في مثل هذا اليوم، تاسع غشت، نستعيد غيابًا لم يكتمل، لأن صاحبه ظلّ حاضرًا في كل بيت من قصائده. رحل محمود درويش في صيف 2008، لكن صوته لم يرحل، بل بقي يطرق أبواب القلب والعقل، ويذكّرنا بأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". لم يكن ذلك شعارًا، بل إيمانًا عميقًا بأن الأمل فعل مقاومة، وأن الجمال قد يكون السلاح الأخير في وجه الفقد. وُلد محمود درويش في البروة بالجليل عام 1941، وحمل منذ طفولته وجع النكبة، لكنه لم يجعل المنفى قيدًا، بل أفقًا يوسّع تجربته. في سنواته الأولى داخل الأرض المحتلة كانت كلماته بسيطة، لأن القصيدة كانت آنذاك رصاصة لغوية، ورسالة مباشرة إلى شعبه. ومع المنافي المتعددة، وتبدّل الأمكنة والمواقف، أخذت لغته تتشكل من طبقات المعنى، وتستعير من الأسطورة والرمز ما يجعل النص مساحةً للتأمل بقدر ما هو أداة للمواجهة. في بيروت كتب "مديح الظل العالي" على أنقاض مدينة محاصرة، محوّلاً المأساة إلى ملحمة، حيث قال: "ليس لي منفى لأقول لي وطن". وفيما بعد، ومع ارتجاج يقين العودة بعد اتفاق أوسلو، كتب في "لماذا تركت الحصان وحيدًا": "إلى أين تأخذنا يا أبي؟ – إلى جهة الريح يا ولدي". هناك تحوّل الوطن من مكان نعود إليه إلى فكرة تحملنا حيثما ذهبنا، سفر بلا وجهة نهائية. ومع اقتراب النهاية كتب "جدارية" كأنها مرآة يواجه فيها الموت بوعي صافٍ: "سأصير يومًا ما أريد، وأسُلّ من عدمي وجودي". لم يكن هذا إعلان تحدٍّ فحسب، بل كان احتفالًا بقدرة الإنسان على صناعة المعنى من رماد التجربة. وفي "لاعب النرد" واجه عبثية القدر، لكنه ظل يرى أن دور الشاعر أن يحاول "تعديل" الحياة ولو بالكلمة. قصيدته لم تعرف حدود الجغرافيا؛ تُرجمت إلى لغات العالم، حتى العبرية، حيث قُرئت داخل إسرائيل بعيون سياسية وأمنية. ومع ذلك ظلّ يخاطب الإنسان في خصمه، قائلاً: "أيها الواقفون على العتبات، ادخلوا واشربوا معنا القهوة العربية". بالنسبة له، كانت القصيدة جسرًا، حتى لو مُدّ فوق أرض يختلف عليها الجميع. درويش لم يكن شاعرًا يكتب عن وطنه من بعيد، بل كان الوطن وهو يكتب نفسه عبره. مزج بين الملحمي والوجداني، بين ذاكرة الجماعة وسيرة الفرد، حتى صار ديوانه سجلًا لرحلة شعب وصوتًا لضمير جيل كامل. في مثل هذا اليوم لا نودّع درويش، بل نعيده إلى حاضرنا، لأن نصه لم يُغلق برحيله، ولأن القصيدة التي تركها ليست سطرًا على ورق، بل وطنًا موازياً، مفتوح الأبواب، لا يُحتل ولا يُهزم، يذكّرنا دائمًا بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.