عندما رامَت الباحثة الأكاديمية المُقارِنة الدكتورة فاتحة الطايب سؤال: ماذا نكتب في الإبداعية السردية عموما والقصص خصوصا؟ وبعد إعادة-قِراءة القصص، استضاح لنا أنها تُحيل على حدود العلاقة بين الإنتاجية الإبداعية السردية والمعرفة المُنفتِحة على مسارات التكوين وتداخل الحقل الثقافي والتاريخي بالهوية المغربية، في المقام الأوّل هي كتابة الحُب بالحب، بمعنى أن الكلمات التي تحمل خطاب القصص هي علامات سلطة تتدرج في اتجاه وصف وتصنيف شكل من صمت التاريخ. بعيدا عن الكتابة في حقل الدراسات الأكاديمية والفكر النقدي والترجمة اقتحمت الباحثة حقل الكتابة الإبداعية لتفجير السرد القصصي وإعادة كتابة تلُّفظ الماضي وإزالة الغبار عليه، إنها حداثة القصص المعرفي وإعادة إقحام المتلقي في تاريخ لم يُكتب، إذن هي «الكِتابة العاصِفة»، «أحب العاصفة: لا نعرِف بماذا نعتصم، فشجرة كبيرة يمكن أن تصبح خطيرة بجلبها للعاصفة (...) أحب السماء صافية: ...تنشد العصافير ألحانا متنوعة لأحبائها والنهر الباهر يجري بهدوء (...). النهر... ينتظر ساعته» (القصص، ص.68). هذه الكتابة العاصفة، تشترط ثبات موسوعي معرفي وذاكرة تاريخية تمتد إلى ما قبل الميلاد وتحيل على هوية الأرض الأمازيغية في تنوع ثقافتها، هي الأرض الأم التي تمنح كل شيء بدون مقابل، هذا شكل آخر من الحب الأسطوري كمرآة بحيرات الأطلس. -). إعادة-تلُّفظ المعرفة التاريخية. إنّ إعادة قراءة القصص المؤطرّة داخل عنوان رئيس موسوم ب: «حب لا يحتاج إلى ترجمة» تستدعي بالضرورة ترتيب الكلمات النقدية وِفق ما أنتجته الكاتبة أكاديميا من خلال مؤلفها: "الترجمة في زمن الآخر: ترجمات الرواية المغربية إلى الفرنسية نموذجا". والصادر في طبعتين؛ الأولى عن المركز القومي للترجمة 2010، والثانية عن دار الأمان، المغرب، 2018. لماذا هذا المفتاح القرائي للقصص؟ لأن "الكتابة لا رِفق لها، إنها تخنق الآخر" يقول بارت. أيضا الإنتاجية الإبداعية التي وسمتها الكاتبة ب "قصص"، يمكننا أن نقول وببساطة: إن ترجمات الثقافة المغربية ليست هي ترجمات حب الهوية المغربية، فرق شاسع بين هذا وذاك، ومن ثمّة نقول، إن القصص تُمسرِح الكلمة "الحب" باعتباره سردية الهوية في علاقة بتكثيف الرمز الثقافي الأمازيغي ووفرة تجذير مقاطع من زمنية الحياة في امتدادها وتوترها بجغرافية "الأطلس"، وتعمدنا إدراج الكلمة "الأطلس" بدون صفة جغرافية تحيل على التَّموقُع والتصنيف حتى لا ننزلق وراء تصنيفات تمزِّق التحليل ومن ثمّة تأخذ الكلمة المعنى التّام لها وهو: "التحليل الحياة"، تقول الكاتبة فاتحة الطايب في قصصها: "لاطعم للحياة دون ركوب مغامرة المستحيل..." (قصة حب لا يحتاج إلى ترجمة، ص.37). يثبُتُ لدينا أن الملفوظ يؤشر على العطاء والإيثار والمتعة والقوّة السردية، بمعنى تقول سأقدِّم لك أيها القارء شكل سرد قصصي آخر وأتعمَّد خنقك، حيث تناولت روعة اللوحات الفنية وكذلك العزف واللحن الموسيقي باعتبارهما إحدى قمم الفن العالمي، بمعنى أن التاريخ الأطلسي يحضر في فضاء غير فضاء المغرب الدامِج للأغنيات الأطلسية. ما الدّاعي إلى قول هذا؟ هو أن الكاتبة استهلّت قصصها في الصفحة 13، من خلال عتبة تمفصلت إلى: صورة بصرية: تؤشر على البحيرة الأسطورية باعتبارها مرآة للسماء ومن ثمّة نستضيح التقابل الدلالي بين السماء والأرض والعلاقة التي تُعضد التقابل هو مُقوِّم "الماء"، إنه الفضاء المقدس، وعليه نستنتج أن ماء البحيرة توظفه الكاتبة باعتباره مرآةً مُقدَّسة. صورة لغوية/ لسانية: تؤشر عليها الكاتبة بأنها تناص من ثاماوايت في تقابل لسانيين: الأمازيغي/ العربي والقابلية للتأويل وليس الترجمة، تقول: «أوسيخْشْ أَلْمري ذاوْرْ عْقِّيلْخْ إِيْخْفينو أورْثْنوييزْ أَلِّيكْ آرْساوالْخْ «نظرتث إلى المرآة فلم أتعرّف نفسي ولما كسرت جدار الصمت استرددت ملامحي». (ص.13). قلق الفضاء: الشرق الذي أجاوره ليس واقعيا: هذا التناص المكاني باعتباره تطريزاً ثقافيا مغربيا خفيفاً، يؤشر على الاختلاف الثقافي بين المغرب وباقي الدول الواقعة شرق جغرافيته وأيضا جغرافية الجيران، إذن ها نحن نتدرج في تقابلات فضاء القصص، إنه ثقافة تقطع مع الشرق وتحيل على فضاءات ما وراء البحر الأبيض المتوسط؛ الشاهِد عندنا هو، يقول أوجين دولاكروا من خلال رحلته إلى المغرب: "إن المغرب بلداً وناساً ليسوا صورة "ناس المشرق"، (...) والطبيعة الفسيحة البكر التي تركض عبرها خيول قويّة شرسة يركبها فرسان محاربون لا يملّون من لعب البارود وانتشاق رائحة البارود"، وبتعبير الباحث المغربي عبد الكبير الشرقاوي يقول: "لقد اكتشف دولاكروا في المغرب بلدا لا تزال روح العصر القديم، عصر الرومان والإغريق، تحيا فيه وفي الدِّماء الحارّة ل "أبناء الشّمس" كما يسمّيهم...ولم ترد فيما كتبه دولاكروا عن المغرب، لفظة "الشّرق"، إذ أنه منذ البدء أدرك اختلاف هذا البلد عن البلاد الإسلامية الأخرى الواقعة تحت حكم الأتراك. من خلال وصف وتصنيف أوجين دولاكروا، أن الفضاء الذي قاربته الكاتبة في قصصها هو فضاء روحي له امتدادات حضارية لم تعرف غزو الأتراك، ولم يكن فضاءً مُستعمَرا قطُّ، وخطاب القصص ينتقل في فضاءات مختلفة لكنه يحمل هوية باعتبارها رمزية الجنس الخالص الذي لم يحتل ولا يستعمر ولم يكن غازيا أبدا، إنها حضارة تؤشر على ما قبل الرومان والإغريق، أيضا خطاب القصص يُفضي إلى استحضار مقولة القوّة عند الحضارة الأمازيغية في بداياتها قبل الإغريق والرومان وكذلك اليونان، أطلس أسطورة قوّة المحيطات والجبال، والعلاقة التي تؤسس لها المجموعة القصصية هي العلامات الدّالة على كلمة "الماء". أمّ الربيع، وكما يقول غاستون باشلار: 'إن قوّة المصب تنبع من قوّة المنبع"، هنا تتجلى قوّة منبع الكتابة ولا يهم كيف وأين هو المصب فليس بالضرورة غربا وإنما شمالا، إنه مصب موسوعي معرفي-ثقافي، وهذا التدرّج في الصعود بدءا من السفح المصب المعرفي الإبداعي في اتجاه المنبع المعرفي الأكاديمي للكاتبة يستضيح دلالة "لا يحتاج إلى ترجمة". الماء المقدس، ماء فضاء الأطلس باعتباره دينامية خطاب الحب. كل الأغنيات الأمازيغية رامت تقديس البيئة، وارتكزت حالات شعلة الانتظار بدون ملل ولا كلل ولا انطفاء؛ انتظار الرجال، الحمام الطائر، فهل يستطيع أحدا أن يُترجم "الماء" ماء البدايات الأولى في الأطلس وارتباطه ببحيرة "أكلمام أزكزا" بفضاء خنيفرة وهو فضاء دامج لفضاءات مدمجة وإن كانت جغرافيتها أكبر مساحة منها، مثلا فضاءات فرنساوباريس وأحياءها القديمة التي يفضحها ماء المطر، وفضاءات جورجيا، والنرويج، حيث إن الفضاء هنا يُحيل على هُوية حقّة داخلية أو هو "شعلة" وقد يكون قنديلا، تقول الكاتبة في قصة (لا تأت ومعك كل الحقيقة): "لا تجلب المحيط لتروي عطشي وضياء السماء وأنا أطلب قنديلا، تعال وبيدك شعلة، ندى نتفة، تعال كما الطيور تنقل، بعد حمام، قطيرات الماء وكما ينقل الريح حبة ملح." (ص.14). يبدو أن المحيط هو "أطلس" وأطلس إله المحيطات في الحضارة الأمازيغية، بمعنى ما تمتلكه ذات الكاتبة أكبر مما يجاهد نفسه الآخر في جلبه، وهل الماء اللا-نابع من أرض القداسة عيون أم الربيع يضاهيه نقاء وصفاء ماء آخر؟ لا أعتقد، والكلمة الماء تحقق تراكما قوّيا في القصص: (أنوار باريس في أبريل... ومطر صديق يكشف جمال أحياء المدينة العريقة، أحياء تتجوّل فيها كما لو أنها شهدت نشأتها) (ص. 18). هذا الملفوظ السردي هو ملفوظ قيمة تاريخية: حيث الماء يتخذ شكل الإنسان الطيب الصديق الذي يكشف عن كل الجميل والقبيح ولا يتصنع الكذب وكلاب الحراسة عند الزيارة، تقول في قصة "رحب بنا في روضتك": "...خفنا أن نفوت موعدنا مع "الكبار"...، أولئك الذين رسخوا في نفوسنا أنهم وحدهم الكبار...ولا نزور سوى رياضهم، التي لا يزال حراسها منذ "الحملة" يستقبلوننا بكلاب حراسة تنبح وقبضات يد تهدد، وصراخ مسعور مسترسل يدوي في أرجاء المعمور" (ص. 15). الماء هذا المشروب الأمومي الأوّل، إنه اللا-سراب بمعنى إنه الحياة في المقام الأوّل، ويتناسل السرد ليستضيح عن دلالة صورة الغلاف، وهي صورة بصرية خامّة تقول حقيقة الحب، وتفضي إلى تمظهرات خطاب الذات الساردة، وهو "خطاب المُحِبُّ"، ومن بين التمظهرات الدالّة على المقولة الأكسيولو-سردية "الحب" تتمثل القوّة والفروسية في علاقة حوار مع الوفاء والأرض الوطن، تطير الكلمات كما يطير الحمام: تقول الساردة فاتحة الطايب: «...(يوفرو وحمام يوفرو / طار الحمام طار). الوطن آنذاك كان هُم، والأطلس، وأم الربيع ترفرف حوله أحلام بعدد نجوم السماء...» داخل "الميتا-حُب"، الأحلام لا تحتاج إلى ترجمة أو تأويل. هل نحتاج إذن لترجمة الحمام/ الأطلس/ أم الربيع/ الوطن/ الأحلام. يبدو أننا أمام لغة متعالية تحفر في التاريخ الذي لم يُكتب بعد، تنبش عن الأرشيف الفرنسي المتواري وراء الكذب السياسي وقادة الجيش الذين أغراهم المال ولم ينتبهوا للأغنيات ربما لم يسمعوا صوت الحمام من فوق الخيل وهي تركض في أعلى القمم، أيضا، ماذا يمكن أن نُترجِم؟ بمعنى آخر لماذا نُترجم؟ هل الألوان والطبيعة البكر المغتصبة والإنسان البسيط وخيله وخيره وشهامته هل هذا كلّه تستطيع الترجمة تمثيله حقيقة، بمعنى آخر هل الخائنات الجميلات يستطعن نقل كل هذا من لغته الأصلية الأصيلة إلى لغة أخرى؟ سؤال سهل لكنه صعب، لماذا: فقط لأن الخطاب القصصي هنا لم يحضر لمتعة الحواس وإنما حضر مثل شكل كتابة يُزعج نسق بنسق آخر، نستضيح هذا في: «متحف الكائنات المنقرضة» (القصص، ص.69). تقول الكاتبة: «اليوم العالمي للكائنات المنقرضة...! بذلات وفساتين وجلابيب فاخرة تتجه نحو متحف التحف البشرية في العاصمة (...) المتحف الأول من نوعه في تاريخ البشرية! (...) كان وفد من الصحفيين المتحزبين والمستقلين والمستعصين على التصنيف وأصحاب المواقع والمدونات الالكترونية، يرافق الفساتين والبذلات والجلالبيب لنقل تفاصيل الحدث الفريد» (ص.69، 70).