أكثر من سنة ونصف من الإبادة الجماعية الوحشية التي يتعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني بقطاع غزة من لدن قوات الاحتلال، تحت قيادة الحكومة الأشد تطرفا في تاريخ إسرائيل، على مرأى ومسمع الجميع، وخصوصا ما يسمى بدول "العالم الحر" أو "دول حقوق الإنسان" وكذلك المؤسسات الدولية وعلى رأسها منظمة الأممالمتحدة، دون أن يحرك أحد ساكنا. وقد خلفت حرب الإبادة هاته ما يناهز خمسة وخمسون (55) ألف قتيل فلسطيني، وعدد أكبر من الجرحى والمعطوبين – إلى حد الآن. ومع ذلك لازال ظمأ سفك دماء الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ ومرضى وباقي المدنيين، بالأسلحة الأكثر فتكا، هي التي تستحوذ على فكر القادة الإسرائيليين في خرق سافر لجميع القوانين والأعراف الدولية والقيم الإنسانية. وقد بات يستأثر بالاهتمام مؤخرا هذه الصحوة الكبرى التي انتابت العديد من الدول الغربية، والتي كانت في بداية العدوان من أشد المدافعين عن إسرائيل بذريعة "حق هذه الأخيرة في الدفاع عن نفسها". فكيف تحولت هذه الدول، من أمثال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، من دول تدافع عن همجية دولة الاحتلال إلى دول تقف ضد ما تقترفه هذه الأخيرة من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية الأكثر شرا في التاريخ المعاصر، بل وتهدد إسرائيل – لأول مرة – بفرض عقوبات عليها وإنهاء الشراكات معها وإيقاف تصدير السلاح إليها؟ وسنحاول توضيح هذا الأمر في النقاط الخمس التالية: أولا– باتت هذه الدول الغربية تدرك بأن الحكومة التي تساندها في إسرائيل – الحليف الاستراتيجي الأول لها في المنطقة – هي "حكومة متطرفة"، وأصبحت ترى بجلاء أن هذه الأخيرة تنتهج سياسة متهورة، غير محسوبة العواقب، ومغالية في أهدافها. إنها حكومة "الآذان الصماء" التي لا تريد أن تستمع لأحد، سواء من أعدائها، أو من أصدقائها وحلفائها، أو حتى كذلك من مواطنيها الذين يتظاهرون بالآلاف للمطالبة بتوقيع اتفاقية مع حركة حماس لإنهاء الحرب واسترجاع ما تبقى لديها من رهائن. والسبب في ذلك ليس فقط لأن إسرائيل لا تؤمن إلا بالقوة وإخضاع الآخرين لإرادتها نتيجة تفوقها العسكري النوعي والدعم الغربي – وخصوصا الأمريكي – اللامحدود، أو لأنه لا يوجد من هو قادر على إيقاف جرائمها وعبثها، أو لأن لديها هذا الشعور بالإفلات الدائم من العقاب...ولكن السبب يكمن كذلك في رغبة بنيامين نتياهو الجنونية في البقاء في السلطة، مهما كلف ذلك من ثمن – بما في ذلك أرواح جنوده وأسراه –، لا لشيء آخر سوى خوفه من الملاحقات القضائية التي قد تودعه في السجن في حالة إذا لم يعد في مركز صناعة القرار. ولذلك فهو مستمر في إبادة أبناء القطاع بمختلف الأشكال (القصف، التجويع، الحرمان من تلقي العلاجات (...إلخ))، مادام أن أعضاء ائتلافه الحكومي، وعلى رأسهم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير (وزراء الصهيونية الدينية المتشددة)، يشترطون ذلك عليه للبقاء في حكومته وعدم إسقاطها. وبذلك باتت تصرفات الحكومة الإسرائيلية محرجة لحلفائها، وليس لها أي أهداف واقعية أو رؤية استراتيجية واضحة المعالم بقطاع غزة ما عدا نشر المزيد من الدمار، وسفك المزيد من دم الأبرياء؛ ثانيا – نفاذ صبر الدول الغربية أمام امتداد العدوان الإسرائيلي في الزمن، دون أي آفاق جادة لإنهاء الإبادة ضد الفلسطينيين أو الوصول إلى أهداف الحرب التي رسمتها دولة الاحتلال. فقد تملصت الحكومة الإسرائيلية من اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته مع حركة حماس في 19 يناير الماضي برعاية الوسطاء القطري والمصري والأمريكي. كما دأبت على افتعال جميع العراقيل لإجهاض المفاوضات، والحيلولة دون التوصل لأي تسوية حقيقية بإمكانها إنهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة. أكثر من ذلك، عمدت حكومة نتنياهو إلى إغلاق كامل للقطاع أمام دخول أي مساعدات غذائية إليه، بل وخططت كذلك لاحتلاله والاستيطان فيه؛ ثالثا – ضغط الرأي العام الدولي، واتساع رقعة المظاهرات في مختلف المدن الغربية – بما في ذلك الأمريكية – المنددة بحرب الإبادة والمطالبة بوقف الحرب، وسخط شريحة عريضة من مواطني الدول الغربية على السياسة التي تنهجها حكوماتهم إزاء ما يجري وضد "المعايير المزدوجة" بين موقف هذه الدول من الغزو الروسي لأوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة؛ رابعا – متابعة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية من لدن مجموعة من الدول، والتي بدأت بالدعوى التي قدمتها دولة جنوب إفريقيا، ثم انضمام دول أخرى إليها فيما بعد، والتي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بقطاع غزة. وإلى جانب ذلك، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بسبب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها داخل القطاع. وقد عزز ذلك تقارير المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي تشير بوضوح إلى ضلوع الجيش الإسرائيلي في ارتكاب الإبادة الجماعية ضد ساكنة قطاع غزة؛ خامسا – الضغط الذي مارسته بعض دول الاتحاد الأوربي على باقي الدول الأعضاء (إسبانيا، أيرلندا، بلجيكا). فقد وقفت هذه الدول منذ بدء العدوان ضد ما تقترفه إسرائيل من جرائم، ومثال ذلك تصريح رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيزعلانية بأن "بلاده لن تتعامل مع دولة إبادة جماعية"، وذلك قبل أن تبدأ دول أخرى – من داخل الاتحاد ومن خارجه – في تغيير مواقفها إزاء العدوان الإسرائيلي، كفرنسا وألمانياوإيطالياوكندا. هذا التحول دفع على سبيل المثال بالاتحاد الأوربي لإعادة النظر في شراكاتها التجارية مع دولة الاحتلال، كما أوقفت العديد من الدول تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، أو مرورها إلى هذه الأخيرة عبر موانئها ومطاراتها (إسبانيا، بلجيكا، إيطاليا، كندا (...إلخ.)). وبذلك بدأت هذه الدول تدرك، شيئا فشيئا، أن هناك بون شاسع بين انتقاد إسرائيل أو معاقبتها على جرائمها ك "دولة احتلال وإبادة جماعية" وما يسمى ب "معادات السامية". بناء على ما سبق، أصبحت الدول الغربية تدرك خطورة الاستمرار في مساندة الحكومة الإسرائيلية الحالية، ليس فقط لأن التاريخ قد يذكرها كطرف متواطئ في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني بعد أن غطت دبلوماسيتها عن جرائم قوات الاحتلال وأعانته بالسلاح، ولكن كذلك لإدراكها أن سلوكها يتناقض بشكل مفضوح مع القيم التي تتبناها كدول ديمقراطية ومدافعة عن حقوق الإنسان وواجب احترام القانون الدولي والمنظمات الدولية. ونتيجة ذلك، بدأت الدول الغربية تراجع مواقفها، وتتخذ مواقف أخرى تميل إلى الاعتدال كالضغط على إسرائيل لدخول المساعدات الإنسانية داخل القطاع دون قيود، ورفض استهداف الأطفال والمدنيين، وضرورة وقف إطلاق النار بشكل مستدام، والتوجه للاعتراف ب "الدولة الفلسطينية". أستاذ العلاقات الدولية بجامعة عبد المالك السعدي، طنجة