رحلة في أسواق الاستهلاك وحدود الحرية المعلّبة دخلت السوق على غير نيّة مسبقة، لا أبحث عن شيء بعينه، إنما فقط أختبر حرارة الواقع حين يزفر زفيره الاستهلاكي في الوجوه، ويعرض رغباته في واجهات البلّور. وما إن خطوت خطواتي الأولى بين الممرات حتى لاح لي مشهد يطغى عليه الحضور النسائي؛ نساء من مختلف الأعمار يتحركن بخفّة وثقة بين محلات الألبسة ومستحضرات التجميل وأواني المطبخ، في مشهد لا يكاد يغيب عن أي مدينة مغربية أو عربية. واجهات المحلات تنطق بأنوثة مصمَّمة بعناية، فيما تراجعتُ خطوات إلى ركن جانبي مخصص لملابس الرجال، بدا كأنما أُنشئ على سبيل رفع العتب، محدودًا في مساحته، باهتًا في ألوانه، فقيرًا في اختياراته. استوقفتني هذه المفارقة. لم تكن المرة الأولى التي ألاحظ فيها أن السوق موجه بالدرجة الأولى للمرأة، لكنني اليوم شعرت بثقل هذا التوجيه. الإعلانات في الشوارع، العروض التلفزيونية، حتى الحملات التجارية الكبرى، كلها توجّه رسائلها إلى المرأة بوصفها الزبونة المثالية. من هنا تولّدت لديّ فكرة غريبة المذاق: هل الرأسمالية الحديثة قامت فعلاً على عاتق المرأة؟ هل التحرر الاقتصادي والاجتماعي الذي تُشجَّع عليه النساء، ما هو في جزء منه إلا مدخل لتوسيع قاعدة الاستهلاك، لا أكثر؟ صحيح أن دعوات تمكين المرأة انطلقت في سياقات متعددة، وأنها حققت مكاسب اجتماعية مهمة لا يمكن إنكارها، لكن من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن الرأسمالية التقطت تلك الدينامية لتوظفها في مشروعها الأكبر: السوق. فالمرأة، حين تصير مستقلة ماديًا، تُصبح قوة شرائية إضافية، زبونة جديدة في سوق متعطّش للاستهلاك الدائم. وما كان يُشترى سابقًا باسم الأسرة، أصبح يُشترى باسم الذات، بل تُصبح الذات ذاتها مشروع استهلاك مستمر: الشكل، والعطر، واللباس، والمطبخ، والهاتف، وكل ما يمكن أن يُجدّد ويُزخرف. وفي خضم هذا التحوّل، تغيّر موقع الرجل أيضًا. لم يعد الهدف المركزي للتسويق، بل صار مطالبًا فقط بتمويل المشهد أو التنافس ضمن شروطه. لقد أصبح هو الآخر جزءًا من لعبة الاستهلاك، لكنّه أقل جاذبية، وأضعف تأثيرًا في هذا المجال، لأن السوق حسمت منذ البداية: المرأة تُغري، تُعرض، تُقرّر، وتُستهلك. وهكذا تحوّلت العلاقة بين الطرفين إلى معادلة تسويقية، لا إلى شراكة اجتماعية. الواقع أن هذه التحوّلات لا تخلو من أوجه معقدة. فالمرأة ليست فقط مستهلكة، بل هي في الآن ذاته منتِجة، عاملة، ومشاركة في بناء الاقتصاد الوطني. لكنّ السؤال الذي يظل يؤرقني هو: هل تم تحرير المرأة لتُحرَّر فعلاً، أم فقط لتُهيَّأ كقوة شرائية ضخمة؟ هل أُطلقت يدها في العمل والتعلّم والتقدّم، أم فقط لتلعب الدور الجديد الذي خططت له شركات التجميل والموضة والديكور والماركات العالمية؟ إنّ صورة المرأة في الفضاء التجاري، كما في الإعلانات، تكاد تختزلها في جسد وزينة وذوق. بل أحيانًا تُستعمل صورتها لتسويق منتوجات لا علاقة لها بها، بدءًا من السيارات ووصولًا إلى التكنولوجيا، وكأنها هي "رمز الإغراء الشامل"، وصكّ الضمان التجاري. وفي ذلك اختزال ظالم، يُغيّب جوهر الإنسان لصالح صورة نمطية تسكن شاشات العرض ولا تعبّر بالضرورة عن واقع الناس. خرجت من السوق دون أن أشتري شيئًا، لكنني خرجت محمّلًا بأسئلة. هل السوق ما يزال مكانًا لاقتناء الحاجيات، أم صار فضاء يُعاد فيه تشكيل وعينا بأنفسنا؟ هل صرنا نقيس حريتنا بعدد الماركات التي نقتنيها، وعدد الصيحات التي نلاحقها؟ وهل ما يُقدَّم لنا بوصفه "تحرّرًا"، هو في جوهره إعادة ترتيب للاستعباد، لكن بلغة أكثر أناقة؟ ليست المشكلة في أن تستهلك المرأة، فذلك حقها الكامل، بل في أن يُعاد تشكيل حياتها كلها لتصير مجرّد عملية استهلاك متواصلة. ليس الخطر في أن تُنتج، بل في أن يتحوّل إنتاجها ذاته إلى وقود يضخُّ المزيد من السلع والعروض في دوّامة لا تنتهي. وفي النهاية، قد نجد أنفسنا نحن الرجال والنساء معًا، وقد فقدنا قدرتنا على التمييز بين الحرية الحقيقية، وحرية اختيار اللون المناسب للمنتوج المُعلن.