامر التي تلقاها وحاد عنها ورفض الامتثال لها، كلما أُتيحت له فرصة ذلك.

هناك حُرَّاس، في تازمامارت، أسدوا خدمات إلى معتقلين محددين، بسبب اعتبارات شخصية خاصة، ولكن هناك حراس آخرون اختاروا التصرف بوحي من الحس الإنساني المجرد، وبمنطق أقرب إلى روح نظرية الحراب الذكية. نحن نتذكر كثيراً جلادي تازمامارت، ولكننا لا نتذكر، بنفس الدرجة، الرجال الذين عملوا، سراً، على إسعاف المعتقلين بقدر الإمكان. ونحن نشيد بالأصوات والضمائر الحية التي تحركت، في العالم كله، لوضع حد لمأساة تازمامارت، ولكننا لن نشيد كما يجب، مهما أشدنا، بالحراس الذين كان لهم الفضل في بقاء عدد من المعتقلين على قيد الحياة والذين زودوا العائلات بالمعلومات التي ستقود إلى انطلاق الحملة الدولية ضد معتقل تازمامارت.. حراس طيبون أحجموا عن تنفيذ التعليمات التي تأمرهم بمنع الدواء عن المعتقلين ومنع أي تواصل بينهم وبين عائلاتهم وبمنع الحديث إلى المعتقلين أو إسنادهم معنوياً أو الرأفة بهم، فحتى الأكل تقرر أن يُخصص له زمن لا يتعدى عشر دقائق. ويمكن الاكتفاء، هنا، بتوجيه التحية إلى الدور الذي لعبه رجلين، على وجه الخصوص، هما محمد الشربدوي والعربي لويز. هناك، طبعاً، رجال آخرون بذلوا العون والمؤازرة، بشكل أو بآخر، للمعتقلين، ولكن الرجلين المذكورين كانا في قمة الشهامة، إذ يرُوى، مثلاً، أن الشربدوي كُلف بتفتيش خربوش، رئيس الحراس، في حاجز للدرك، بناء على وشاية، وكان خربوش ينقل أدوية ورسائل، فبادر الشربدوي إلى إخفاء الرسائل التي عثر عليها ودسها بين ثنايا لباسه؛ والعربي لويز مكَّن معتقلين عدة من الأدوية التي احتاجوها لشفائهم من أمراض ألمت بهم، بينما لعب الشربدوي دوراً أساسياً ورائداً في ربط الاتصال بعائلات المعتقلين. وبعد أن تأكدت "إدارة" المعتقل أن الأدوية تصل إلى المعتقلين، كَثَّفَتْ من تحرياتها بحثا عن الحراس الذين ينقلون الأدوية من خارج المعتقل إلى داخله، ولكن عملية تدبير تبادل الرسائل بين المعتقلين وعائلاتهم كانت الأخطر، وكان من الممكن أن تكلف من يتولونها حياتهم، فتلك الرسائل لم تكن تتضمن تحيات وعواطف فحسب، بل كانت تحتوي، أيضاً، على معلومات وخطط ومتابعات وتوجيهات تهم واحدة من أهم وأدق المعارك الحقوقية التي خيضت في مواجهة الحسن الثاني.

ولهذا كله، حبذا لو بذل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أو المنظمات الحقوقية المغربية، التفاتة صوب تلك الفئة من حراس تازمامارت التي يتبين، من خلال شهادات الناجين، أنها ساعدتهم على النجاة والاستمرار على قيد الحياة، والتي لم تتورط في الاعتداء على المعتقلين، والتي لم يكن بإمكانها، في الظروف التي وُجدت فيها، أن تصنع، لفائدة الحق في الحياة والحرية والسلامة، أكثر مما صنعته، والتي خاطرت بأرْزاقها ومصير أولادها وحرية أفرادها، وربما حياتهم، في سبيل إيصال صرخة معتقلي تازمامارت إلى العالم والتخفيف من معاناتهم، قدر الإمكان، والتي استعملت كل الوسائل المتاحة لتجنب التطبيق الحرفي لتعليمات خرقاء ومجنونة تدوس على القيم والمبادئ التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

تازمامارت ليس، فقط، مكاناً لأبشع انتقام سلطوي فاحت منه رائحة الدم والموت والألم والعزلة والجوع والعطش والقذارة والقسوة، بل هو، أيضاً، حقل أزهرت فيه أسمى معاني التآخي والتضامن بين إنسان موجود رهن الاعتقال وبين حارسه، كما في الكثير من التجارب العالمية، وقام، فيه، نوع من الاتحاد، بينهما، في رفض الظلم ومواجهة الأوامر القمعية السوداء والقرارات التعسفية.

في تازمامارت لم تمنع البذلة العسكرية بعض الرجال من التصرف، قدر الإمكان، على أساس أن الولاء للتعليمات يتطلب ولاء التعليمات للقانون والحق !.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.