مقدمة نشرتُ قبل حوالي عشرين سنةً مقالةً تحت عنوان "المغاربة وغرام الممنوعات"، نبّهت فيها لما يعرفه الكلُّ من تناقضٍ في المعايير بين المغاربة – كأغلب الأمم غير المتمتعة بثقافة المدنية والعقلانية والمسؤولية في المدرسة، ومن خلال التنشئة العملية، وفي المناخ الإعلامي الوطني، بشكلٍ فعّالٍ ومدرُوسٍ ومُتواصل – من حيث ادعاء الأخلاقيات نظريًا والسلوك اليومي المخالف تمامًا لذلك الادعاء. فأين نحن من ذلك الوصف اليوم في أفق ما نحن فيه ومقبلون عليه من إشعاعٍ لمملكةٍ مغربيةٍ مختلفةٍ، تتطلع عمليًا لمصاف الأمم المتميزة والسائرة على درب تحديثٍ خالصٍ وبناءٍ غير مسبوقٍ يصل ماضٍ مجيدٍ بالحاضر الواعد؟ يشهد المغرب في السنوات الأخيرة نموًا في أعداد السياح، حيث سجلت الإحصائيات الرسمية ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الزوار خلال عام 2025، كما يتباهى المسؤولون في الوزارة المختصة بتدبير القطاع بنموٍ كميٍ في القطاع. إلا أن الأرقام غالبًا ما تُخفي وراءها أزمةً حقيقيةً – قد لا يراها أو يقلل من شأنها التكنوقراط في عدائهم المألوف للثقافة وللتحليل النقدي في العلوم الإنسانية عامة – تتمثل في موجة المنشورات والشكايات والإدانات، ناهيك عن ملاحظات المغاربة على طول السنة، المتعلقة بتدهور جودة التسيير والتأطير والخدمات، وتراجع الصورة الذهنية الجيدة الشائعة أخيرًا عن المغرب كوجهةٍ سياحيةٍ جذابة. إن ما يعانيه القطاع السياحي اليوم ليس مجرد مُشكلة تسعيرات معزولةٍ وفرديةٍ، أو سوء تنظيمٍ محدودٍ، أو سوء تصرفٍ أخلاقيٍ وغير مهنيٍ طارئٍ، بل هو نتاجٌ تراكُميٌ لإقصاء البعد التربوي والثقافي والفني والذوقي من السياسات العمومية التنموية، مما أدى إلى غياب الوعي المدني والجمالي والأخلاقي لدى العديد من الفاعلين في المجال السياحي. في الحافلة وفي القطار، في البنك وفي الإدارات، في الحديقة وعلى الطريق، في الملاعب وفي التظاهرات، عند وقوع حادثةٍ أو شجارٍ، يقوم المواطن بسلوكياتٍ لا علاقة لها: بالانتظار المنضبط، ولا بالتدخل الكيس العقلاني، ولا بالنظام واحترام الأسبقية طبقًا للقوانين واللوائح التنظيمية، ولا بالغيرية المفكر فيها والاتصال بذوي الشأن، ولا بالعزوف عن التدخل في غياب التخصص والتأهيل الاحترافي، ولا باحترام الأدوار والأسبقيات، ولا باحترام ممتلكات الغير وحمايتها... لا نقصد كل المغاربة، لكن عددًا مؤثرًا منهم يتصرف بهذه الطرق، وبشكلٍ يشبه تعاطيهم مع "الحق في الكلام" على الإنترنت، حيث يختلط النصاب بالمهني، والصادق بالكذاب، والجاهل بالعالم... أزمة السلوك والتدبير في السياحة المغربية: بين الأرقام المُعلنة والواقع المعطوب 1. النمو الكمي وتهديد التدهور النوعي رغم الإعلان عن ارتفاع عدد السياح بنسبة 19% في النصف الأول من عام 2025، فإن المشكلة تكمن في نوعية الخدمات المقدمة لهم. ففي مراكش، على سبيل المثال، تشير التقارير إلى أن الفنادق سجلت معدلات إشغالٍ مرتفعةٍ، لكن الزوار يعانون من أسعارٍ مبالغٍ فيها مقابل خدماتٍ دون المستوى، في مقاهٍ "دون ظل"، وفواتير خياليةٍ في مطاعمٍ دون أي مبرر. أما في مدنٍ شاطئيةٍ معروفةٍ، فقد تحولت الوجهة التي كانت تعرف بأسعارها المعقولة وهدوئها وطقسها المعتدل – جعل سياحًا مثل الإسكندنافيين يجعلونها قبلةً لأغلبيتهم – إلى مكانٍ يُنظر إليه على أنه "نادٍ رخيص" بتكييفٍ معطوبٍ وبخدماتٍ سيئةٍ في الأكل والمبيت والاستقبال والتنظيم، مما دفع الكثير من السياح إلى الاعتماد على وجباتهم الخاصة في ثلاجات محمولةٍ، بدلاً من إنفاق أموالهم في مؤسساتٍ سياحيةٍ غشاشةٍ في الأثمان وفي الجودة، لا حسيبَ ولا رقيبَ عليها!؟ ولعل انتشار الأخبار اليوم بين السياح، عن طريق وسائل الاتصال الجماهيرية، يجعل الخبر ينتشر بينهم كالنار في الهشيم، بحيث يصعب الحد من الآثار المدمرة لسلوكياتٍ مسيئةٍ وهي تتكرر، مُثيرةً الإدانات والشكايات بالصوت والصورة، ولا تلقى ردودًا ولا إجراءاتٍ صارمةً وواضحةً وفعالة. 2. غياب الثقافة السياحية والوعي بالخدمة لا تكمن المشكلة الأساسية في نظرنا فقط في سوء البنية التحتية أو في ارتفاع الأسعار، بل في غياب ثقافة الاستقبال والخِدمة لدى العديد من العاملين في قطاع السياحة. فنحن كمغاربةٍ كثيرًا ما عانينا من سلوكياتٍ وخدماتٍ جافةٍ وغير مكترثةٍ وغير مهنيةٍ في فنادقَ بمدنَ تُحسب على السياحة. فبدلاً من أن يشعر السائح بأنه ضيفٌ يُكرّم كي يعود مرارًا وينقل أطيب الأخبار عنا، أصبحنا نجعله يشعر أنه مجرد "محفظة نقود متنقلة" يتم استنزافها دون تقديم قيمةٍ حقيقيةٍ مقابل ما يدفعه، في احتقارٍ لإنسانيته لاختياره لبلدنا دون غيره، مع أن المنافسة شديدةٌ في عالمٍ متأزمٍ اقتصاديًّا كما هو معلوم. يعود هذا السلوك في جزءٍ كبيرٍ منه – في نظرنا وعلى المستوى الاستراتيجي العام تنمويًّا – إلى إهمال السياسات العمومية للبعد التربوي والثقافي في التنمية. فغياب التربية على قيم المسؤولية والواجب والجمال في الفضاء العام، وعدم تعزيز قيم النزاهة والصدق في التعامل مع المال العام وفي التعامل مع الزائر، أدى إلى تفشي سلوكياتٍ سلبيةٍ بئيسةٍ ومسيئةٍ – بل ومخجلةٍ، لنقلها بصراحة – تقوِّض الجهود التنموية المتواصلة للدولة ولطموحاتها العالية والاستراتيجية. إقصاء العقلانية والمحاسبة: العامل الرئيسي في فشل السياسات السياحية 1. غياب العقل النقدي والتحليلي في التخطيط لا يمكن الحديث عن تحديثٍ حقيقيٍّ للقطاع السياحي دون إدراج العقلانية والعقل التحليلي والنقدي التركيبي في صياغة الاستراتيجيات الرابطة بين السياحة وتنميتها، وبين الوعي المدني والمسؤولية القانونية والأخلاقية والذوق الجمالي النقي. فمعظم السياسات السياحية تركز على الجانب المادي والتقني (بناء الفنادق، تحسين البنيات التحتية في تعددها...) دون الاهتمام بالجانب الإنساني والثقافي. فالمواطن الذي لم تتم تربيته على قيم الجمال والنزاهة والمسؤولية، لن يكون قادرًا على تقديم صورةٍ إيجابيةٍ عن بلده ولو أحبه وتاه في حبه، بل قد يصبح عائقًا أمام أي تطورٍ سياحيٍّ وسياسيٍّ وغيره من أبعاد الاستراتيجيات التنموية. فكيف يمكن لسائحٍ أن يعود إلى المغرب إذا تعرض للاستغلال المادي أو الإهانة من قبل مقدم أي خدمةٍ كيفما كانت، بالرفض أو بالتعامل بفظاظةٍ أو بانتهازيةٍ عاريةٍ وبقلة احترام؟ أكيد أن الذي تنبغي مُساءلته بعد المسؤول المباشر هو المدبر والمتابع للتنفيذ على الأرض، ناهيك عن المُخطِّط الأصلي الذي ينبغي له العمل على تعديل المخطَّط من أصله، وإدماج الجانب السلوكي والقيمي الإنساني في استراتيجياته، مهما كانت "مصداقيتها" التكنوقراطية. 2. غياب المحاسبة وثقافة الإفلات من العقاب واضحٌ أن أحد الأسباب الرئيسية لتردي الخدمات السياحية هو عدم وجود محاسبةٍ حقيقيةٍ للمُخالفين على كل المستويات. فالكثير من المطاعم والفنادق ووسائل النّقل تقدم خدماتٍ دون المستوى المطلوب، ومع ذلك لا توجد رقابةٌ صارمةٌ أو عقوباتٌ رادعةٌ، وهو ما لا يُفهم أو أنه يشير إلى تفشي الظاهرة بشكلٍ مُقلق. يعزز هذا الإفلات من العقاب ثقافة اللامسؤولية، ويقوي ظاهرة تكرار سوء التصرف المسيء للمصلحة الوطنية العليا، حيث يدرك العاملون الفاسدون في القطاع – أي قطاع – عدم الخوف من عواقب أفعالهم نظرًا لعدم وجودها. يؤدي هذا الغياب إلى استمرار التدهور، فبدون محاسبةٍ – وهي فقط جزءٌ من تدبيرٍ وإجراءاتٍ لمواجهة الفساد – لن يكون هناك حافزٌ لتحسين الجودة. الحلول الممكنة: نحو سياحة مستدامة تقوم على التربية والمسؤولية 1. إدماج البعد التربوي والثقافي في السياسات السياحية لا يمكن تحقيق تنميةٍ سياحيةٍ حقيقيةٍ دون الاهتمام بالتربية والثقافة. يجب أن تصبح المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية شريكًا أساسيًّا في تعزيز قيم الاستقبال والجمال والنزاهة. ولما كان قطاع السياحة ببلدنا لا يزال يوظف نسبةً كبيرةً ممن لم يتلقوا تكوينًا مهنيًّا في السياحة، بما فيه الجانب المسؤول والجمالي العقلاني والقيمي، فلابد من وضع آلياتٍ تلزم أرباب الأعمال والمؤسسات والمشاريع السياحية بتوفير تكوينٍ إجرائيٍ وإعادة تكوينٍ مستمرٍ لكل من يشتغل لديهم في القطاع، مع أخذ المردودية والتنقيط الزبوني والمهني بعين الاعتبار، في تقييمٍ يتكرر على فتراتٍ. لكن لابد من إنصاف العامل في القطاع بحدٍ أدنى من صيانة كرامته الاقتصادية أولًا لرفع الحيف عنه، قبل محاسبته التي لن يكون لها معنى دون ذلك. يتعلق كل ما سبق إذا ب: تعليم السياحة المُستدامة: إدراج برامج تعليمية حول أهمية السياحة وكيفية التعامل مع الزوار في المناهج الدراسية، عموما ولو من باب الأنشطة الموازية. التوعية المدنية: تنظيم حملات توعوية للمواطنين حول أهمية الحفاظ على الصورة السياحية للمغرب. التكوين المهني: تحسين برامج تكوين العاملين في القطاع السياحي لتعزيز ثقافة الخدمة والاحتراف. 2. تعزيز الرقابة والمحاسبة تفعيل آليات الرقابة: يجب أن تكون هناك لجان تفتيش دورية لتقييم جودة الخدمات في المطاعم والفنادق ووسائل النقل. وبما أن السلطات غالبًا ما تؤكد على أن لجانها تشتغل، ولربما هي غير كافية وتحتاج لوسائل أكثر، فإن تعديل طريقة اشتغالها واعتمادها على السلطات المحلية أساسًا – وبشكلٍ لعله لم يتغير منذ مدةٍ طويلةٍ – سيتعين مرة أخرى التفكير في ابتكار حلولٍ وطرق مراقبةٍ تساير العصر، ومنها الكاميرات الذكية، وآليات إلكترونية تعفي من تكاليف المستحيل، وهو جعل "شرطي سياحة" لكل فضاء سياحي. العقوبات الرادعة: معاقبة المخالفين بغرامات مالية أو سحب التراخيص في حال تكرار الأخطاء، وتطبيق هذه العقوبات بصرامةٍ لا غبار عليها ودون تمييز. وقد برهنت الدولة مرارًا على أنها تستطيع الضرب بيدٍ صارمةٍ على أيدي المتلاعبين بصورة البلاد وسمعتها كلها قررت ذلك. منصات شكاوى فعالة: إنشاء نظام إلكتروني سريع لتلقي شكاوى السياح والتدخل الفوري لحلها. 3. إعادة الاعتبار للسياحة الثقافية والجمالية ليست المملكة المغربية مجرد شواطئ وفنادق ومطاعم عادية ومتوسطة وفاخرة، بل إن بلدنا أيضًا تاريخٌ وثقافةٌ وتنوعٌ طبيعيٌ وثقافيٌّ. يجب التركيز فيه على: الترويج للسياحة الثقافية: كالمتاحف، المهرجانات الفنية، والتراث المعماري النشيط بضمه لبرامج متنوعة من الفنون والحوارات والتواصل والفرجة والإنتاج... السياحة البيئية: تشجيع السياحة المسؤولة التي تحترم البيئة وتدعم السكان المحليين، تمنحهم فرصة لقاء الآخر ومحاورته والتعريف بما لديهم وما يمكنهم تبادله. الابتكار في التجربة السياحية: بتقديم تجارب فريدة مثل السياحة الزراعية، السياحة الروحية، والتراثية محليًّا ووطنيًّا وغيرها. ختامًا السياحة في المغرب ليست مجرد أرقامٍ وإحصائياتٍ، بل هي انعكاسٌ لصورة المجتمع وقيمه. فإذا كان المواطن غير واعٍ بأهمية دوره في الحفاظ على هذه الصورة، فإن أي استثمارٍ ماديٍ في البنية التحتية سيبوء بالفشل. نعتقد أن تطوير القطاع السياحي يبدأ من إصلاح المنظومة التربوية والثقافية التابعة لها كما بينا أعلاه، فتعزيز قيم المسؤولية والجمال والنزاهة في الفضاء العام أساسيٌ في بناء سياحة مواطنةٍ وكونيةٍ إنسانيةٍ ومُستدامة. فبدون عقلانيةٍ في التخطيط، وبدون محاسبةٍ للمخالفين، وبدون تكوينٍ متكاملٍ للمهنيين ومستمرٍ قصيرٍ ومركزٍ لكل المشتغلين العرضيين في القطاع، سيستمر السائح في المغادرة وهو يحمل ذكرياتٍ مريرةً عن انحرافٍ غير مقبولٍ لا يشبه سمعةَ وثقافةَ وأخلاقياتَ بلدنا، عوض أن يذهب – كما نسبةٌ مهمةٌ من السياح على كل حال – حاملاً بدل ذلك ذكرياتٍ جميلةً عن جمال البلاد وعقلانيتها ودفء وصفاء تعامُل أهلها. تتوفر المملكة المغربية على كل المقومات لتكون وجهةً سياحيةً عالميةً، لكنها تحتاج إلى سياساتٍ تنمويةٍ سياحيةٍ تعطي الأولوية للإنسان قبل الحجر، وللثقافة مع الاقتصاد، وللجودة مقرونةً بالكمية. عندها فقط ستصبح المملكة المغربية – التي بها نفتخر لأنها تحمل كل آمالنا وطموحاتنا – ستظل حقًّا "أرض الضيافة والعواطف والذوق والجمال والطعام والملح"، كما كانت ويجب أن تكون.