توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد بالمغرب    دموع الأم ووفاء الوطن.. لحظات استثنائية في حفل كزينة بالرباط    توقيف سيارة رباعية الدفع محملة بكمية كبيرة من المعسل المهرب ضواحي طنجة    البقالي يكتفي بالمرتبة 12 في سباق 1500 متر    تيزنيت: محاولة فاشلة لعصابة تسرق أسلاك الكهرباء و أنابيب السباكة النحاسية من منازل في طور البناء ( صور )    وثيقة l من حصار بيروت 1982 إلى إبادة غزة 2025: رسالة السرفاتي وأسيدون إلى ياسر عرفات تتحدى الزمن وتفضح جٌبن النٌخب    بطولة كأس أمم إفريقيا للمحليين (الجولة5/المجموعة2) .. مدغشقر تتأهل لربع النهائي بفوزها على بوركينا فاسو (2-1)    شكوك تحوم حول مستقبل نايف أكرد مع ويستهام    الطالبي يتألق في أول ظهور بالبريميرليغ ويقود سندرلاند لانتصار هام على وست هام    وقفات ومسيرات تضامنية مع غزة بعدد من المدن المغربية    رحلات طيران أرخص: جوجل تطلق أداة ذكاء اصطناعي للعثور على أفضل العروض    لقاء بين ترامب وزيلينسكي الاثنين المقبل بالبيت الأبيض    اكتشاف جيولوجي مذهل.. المغرب يكشف عن أقدم ديناصور من فصيلة "التورياسورات" بإفريقيا    المنتخب المغربي للمحليين يلعب آخر أوراقه أمام "فهود الكونغو" في "الشان"    السباح المغربي حسن بركة يحقق إنجاز السباحة حول محيط جزيرة مانهاتن في نيويورك    بركة .. أول مغربي يسبح حول مانهاتن    "حق تقرير المصير" في السويداء .. شعار يُغري إسرائيل ويمزق سوريا    أطباء القطاع الحر يطالبون الصيادلة بإثبات مزاعم التواطؤ مع شركات الأدوية    استقرار أسعار المحروقات في المغرب    هل يقود لفتيت حكومة 2026؟‬    معركة غزة تدخل مرحلة جديدة .. "القسّام" تواجه أشرس هجوم إسرائيلي    وكالة الغابات تصدر خرائط للمناطق الحساسة المعرضة لخطر اندلاع الحرائق    الجزائر تعلن سحب الحافلات القديمة    أغلب الأمريكيين يعتبرون الكحول مضرا بالصحة    دراسة: عشاق القهوة في مزاج أفضل بعد الفنجان الأول بالصباح    فتح الله ولعلو: المغرب والصين تقاسما شرف المساهمة في انتصار الحلفاء            بورصة البيضاء .. أقوى ارتفاعات وانخفاضات الأسبوع    مريدو "البودشيشية" يؤكدون استمرار منير القادري على رأس الزاوية    الحرارة المفرطة تفاقم أزمة المياه بالمغرب.. حوض ملوية في وضع حرج    صفقتان لتأهيل مطاري تطوان والحسيمة استعدادًا لكأس العالم 2030    بوليف: التحويلات المالية لمغاربة العالم ينبغي ترشيد استثمارها ويجب إشراك الجالية في الانتخابات التشريعية    تغيرات متوقعة في طقس السبت بعدد من مناطق المملكة    حموني: سنة 2026 ستكون "بيضاء" على مستوى إصلاح أنظمة التقاعد والمقاصة    برنامج "نخرجو ليها ديريكت" يناقش تحديات الدخول السياسي والاجتماعي المقبل    طنجة تتصدر الوجهات السياحية المغربية بارتفاع 24% في ليالي المبيت    اتلاف كمية من الفطائر (السفنج) الموجة للبيع في الشواطئ لغياب معايير الصحة    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    ابتكار أول لسان اصطناعي قادر على استشعار وتمييز النكهات في البيئات السائلة    ملتقى الثقافة والفنون والرياضة يكرم أبناء الجالية المغربية بمسرح محمد الخامس بالرباط    كيف أنسى ذلك اليوم وأنا السبعيني الذي عايش ثلاثة ملوك    غاب عن جل الأحزاب    في بلاغة الغياب وحضور التزييف: تأملات في بيان حزب الأصالة والمعاصرة بالعرائش !    عادل شهير يوقع أحدث أعماله بتوقيع فني مغربي خالص    أوجار: مأساة "ليشبون مارو" رسالة إنسانية والمغرب والصين شريكان من أجل السلام العالمي    تطوان تحتضن انطلاقة الدورة الثالثة عشرة من مهرجان أصوات نسائية    سفارة الصين بالرباط تحتفي بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء بعرض وثائقي صيني    صحيفة أرجنتينية تسلط الضوء على عراقة فن التبوريدة في المغرب    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    النقابات تستعد لجولة حاسمة من المفاوضات حول إصلاح نظام التقاعد    راب ستورمي وحاري في "رابأفريكا"    دورة سينسيناتي لكرة المضرب: الكازاخستانية ريباكينا تتأهل لنصف النهاية على حساب بسابالينكا    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تازة والأحواز..
نشر في هسبريس يوم 23 - 06 - 2025

هناك مناطق ومواقع مغربية لعبت أدوارا حاسمة في الصراعات العسكرية أساسا ثم السياسية، بسبب طبيعة المجال الجغرافي والتضاريسي، والذي تحكم إلى حد كبير في الدينامية البشرية والاجتماعية للمنطقة المعنية، فضلا عن الدور السياسي القائم على بروز دعوة دينية / عقدية أو قوة جديدة صاعدة، تريد أن تحل مكان السابقة، التي دخلت مرحلة الانحدار والتدهور، حسب القراءة الخلدونية للتاريخ والتي توافق مسار الإسلام وصعود العصبيات القبلية ومن ثمة، تأسيس الدول وازدهارها ثم تدهورها وانهيارها، على الأقل إلى حدود القرن الثامن وبداية التاسع الهجري، ويصدق هذا الأمر على بعض مناطق البلاد كمواقع سجلماسة وسوس وبعض مناطق الحدود ومجال طنجة ومنها ممر تازة الخطير بتعبير الأستاذ الراحل محمد زنيبر، حيث كانت السيطرة عليه تشكل منعطفا تاريخيا في مسارات أكثر الدول المغربية منذ عهد الأدارسة مرورا بإمارات زناتة والموحدين وبني مرين وانتهاء بالدولة العلوية، بل وكانت سلطات الاستعمار الفرنسي بالجزائر المحتلة تضرب لهذه المنطقة ألف حساب ومنذ وقت مبكر نسبيا، فأرسلت الجواسيس وتم تجنيد الباحثين وبعض العسكريين لهذا الغرض.
وفقا للمسار نفسه، يمكن التوجه من تازة والإطباق على فاس بسهولة أو العكس، أي الانطلاق من الممر نفسه والسيطرة على الشرق وحتى تلمسان، بل يستطاع التوجه من تازة نحو الريف ومعه منطقة كرت والمزمة (الحسيمة حاليا) ومليلة ومن ثمة الساحل المتوسطي وجنوبا إلى صحراء الظهرة وسجلماسة ومما يدعو للتوقف والبحث المتأني وطرح أسئلة كبيرة، كون منطقة تازة عموما، ظلت تزدهر وتشتهر إما في فترات ظهور الدول أو تراجعها وضعفها (مثلما حصل للمخزن العزيزي في بداية القرن العشرين كنموذج) ولذا، فقد عرفت منذ القديم تحركات تاريخية هامة من الشرق إلى الغرب أو العكس، عند تبلور حركات التمرد أو نهايات الدول ذاتها.
إن تأكيد دور العناصر الطبيعية في التاريخ ليس معناه، كما ذهب إلى ذلك الراحل عبد الرحمان المودن "الإقرار بأية حتمية جغرافية عمياء" بل التنبيه فقط إلى نسبية هذا الدور العكسية ضمن تجمعات بشرية ضعيفة التحكم في تلك العناصر، وخاصة على صعيدي ممر تازة وحوض إيناون وإن كان يغلب عليهما طابع المعبر، فقد شهدا مع ذلك استقرارا بشريا هاما علاوة على دينامية تاريخية متصلة.
تازة من المناطق المغربية التي نجد عبر تاريخها المتشعب ارتباطا جدليا بين المجال والزمان، فممر تازة الممتد عبر 40 كيلومترا من الشرق (رجم الزحازحة) وحتى الغرب (عقبة بني مكَارة ومشارف وادي أمليل) وبعرض يتراوح بين 500 م و3 كيلومترات، شهد دينامية بشرية متواصلة منذ أقدم العصور، حيث كان في الأصل حسب لوي جانتيل Louis" Gentil" الممر الوحيد الرابط بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، قبل آلاف السنين، وحدث أن تراجعت مياه هذا الممر (الذي كان بحريا ثم أصبح بريا) فتشكل في المقابل بوغاز جبل طارق، خلال الأزمنة الجيولوجية المتقدمة، ولذا قد نعثر في عدد من المواقع بمنطقة تازة لحد الآن على بعض القواقع البحرية، فضلا عن وجود مناجم للملح في هذه البقعة أو تلك من تلال مقدمة الريف خاصة وهي التي تشكلت خلال الزمن الجيولوجي الثالث وتكونت من طبقات طينية أساسا.
ونتيجة لتغوُّر المياه البحرية في عمق تضاريس المنطقة وفي غابر الزمان، تشكلت ما وصفها الأستاذ عبد الوهاب بن منصور بالثنايا إلى جانب الكهوف والمغارات، فهناك ثنية كردوسة شمال غرب تازة والمؤدية إلى مكناسة الغربية وهناك ثنايا راس الماء إلى الجنوب، وإذا اتجهنا نحو الجنوب الشرقي نجد ثنايا بني محْسَن في اتجاه كلدامان وثنية بولجراف ثم الفحَّامة نحو الشرق أي في اتجاه إمسون وملوية وثنية ماجوسة المحيطة بهضبة قرن النصراني، وأخيرا الثنية الكبرى بجبل الطواهر ويمر به وجوبا الطريق السلطاني الكبير الرابط بين فاس وتلمسان.
لم يثبت تاريخيا أن خضعت المنطقة للنفوذ الروماني وإن وجدت بعض القبور ذات الطابع القرطاجي، شرق وجنوب تازة خاصة، وهو ما جعل كومباردو "Compardou" يشير إلى قرية نيولتيكية بالمنطقة أقدم من وجود القرطاجيين بكثير، كما يربط بعض كهوفها "Troglodytes" ومن كان يقطنها من البدائيين بمدافن قديمة، بحيث اشتملت تلك الكهوف على مقابر بدائية "Sépultures".
يبدو أن الفيالق الرومانية قد وجدت عناء مستمرا بين موريطانيا الطنجية والقيصرية، وفي بعض المناطق الداخلية أيضا، فاضطر الرومان إلى بناء سور الليمس "Limes" والمار وسط جبال الريف إلى الشمال وهو ما ظل يشكل حدودا اصطناعية لدى الإمبراطورية الرومانية، خاصة بعد الحرب البونيقية الثالثة سنة 146 ق م، في مواجهة قبائل المنطقة البربرية التي كانت رافضة في ما يبدو للحكم الروماني، فليس من المستبعد أن يتخذ الجيش الروماني ممر تازة حاجزا مناسبا وصالحا لمثل هذه المواجهات، وأيضا يصدق الأمر على إمكانية معينة لاتصال الموريطانيتيْن، عبر حوض ملوية وممر تازة، دون أن يعني ذلك خضوع هذه الناحية للحكم الروماني، رغم اكتشاف نقش لاتيني من طرف الفرنسيين بواد بوحلو أقصى غرب منطقة تازة تحت رموز "B ,C ,T,H" وقد تبين للباحثين أن الأمر يتعلق ببقايا معسكر للجيش الروماني، ولا يدل على أي استقرار دائم أو شبه دائم، وقد امتد الحكم القبلي المحلي بالمنطقة طيلة فترات الوندال والبيزنطيين حتى مجيء العرب والمسلمين، حيث عرفت الناحية في الفترات الأولى مقاومة مستميتة للفتح العربي، ويطالعنا اسما أوربة ومكناسة، ثم بعد ذلك غياثة وتسول والبرانس كما نلاحظ بقايا الديانتين المسيحية واليهودية بل والمجوسية والوثنية أيضا في المنطقة إلى حدود مجيء الشرفاء الأدارسة، حيث انضمت مكناسة وعموم قبائل الناحية إلى الدعوة الإدريسية فناصرت كلا من إدريس الأول ثم الثاني.
من المفارقات الغريبة التي يمكن تسجيلها في هذا السياق، ضمن العلاقة بين المجال والزمن (التاريخ) أنه بقدر ما أضفى الموقع الجغرافي والتضاريس إلى حد كبير أهمية بالغة بالنسبة للجيوش والقوافل التجارية والحجية، باعتبار ممر تازة وحوض إيناون طريق مواصلات هام حسب فوانو "Voinot"، بقدر ما جلبت تلك العناصر جوانب سلبية شتى وصلت إلى مستوى المآسي أحيانا والتي عانت منها ساكنة تازة عبر العصور وبشكل أقل ساكنة الأحواز، ومفهوم الرباط نفسه الذي أطلقه ابن خلدون على تازة كانت له علاقة بما هو عسكري وحربي أكثر من أي شيء آخر وذلك باختلاف يكاد يكون جذريا عن أربطة أخرى عرف عنها طابعها الديني والحربي معا ومنه لفظ المرابطين نفسه.
يزيد من تعقد الوضع المجالي للمنطقة إضافة إلى مجاورة الريف للأطلس المتوسط وجود عدة أودية حول ممر تازة وحوض إيناون كواد لحضر وواد بوحلو وواد الأربعاء وواد الدفالي وواد أمليل وواد الهدارواد الزيرك وواد بوزملان وواد بولجراف وواد مطماطة، كما أن حوض إيناون نفسه يتوسط حوضين كبيرين هما: منطقة ملوية ومجال سبو مما يكسب ذات الناحية طابعا حوضيا، وحيث تتوفر المياه والأراضي الخصبة، الشيء الذي أجج صراعات مختلفة بين قبائل المنطقة منذ القدم ونذكر هنا توسع مجموعة بني وراين باتجاه شمال الأطلس المتوسط وتمدد غياثة على حساب مكناسة بدءا من القرن الحادي عشر الميلادي انطلاقا من الجبل ونحو المنخفضات والسفوح.
لقد ورد طريق فاستازةوجدة وتلمسان عند الإخباريين القدماء كابن حوقل والبكري والحميري، وببعض التفاصيل يتم ذكر المواقع والقرى المختلفة الواقعة بين هذه المجالات، وقد تُذكر معها قبيلة مكناسة الزناتية، علما بأن مجالها يشكل الطريق الآخر بين فاس وتازة عبر الحياينة وتسول ثم مكناسة الغربية (حاليا) ويذهب البعض إلى أن هذا الطريق وإن كان محاذيا هو الآخر لممر تازة، فإنه أكثر أمنا من الطريق الذي يسير مع مجرى نهر إيناون رغم قصر مسافته، والسبب الأساس في ما نتصور هو سيطرة قبيلة غياثة القوية على ضفته اليمنى المحاذية لنفس الطريق، وما يمكن أن يتعرض له المسافرون من مخاطر، ولا بد هنا أن نستثني حملات الجيوش في العصور الوسطى وبعض الحركات خلال دول بني مرين والوطاسيين والسعديين ثم العلويين، الشيء الذي جعل المسافرين وحتى المكتشفين أحيانا يلجؤون إلى الزطاط (وهو المرافق المسلح الذي يضمن أمن القافلة) أو إلى ما سمي ب"الضامنْ" وهو يحمل نفس المعنى بالتقريب، يورد الأستاذ عبد الأحد السبتي في كتابه "بين الزطاط وقاطع الطريق" بيتين زجليين حول أهمية كل من الزطاط والضامن خاصة خلال القرن التاسع عشر:
شَرًبو من الواد الهدار ..... وطًلْقو فتازة بلا زطاطْ
شربو من الوادْ الهدار..... وطَلْقو فتازة بلا ضامنْ
والمقصود بتازة هنا كما هو واضح ليس المدينة في ذاتها وإنما أحوازها وخاصة ممرها ومعه حوض إيناون، مما كان يعرف في بعض الفترات ببلاد تازا أو تازة.
من جهته يحدد عبد الواحد المراكشي المسافة بين تازا وتلمسان بسبعة مراحل (ج مرحلة أي يوما كاملا من السفر) بمعنى سبعة أيام من تازة شرقا نحو تلمسان وثلاثة أيام غربا نحو فاس، وهو ما كان يسمى منذ القديم "طريق السلطان" حسب بوارمور "POIRMEUR" وقياس المراكشي يجب تناوله بمعايير تلك الفترة لا بالمقاييس الحالية.
وتشكل تازة البوابة التي تلقت الكثير من الأحداث الجسيمة سواء من جهة الشرق (غالبا) أو الغرب (في حالات قليلة)، حتى أن هنري تيراس "H .Terrasse" وصفها بأنها "المنطقة القوية التي كانت تحمي فاس" ويمثل لذلك بالصراع الطويل المنهك الذي احتدم بين بني مرين بفاس وأبناء عمومتهم من بني عبد الواد بتلمسان، وهو صراع لم يتراجع إلا مع ضعف الدولتين معا، الشيء الذي خلف خرابا كبيرا على صعيد المباني والمنشآت العمرانية في بعض الفترات ولنا في هدم القصر المريني الفخم بتازة الذي أشار إليه ابن خلدون مثالا واحدا من عدة نماذج.
صحيح أن مختلف المناطق المغربية شهدت حركات تمرد أو جهاد أو محاولة بناء دول جديدة على أنقاض أخرى متدهورة، كمناطق السوس وأزمور وآسفي والرحامنة والريف والأطلس والصحراء وغمارة والغرب وقبائل الحدود (منذ احتلال الجزائر في 1830) وطيلة فترات تاريخية متعاقبة، لكن الوضع بالنسبة لتازة وأحوازها كان أكثر حدة وتواترا بسبب العوامل المجالية والبشرية التي ذكرنا بعضها.
الأخباريون في العصر الموحدي لم يعدموا إشارات هامة حول المنطقة بعضها مثير فعلا، كطرد ساكنة أمليل (وادي أمليل ؟) للمهدي بن تومرت داعية الموحدين عند عودته من الشرق حوالي سنة 515 ه/ 1121 م حسب ما يورد أبو بكر الصنهاجي المكني بالبيذق، ويعتمد عليه شارل اندري جوليان "Charles André Julien" في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية / ج 2" ويقر البيذق بمقتل الآلاف ضمن عملية الاعتراف الرهيبة التي تمت في عهد عبد المومن من بين ساكنة وقبائل المنطقة كبني مكود وفروع من مجموعات الأطلس المتوسط، فضلا عن تازة نفسها التي قتل فيها المئات من الناس.
رغم أن فتح المنطقة كان أيسر على الموحدين مقارنة بالمرابطين الذين استغرقوا ست سنوات في إخضاع قبائلها ومجالاتها، لكن العصر الموحدي لم يك يخلو من مظاهر عداء تعبر عنه ساكنة المنطقة تجاه دولة المهدي بن تومرت، سواء في عهد الخليفة عبد المومن أوفي عصر ابنه يوسف، رغم الحديث عن ازدهار الطريق التجاري (السلطاني في ما بعد) بين فاس وتلمسان وتألق زراعة الزيتون وصناعة الخزف في نفس العصر، فقد قامت ثورتان الأولى سنة 543 ه/ 1148 م لما انهمك عبد المومن في إخماد ثورة سبتة والثورة الثانية حدثت سنة 559 ه/ 1163 م بزعامة مرزدغ الصنهاجي الذي ثار بغمارة ثم اتجه نحو تازة، التي سيطر عليها وسك بها نقدا فريدا كتب على وجهه "مرزدغ الغريب نصره الله عن قريب" كما نكل بأهلها كما تقول مصادر الفترة، حتى تمكنت جيوش يوسف الموحدي من القضاء عليه، ويعزو الباحث حسين أسكان سبب هذه الثورة إلى حرمان قبائل المنطقة من ملكية أراضيهم وهو افتراض تاريخي بدليل استعانة صاحبه بكلمة "يوحي" لكنه مؤسس منهجيا وعلميا.
عادت الحركية التاريخية إلى المنطقة مع بدايات المرينيين حيث حدثت أول مواجهة بينهم وبين أواخر الموحدين بتازة سنة 613 ه/ 1216 م أي قبل فتح مراكش عاصمة الموحدين ب 55 سنة وبناء فاس الجديد (المرينيين) سنة 674 ه/ 1275م، وشهدت المنطقة أحداثا تاريخية مؤثرة تمثلت في الصراع المريني العبد وادي من جهة والصراع الداخلي ضمن الأسرة المرينية من جهة أخرى، دون إغفال لحظات حضارية فريدة كإصلاح وتوسعة المسجد الأعظم بتازة ووضع الثريا الشهيرة سنة 694 ه/ 1294م ثم تهيئة خزانة المسجد العامرة وبناء المدارس والفنادق والمساجد وغيرها.
تحولت طبيعة الصراع مع الشرق، منذ مستهل القرن السادس عشر الميلادي في منعطف تاريخي عند احتلال العثمانيين للجزائر بقيادة عروج وخير الدين سنة 1517 م / 922 ه وباسم الجهاد البحري ضد المسيحيين وكان ظهور الأشراف السعديين بجنوب المغرب، في الفترة نفسها عاملا هاما أيضا، حيث استعر الصراع بين الطرفين، باستثناء فترات سلم وتعاون حذر مع السلطانين عبد المالك ثم أحمد الملقب بالمنصور، وقد كان لمنطقة تازة نصيب وافرمن هذا التجاذب خاصة بين سنتي 1553 و1576م.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي عرف المغرب أوج التمزق السياسي بعد تدهور الدولة السعدية، حيث توزعته عدة إمارات وزعامات كالدلائيين في الأطلس المتوسط وآل النقسيس والخضر غيلان بتطوان والناحية والسملاليين بسوس وأواخر السعديين وبعدهم عرب الشبانات بمراكش ثم العلويين بتافيلالت، حيث بويع هناك مولاي امحمد (فتحا) ولكن البيعة لم تكن شاملة وعامة، فاستغرق الأمير العلوي كل جهوده في شرق المغرب وأجزاء من غرب الجزائر، وما لبث أن نشب الصراع مع أخيه المولى الرشيد الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة الأشراف العلويين، فبعد قضائه على إمارة آهارون بن مشعل الذي كان جبارا مستبدا بالمنطقة وذلك بمساعدة زاوية عبد الله اللواتي بتازة، اتخذ المدينة عاصمة له حسب إبراهيم حركات سنة 1663م/ 1073ه قبل أن يسيطر على فاس بالاعتماد على عرب شراكَة والأحلاف ثم قبائل ممر تازة، التي قدمت بيعتها للعاهل العلوي، حسب ما ورد عند فوانو "Voinot" وسقط أخوه مولاي امحمد في أول مواجهة بينهما بفحص أنجاد في يونيو 1664، ثم هاجم فاس أربع مرات إلى أن تمكن منها سنة 1666 م/ 1076 ه وعرفت تازة استقبال مولاي الرشيد للتاجرين الفرنسيين فريجوس "Fréjus"، وذلك في أفق إقامة علاقات تجارية بين فرنسا ومملكة فاس (المغرب) كما قام المولى الرشيد بتحويل دار المخزن من جوار المسجد الأعظم إلى الجنوب الشرقي للمدينة قرب البستيون، وأدخل عدة إصلاحات على مسجد تازة الأعظم.
تتوالى المحطات مدا وجزرا وتشاء الأحداث التاريخية أن تشهد المنطقة العديد من أشكال التمرد التي كانت تستهدف غالبا السيطرة على السلطة كتمرد الناصر ضد عمه أحمد المنصور السعدي، وثورة أحمد بن محرز سنة 1673م / 1084ه وكل منهما اتخذ تازة موقعا متقدما له في مواجهة قوات المخزن، لا بل تم قصف البستيون السعدي الذي لجأ إليه ابن محرز وحاول عبيد المولى اسماعيل ومساعدة خبراء فرنسيين حفره للظفر بالمتمرد لكن دون جدوى، فقد فر ابن محرز إلى تارودانت ثم ما لبث أن خلا الجو للمولى اسماعيل.
"ارحل عن تازا قاصدا مليلة وفي العاشر من هذا الشهر أكون بحول الله قد وصلت إليها... لنسترد من إسبانيا جميع حقوقنا" هذا الخطاب الممتلئ عزما وإقداما على تحرير مدينة مليلة، لم يكن غير رسالة السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي موجهة إلى صهره عبد الله الرحماني عامل الرباط في أوائل دجنبر 1774م / 1188ه، فقد توجه السلطان وجيوشه من مدينة مكناس ففاس ثم تازة التي انطلق منها لتحرير مليلة / مليلية من الاحتلال الإسباني، وطبعا لم يكتب لهذه المحاولة النجاح بعد حصار دام ثمانية وتسعين يوما لأسباب متعددة ليس هنا مجالها.
في الفترات الحرجة التي هدد خلالها الجيش الفرنسي أطراف البلاد، أيدت قبائل المنطقة الأمير عبد القادر الجزائري في مقاومته، وتحت نفس ادعاء راية الجهاد، ظهر كل من بوعزة الهبري ثم الدعي الجيلالي بن ادريس اليوسفي الزرهوني الملقب ب "بوحمارة" باسم مولاي امحمد الابن البكر للسلطان الحسن الأول، ومع تغلغل الجيش الاستعماري، عرفت المنطقة بروز عدد من "سلاطين الجهاد" كعبد المالك بن محيي الدين ومحمد بلمامون الشنجيطي ومولاي الكبير وصولا إلى المولى عبد الحفيظ، في خضم البحث اللاهث عن زعامة تاريخية، تستطيع رفع لواء الجهاد والدفاع عن البلاد، أمام خطورة تمدد الجيش الاستعماري شرقا وغربا.
كان أغوستان برنار "Augustin Bernard" قد نبه في أحد تقاريره ضمن ملفت "حوليات جغرافية" "Annales de Géographie" سنة 1913 إلى أهمية ممر تازة لدى مخططي الحماية الفرنسية بقوله "ما دام هذا الطريق ليس بين أيدينا، فإن وحدة إمبراطوريتنا الإفريقية ستكون محفوفة بالأخطار" ويضيف أيضا "فإن وجود معقل للتحريض ضدنا سيجعل الأمر خطيرا بسبب الموقع الاستراتيجي" وخلال الثورة الريفية كان ممر تازة محل رهان حاسم بين مجاهدي الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي والجيش الفرنسي الذي ذاق عدة هزائم في ربيع 1925، كما تم قطع الخط السككي بين تازة وجرسيف قبل أن ينقذ التحالف الاستعماري الوضع ومعه الجيوش الجرارة المسلحة بأحدث العتاد آنذاك.
لقد عينت فرنسا على غياثة ادريس المجاطي قائدا للمنطقة، فاستطاع بأساليب السياسة حينا والبطش والقمع المختلف الأشكال والألوان حينا آخر إخضاع تلك القبيلة، رغم أنه دفع الثمن غاليا في ما بعد، حين اغتاله مجاهدو جيش التحرير بمدخل ساحة أحراش/ تازة العليا، عشية الاستقلال مساء يوم 26 فبراير 1956م.
هذا غيض من فيض، ويبقى الإشكال الكبير الذي واجه المنطقة بعد الاستقلال يتلخص في ما وصفه الراحل الحسن الثاني أثناء زيارته لتازة في 17 ماي 1970 ب"التحويل" أي تغيير الوظيفة الاستراتيجية والعسكرية لهذه الناحية، برؤية اقتصادية واجتماعية تنموية، لصالح الساكنة واعترف الملك الراحل بأن هذا التحويل جابهته بعض المصاعب في تازة وطنجة آنذاك، رغم إقراره بوجود مؤهلات هامة طبيعية وتاريخية، وهي الإمكانيات التي يتيحها تصنيف تازة تراثا وطنيا وفقا لمرسومين حكوميين سنة 2017 و2019، علاوة على ما تمتاز به من مؤهلات في مجالي السياحة الجبلية والاستغوارية "Spéléologie" ثم الثقافية والاستشفائية ومن جهة أخرى، إتاحة فرص الاستثمار المنتج للعمالة المهاجرة، وإنعاش الأحياء الصناعية بالمدينة والمراكز الحضرية التابعة للإقليم، ما يفرض التصدي للتحديات الملحة ومعها أسئلة التنمية المجالية المندمجة وفي أفق جهوي عادل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.