في الزمن الذي تنتشر فيه تقارير حقوق الإنسان، وتُلقى فيه الخطب حول الكرامة والعدالة في كبرى المحافل الدولية، تُحتَضر غزة ببطء، على مرأى من العالم، لا بسبب القصف وحده، بل بفعل المجاعة. إن غزة لا تموت فجأة، بل تسير نحو الهلاك جائعة، نحيلة، منهكة، فيما تدير الدول الكبرى وجهها، أو تكتفي بالتنديد والتعبير عن "القلق البالغ". ما يحدث اليوم في غزة ليس نتيجة طبيعية لحرب، بل انحراف أخلاقي مكتمل الأركان، تُستخدَم فيه المجاعة كأداة قهر جماعي. عشرات الأطفال يلفظون أنفاسهم الأخيرة بسبب نقص الحليب، ومئات الآلاف من المدنيين لا يجدون ما يسد رمقهم، في ظل حصار إسرائيليّ مطبق وتحكّم قاسٍ في تدفّق المساعدات. لا يمكن فهم هذا الانهيار الإنساني إلا باعتباره سياسة عقابية مدروسة. فعندما توثّق الأممالمتحدة وفاة أطفال رُضّع جوعًا، ويعلن مستشفى الشفاء عن فقدان 21 طفلًا خلال ثلاثة أيام بسبب سوء التغذية، وتتحدث المنظمات الإنسانية عن مشاركة أربعة رُضّع في حاضنة واحدة، فإن الأمر يتجاوز "العجز" و"التقصير"، ليبلغ درجة الجريمة. وإن لم يكن ذلك كافيًا، فإن تقارير يومية عن مدنيين يُقتلون أثناء انتظارهم مساعدات غذائية تضع الحصار، بلا شك، في خانة "الهجوم المنهجي". في مراكز النزوح، لم تعد الأم تسأل عن أدوية، بل عن "رغيف خبز"،طفلة في العاشرة تقول إنها تخشى أن تموت جوعًا، صحافيون يعجزون عن مواصلة التغطية لأن الجوع أنهكهم وأفقدهم القدرة على الحركة. وحتى منشورات الغزيين على وسائل التواصل تنقل مشهدًا أشد قتامة: الخبز صار كنزًا مفقودًا، والطعام أمنية مؤجَّلة، وحليب الأطفال وعودًا مستحيلة. في المشهد المقابل، هناك بيانات دولية رتيبة، تنشغل بصياغة محايدة لا تليق بهول المجاعة، وكأن الضمير الإنساني العالمي بات مشلولًا بفعل الحياد الزائف، حتى لغة التنديد باتت مفرغة من مضمونها. التجويع ليس حالة طارئة، بل أداة حرب بطيئة التأثير، عميقة الجرح، يُراد بها كسر المجتمع من داخله، وتحويل الأجساد إلى أدوات ضغط سياسي. وإذا كانت القوانين الدولية تصنّف استخدام الغذاء سلاحًا ضمن جرائم الحرب، فإن ما يجري في غزة يتجاوز هذا التعريف، لأنه يتم تحت أنظار الجميع. إن العالم الذي يزعم الدفاع عن "النظام الدولي القائم على القيم" يقف اليوم عاريًا أمام جريمة تُرتكب كل ساعة. وما يُدوَّن في تقارير الصحافيين الغزيين، وفي سجلات المستشفيات، وفي وجوه الأطفال الذين يموتون بهدوء، سيكون وثيقة إدانة أخلاقية لهذا العصر كله. لا أحد يستطيع الادّعاء بأنه لم يعلم، فالموت موثَّق، والمجاعة مُصوَّرة، والجوع يطرق الشاشات قبل الأبواب. يبقى السؤال: ماذا تبقّى من إنسانيتنا إن اعتدنا مشهد طفل يموت جوعًا، ومررنا عليه كما نمرّ على خبر عابر؟ في غزة، الموت لا يحتاج إلى قصف صاروخي فقط، يكفي أن يُغلَق المعبر، أو تُؤخَّر شاحنة، أو يُمنع كيس دقيق، لتبدأ دورة الموت البطيء. وتلك، لا تقلّ فظاعة عن القذائف، بل قد تفوقها إيلامًا، لأنها تجعل من العالم شاهدًا متواطئًا، يراقب "المحرقة الصامتة"، ويسجّلها ضمن فقرات الأخبار... وينتقل إلى الخبر التالي.