في مغرب اليوم، حيث يكثر الحديث عن دولة القانون والمؤسسات، وتتردد الشعارات حول إصلاح منظومة العدالة وتعزيز استقلالية القضاء، تتوالى حوادث تُذكّرنا بأن الطريق لا يزال طويلاً أمام تكريس قضاء محصن من المال والنفوذ، قضاء يُطبّق على الجميع بنفس المعيار، بلا تمييز ولا استثناء. قصة الطفلة "غيثة"، التي كانت على وشك أن تفقد حياتها في حادث مأساوي على شاطئ سيدي رحال بالدار البيضاء، ليست مجرد واقعة مؤسفة عابرة، بل مرآة صادمة تعكس عمق الإشكال حين تتقاطع براءة الضحايا مع غطرسة المتنفذين الذين يظنون أن ثرواتهم تحميهم من الحساب. بدأ كل شيء بيوم صيفي عادي في يونيو 2025، حين قرر أب بسيط اصطحاب ابنته الصغيرة إلى البحر لقضاء يوم استجمام هادئ. لحظة عائلية بريئة ومألوفة تحوّلت في ثوانٍ إلى فاجعة. سيارة رباعية الدفع تقتحم الشاطئ بشكل طائش، تجر خلفها دراجة مائية، وتصدم الطفلة بشكل مباشر، فتُطرح أرضًا وتدخل في حالة حرجة. إصابات بليغة في الرأس والفك، ونزيف دماغي خطير كاد أن يودي بحياتها لولا التدخل الطبي العاجل الذي أنقذها بعد عملية جراحية دقيقة على جمجمتها الصغيرة. إلا أن الكارثة لم تنتهِ عند هذا الحد. فالجرح الجسدي سرعان ما لحقه جرح معنوي أعمق. في اليوم الموالي للحادثة، طالبت إحدى قريبات الطفلة، مدفوعة بالألم والغضب، إن من ارتكب هذا الفعل يجب أن يُعاقب، فجاءها الرد الصاعق من أحد أفراد عائلة السائق المتهور: "حنا عندنا الفلوس". جملة من ثلاث كلمات فقط، لكنها كفيلة بهز الضمير العام، لأنها تختزل عقلية ما زالت تعتقد أن العدالة سلعة، وأن النفوذ يُسقط العقوبة، وأن القانون لا يُطبّق إلا على من لا سند له ولا مال. ما وقع في سيدي رحال ليس حادثًا منعزلاً، بل ينتمي إلى سلسلة طويلة من التجارب التي عاشها ولا يزال يعيشها مواطنون مغاربة كثيرون، حين يُجبرون على اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال صوتهم، في ظل شعورٍ بأن الأبواب الرسمية قد تُغلَق في وجوههم إذا كان الطرف الآخر "ثقيل الاسم" أو "واسع العلاقات". لقد أصبحت مواقع التواصل، في بعض القضايا، بديلًا شعبيًا غير رسمي لتحريك المساطر، وهو أمر مقلق لأنه يكشف هشاشة الثقة في المؤسسات القضائية، مهما تقدمت النصوص القانونية. ورغم أن النيابة العامة تحركت بسرعة وفتحت تحقيقًا رسميًا وتم اعتقال الجاني، فإن مجرد الإحساس الأولي الذي ساد لدى الأسرة – وهو الإحساس بالهوان، بالخوف، بعدم المساواة – كفيل وحده بإدانة الوضع. فالقانون لا ينبغي أن يُفعَّل بعد موجة غضب، بل يجب أن يُطبَّق تلقائيًا، بنفس الحزم، على الجميع، دون حاجة إلى "هاشتاغات" أو عرائض إلكترونية. ومن باب الإنصاف، لا يمكن إنكار ما تحقق في العقدين الأخيرين من إصلاحات. لقد شهدنا في المغرب محاكمات غير مسبوقة شملت وزراء ومسؤولين نافذين، وتم فتح ملفات فساد مالي وسياسي ظلت لسنوات في طيّ المسكوت عنه. إنها خطوات مهمة بلا شك. غير أن العدالة، كما يعلم الجميع، لا تُقاس بالحالات الخاصة والاستثنائية، بل بالمنظومة العامة، بالسلوك اليومي، بثقة المواطن البسيط في أن حُكم القاضي لا يتأثر لا بهاتف مسؤول ولا باسم العائلة. إن استقلال القضاء ليس ترفًا مؤسساتيًا يُمنح للدولة حين تزدهر، بل هو أحد مقومات استقرارها وازدهارها من الأساس. إنه، إلى جانب التعليم والصحة، من ركائز رفاهية المجتمعات وتقدّمها الحقيقي. فحين تُجرَح العدالة، تنهار منظومة الأخلاق، وتُفرّغ المؤسسات من معناها، ويُفتح الباب على مصراعيه للاحتقان واللا ثقة، بل وللعنف الرمزي أو حتى المادي. ولا يمكن أن نتحدث عن استقلالية القضاء دون أن نستحضر مسؤوليتنا الجماعية في توفير الحماية الكاملة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والضابطة القضائية، حماية قانونية وأمنية واجتماعية، تجعلهم في مأمن من أي تأثيرات قد تُملى عليهم من مراكز النفوذ، سواء أكانت ترهيبًا خفيًا، أو محاولات استمالة ناعمة. إن من نحمّله مسؤولية حماية العدل، لا بد أن نحميه بدورنا، ماديًا ومعنويًا، من كل محاولة لإفساد ضميره أو التأثير على استقلاله. ولعل القصة التي رواها الضابط السابق عبد القادر الخراز في قناته على اليوتيوب، والتي تعود إلى أواخر السبعينيات، تظل درسًا عميقًا في هذا الباب. فقد تم حينها اختطاف واغتصاب طالبة جامعية من طرف ثلاثة مجرمين، أحدهم ابن شخصية نافذة في الرباط. الشرطة القضائية والنيابة العامة ترددت، وحتى القضاء بدا مترددًا امام عجرفة المجرم النافذ. ولكن رئيس الشرطة القضائية حينها قرر كسر الصمت والخوف، ورفع الملف الى رئيسه، الذي بدوره رفعه الى المغفور له الملك الحسن الثاني. وفعلاً، لم تمر أيام حتى صدر الحكم بالسجن عشرين سنة نافذة في حق كل المتورطين، وتم عزل والد الجاني من منصبه الرفيع. كانت العدالة صارمة، لكنها لم تتحقق إلا بعدما تدخّلت أعلى سلطة في البلاد. فهل يُعقل أن نحتاج إلى تدخل ملكي أو أية سلطة عليا أخرى لتحقيق العدالة؟ هل هذا هو القضاء الذي نريده لبلدنا الحبيب؟ بالتأكيد لا. نريد القضاء المستقل، القوي، المتجذر في مؤسسات الدولة؟ اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحن في حاجة ماسة لبناء ثقافة قضائية جديدة. ثقافة تجعل من القاضي شخصية شجاعة، قوية، نزيهة، تحكم بضمير، وتضرب بيد من حديد على كل من تسوّل له نفسه التأثير على مجرى العدالة، أو محاولة شراء الذمم. لأن القاضي الذي يبيع ضميره لا يفرّط في قضية واحدة، بل يهدم جزءًا من أساس المجتمع برمّته. العدالة لا يجب أن تُستجدى، ولا أن تنتظر الضغط الشعبي لتتحرك. يجب أن يكون صوت المواطن، كيفما كان وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي، كافيًا لفتح تحقيق، كافيًا لاستدعاء، كافيًا لاسترجاع الثقة في أن هذا الوطن يسع الجميع ويحمي الجميع. من أجل غيثة، ومن أجل كل طفل قد يُدهس غدًا على رمال شاطئ أو تحت عجلات نفوذ، ومن أجل كل أبناء هذا الوطن، يجب أن نؤمن بأن العدالة إما أن تكون للجميع، أو لا تكون. والعدالة التي تتخاذل أمام الجاه والثروة، هي عدالة تفقد شرعيتها ومبرر وجودها، وتزرع في النفوس أن الدولة تُدار بالوساطات لا بالقانون. وذلك أخطر ما يمكن أن تواجهه أي أمة تسعى إلى البناء. *أستاذ باحث في علوم الطب الحيوي معهد قطر لبحوث الطب الحيوي/ جامعة حمد بن خليفة