لم يبقَ سوى يومين ويلفظ الحدث أنفاس دورته العشرين، وفي كل ساعة من ساعاته المتبقية، يحرص الزوار على تلقّف آخر الإصدارات أو بعض العناوين التي طالما بحثوا عنها في المكتبات المغربية دون جدوى أو حتى لالتقاط صور يؤكدون بها حضورهم لهذا الحدث الثقافي، الممرات لا زالت محافظة على الازدحام نفسه الذي عرفه اليوم الأول، وغالبية الأروقة لا زالت في غمرة لحظات الاستقبال، فالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء يبقى موعداً ثقافياً من الصعب تجاهله. المعرض الذي بدأ يوم الخميس 13 فبراير وسينتهي غداً الأحد، عَرف هذه السنة مشاركة قُرابة 54 دولة وحوالي 792 ناشراً، وقد قررت إدارته هذه السنة، الاحتفاء بالجذور الإفريقية للمغرب من خلال استضافة دول "المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا" كضيفة شرف هذه الدورة، وهي المجموعة التي تضم 14 دولة من بينها السنغال، توغو، مالي، غانا، الرأس الأخضر، وبنين. كواسي مارتين، ناشرة من كوت ديفوار، البلد الذي ربما يعرفه الكثير من المغاربة بمنتخبه الكروي القوي ولاعبيه المتواجدين بأقوى الدوريات الأوروبية، اعتبرت أن احتفاء المغرب بمجموعتهم الاقتصادية، يؤكد إصرار هذا البلد على التشبث بأصله الإفريقي:" كثيرا ما نسمع أن المغاربة لا يعيرون اهتماماً واضحاً بإفريقيا السمراء للون بشرتهم المختلف عنّا، لكنني صراحة أعْجبت بالحفاوة التي خصّونا بها في هذا المعرض" تقول الناشرة. مارتين التي تسعد عندما يسألها زبون مطّلع ما عن كاتب معروف بمنطقها، قالت إنها لمست اهتماماً واضحاً من المغاربة بأدب بلدها:" هذه هي المرة الثالثة التي أتواجد فيها بهذا المعرض، وفي كل مرة أجد أشخاصاً يعرفون بعُمق التطوّرات الأدبية التي تجري في بلدي، ويرجع الفضل بشكل كبير إلى اللغة الفرنسية التي تصل بين البلدين". غير بعيد عن مارتين والرواق الضخم الذي يضم ناشري ضيوف الشرف، يوجد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بابتسامة تلتهم نصف وجهه وهو يستقبل الزائرين دون أي حراك بعدما تحوّل إلى كائن من ورق، أطفال مغاربة يستمعون بفضول لدارجة مبتدئة من أمريكية تحاول تلقينهم بعض الألفاظ الإنجليزية، وقُربهم شباب يسْتعلمون عن إمكانيات الهجرة إلى بلاد العم سام، إنه الرواق الخاص بدار أمريكا. كوثر اتباتو، مسؤولة التواصل بالقنصلية الأمريكية تشير إلى أن الهدف من هذه المشاركة، هو التعريف بالثقافة الأمريكية، وتنظيم لقاءات مع كتاب أمريكيين حول مواضيع ثقافية، زيادة على تقريب "دار أمريكا" من المغاربة، وهي المبنى المتواجد بالدار البيضاء الذي يمثل مساحة ثقافية تضم أزيد من 3 آلاف كتاب، مؤكدة أن الكثير من المترددين على الرواق، ينتمون إلى فئة التلاميذ والطلبة الراغبين في الاستفادة من منح دراسية. أمتار قليلة من رواق أوباما، ينتصب العلم التونسي الذي يفخر بأن يكون العلم الأكبر في هذه الدورة وفق تأكيدات الشاذلي بن زويتين، ممثل اتحاد الناشرين التونسيين، الذي يمضي شارحاً كيف أن بعض المتشددين الدينيين التونسيين الذين حضروا في الدورة السابقة في المعرض، تسببوا في غياب العلم التونسي لرغبتهم وضع علم ديني آخر مكانه، وهو ما جعل اتحاد الناشرين يقرر بسط العلم الأحمر للتأكيد على إرث تونس الخضراء بعيداً عن أي انجذاب إلى تيار ما. واستطرد الشاذلي أن هذا الاتحاد يمثل 18 ناشراً تونسياً ممّن يعكفون على المشاركة كل سنة في دورات المعرض، خاصة بعد "الربيع العربي" الذي جعل المغاربة يُقبلون بنهم على الكتب التي تناولت الثورة، رغم أنه أبرز انزعاجه من المكان الذي خُصّص للناشرين التونسيين خلال هذه الدورة والذي جمعهم بالأروقة الرسمية لبعض البلدان الأخرى بدل أن يتواجدوا ضمن الأروقة الخاصة بالناشرين المستقلين. وقريبا من الشاذلي، كان يانغ قانع يشرح لبعض المغاربة بعربية جميلة، بعض الجوانب من الثقافة الصينية، فكل من يقترب من هذا الرواق، لا بد وأن يستهويه حديثٌ عربي لواحد من القادمين من البلد الأكثر سكاناً في العالم، لذلك كانت الفرصة سانحة ليانغ الذي يرأس معهد كونفوشيوس بالمغرب، ولدار النشر الصينية "القارات الخمس" من أجل التعريف أكثر بالبلاد التي جاءت في أحد أحاديث الرسول (ص). وقد أكد يانغ أن هناك اهتماماً مغربياً واضحاً بالثقافة الصينية:" عدد المسجلين في السنة الأولى بمعهدنا في المغرب لم يتجاوز 186، إلا أنه وصل في السنة الموالية إلى 450، وهناك تقديرات بأن يصل العام القادم إلى ألف طالب"، مشيراً أن هذه المشاركة الأولى من نوعها للصين، جعلته يعرف أن أكثر ما يسأل عنه المغاربة هو كتب تعليم اللغة الصينية وكذلك الكتب التي تحتوي على وصفات علاجية تشتهر بها بلاده. وتقريبا في وسط المعرض، يظهر العلم الجزائري بألوانه البيضاء والخضراء والحمراء، مؤكدا استمرارية بلد المليون والنصف شهيد في الحضور إلى هذا الحدث الثقافي، بترحاب جميل استقبلنا دعاس فريد، مسؤول هذا الجناح الخاص بوزارة الثقافة الجزائرية، مفيداً أن هناك إقبالاً واضحاً على الكتب الأمازيغية ثم على الكتب التي تتناول الشأن السياسي الجزائري. غير أن ملامح حديث فريد تحوّلت إلى نوع من الحسرة عندما سألناه عن مدى استطاعة الثقافة ردم الحفر السياسية بين البلدين الجارين:" ما أفسدته السياسة لا تصلحه الثقافة..ويلزمنا الكثير للوصول إلى التفاهم السائد مثلا في أوربا"، معتبراً كذلك أن عامل اللاستقرار في المنطقة المغاربية أثّر بشكل على التبادل الثقافي، إضافة إلى أن بعض البلدان المغاربية لا تنتج أي شيء صالح للاستهلاك الثقافي في نظره. الوجع الثقافي الذي تحدث عنه فريد قد يظهر في بعض الأروقة التي تخلو تقريبا من الزوار، حتى ولو كانت جنسيات الناشرين داخلها من خارج المغرب الكبير، أروقة تحتوي على روايات متواضعة المضمون أو كتب للنجاح السريع في الحياة، في وقت تزدحم فيه بعض الأروقة بزوارها، ممّن يقبلون على شراء منتوجاتها الثقافية، حتى ولو تجاوز الثمن ال100 درهم للكتاب الواحد، وحتى ولو لم يُعرْ أصحابها أي اهتمام بتقنية "الصولد".