الصحراء تَبتهِج مع مطلع كل فجر، بعد كل ليلة، وكيف لا وهي التي اشترطت على الإنسان المغربي –صانع مَلحمتها ومُرصِّع زينتها وبهاءها-الشعلة المُقدسَّة لاسترجاع حُريتها في عَظمِة وانتشاء. لقد حالفني الحظ وزرتها قبل ربع قرن، في سنة 2011، كانت أول زيارة لي لها على متن خطوط طيران مغربية وهي تحط بروحي وجسدي في مطار الداخلة، تركت الجديدة بصخبها واستقبلتني الداخلة بغروبها المتأخر عن غروب الجديدة بكثير من الدقائق، وودعتها بعض أسبوع قاطعا وعدا بزيارة أخرى، تحقق الحلم مرة أخرى وجاءت سنة 2014 بئر كَندوز، المركز الرئيس للبلدة وقرية الصيادين "بارباس Barbas" وهي تبعد تقريبا بعشرين كيلومترا عن المركز بئر كندوز والذي كان يعرف باسم الإسباني صاحب الفندق "داكمار" منطقة لقاء المسافرين والمهاجرين وتبعد عن المعبر الحدودي المغربي "الكركارات" تقربا بأربعين كيلومترا، فبرباس 'قرية الصيادين" تُغري الصيادين بالقصبة وتجود كثيرا على بحارة الصيد الساحلي، فضاء اللقاء لكل بحارة المغرب وخصوصا بحارة آسفيوالجديدة والدار البيضاء، وقد اصطلح هذا الاسم "بارباس" دلالة على الفضاء الصخري حين يكون المحيط الأطلسي في حالة جزر حيث تظهر الصخور وهي مُرتبة في شكل لِحي الرجال، وصورة لحية الرجال دفعت بقوّة إلى أن تتخذ المنطقة الساحلية اسم "بارباس"، في بارباس الحركة دائمة وتتوقف فقط أيام عيد الأضحى، لكنه توّقف غير مكتمل، حيث تشهد دينامية صيانة محركات القوارب، فميكانيكية المحركات المائية تنتعش في عطلة عيد الأضحى، والميكانيكي مُقدّرٌ عليه البقاء في القرية وليس له اختيار آخر لزيارة أقاربه وفي المدن التي ذكرناها سالِفاً ومشاركتهم فرحة العيد، إنها الصحراء البهية العروس التي ترفض الفراغ، من أحبّها اقترب منها واقتربت منه وبادلته الحبّ حُبّين وأكثر. كل ليل في الصحراء هو احتفال بالرجة الكبرى التي أحدثها البركان الشعبي وشعلة المقاومة المغربية المقدسة التي ربطت الشمال بجنوبه والغرب بشرقه، ليلها هو تلاحم وإصرار حرية عادلة ووطنية عارِمَة أفضت إلى انهيار القوات الاستعمارية الإسبانية وعملاءها ليصبح الجميع أمام صحراء عفيفة وعنيفة بريح برها وأمواج بحرها وقمر ليلها وشمس نهارها وشجاعة رجالها. وادي الذهب: مقهى سمرقند فضاء اللقاء. كانت سمرقند تُطلُّ على الخليج في انحناءة خفيفة وظريفة كبراءة الطفل وهو يستقبل انحناءة عطف وود أبيه، فخليج وادي الذهب هو تاريخ حضور قيم إنسانية قديمة لم تعرف الغزو ولا الحصار إلى أن جاءت الزمنية المشؤومة في سنة 1912، ها هي الداخلة أنظر فيها ما بعد زمنية 14 غشت 1979 نظرة سرور، واستمرارية إشباع حالات الحرية داخل الصحراء فيما بعد زمنية 6 نونبر 1975 وما اصطلح عليه الراحل الحسن الثاني بالمسيرة الخضراء؛ الصحراء أرض وعد خضرة حناء الوعد والعهد، الصحراء ترفض الخيانة وترفض كل أشكال العبودية، ها هي الخضراء صحراء حرّة مُنفتِحة على التنمية في تعدد أشكالها ورامت الصناعات الإنسانية، وصارت اليوم صحراء الإنسان في كونيته فعرفت تشييد القنصليات والسفارات ومؤسسات الدولة المغربية واتسعت شرايين المواصلات الطَّريقِية وصارت دينامية النهار فيها تعادِل دينامية الليل قديما. مدينة الداخلة حديثا وادي الذهب تاريخيا: دلالة سلطة القلب الغالِبُ عليه الاقتصاد الإنساني تناول التاريخ قديما بأن أمكنة وادي الذهب قد عُرِفت كنقطة ملتقى التجارة البريّة والبحرية، ومعلوم أن الدينامية الاقتصادية تشيّد حضارة الأمكنة ومن ثمّة تَتعزّز علاقة الحب بين الإنسان والمكان، فأن تُحبّ شيئا بالضرورة هو يفرض عليك التضحية والإيثار والاعتزاز به وتحصينه والدفاع عليه متى تهدده خطرٌ ما؛ فالصحراء حَققَت حُريّتها بحُبّ أمكنة وادي الذهب فتَشكلَّ حُبٌّ مُطرّز بتضحيات رجالاتها داخل العركوب وبئر كندوز، فحِماية علاقة الحبّ والحرص عليها اشترطت الدفاع عليها جنوبا وشرقا، وما إن تغادر وادي الذهب تُطلّ على خليجها من جهة بلدة مركز العركوب تظهر سطحية ماءه كمرآة تتزيّن بها مدينة الداخلة، وأنت تتقدّم جنوبا ضَربا في الطريق الوطنية جنوبا تتلّون الصحراء بألوان ألفة الرمال الذهبية وتنوع التضاريس وجمالية الارتفاعات التي تطِلُّ على المحيط الأطلسي، إلى أن تصل بلدة "بئر كندوز" هنا الصناعات البحرية تعززت بميناء أطلسي عظيم، ولا أعتقد أنه يوم زُرتها أن مبلغ كراء بيت عادي تجاوز 2500 درهما، فيما كان قبل 2016 لا يتجاوز 300 درهما، فالعقار مُؤشر رقمي صريح في استيضاح التنمية أو اللا-تنمية، فالأرقام منطقية ومرآة حقيقة حضارية تنموية، الرقم يقطعُ مع الوهم والتوّهُم. المدينة–الداخلة-رمزية الوطنية المغربية. حبّ الداخلة أسهم في اختيار أسماء وطنية لشوارعها، فبعد تحريرها أسهم الدولة المغربية في ترميز الأمكنة وطنيا، وفاءً وعِرفاناً لجهود الوطنيين، فجاءت أهم الشوارع حينئذ تحمل شارع "عبد الرحيم بوعبيد"، شارع "أحمد با حنيني". في وادي الذهب ما إن تلتقط الأذن قيمة المعدن –الذهب-تحضر سلطة المكان والحرص عليه، فالصحراء قديما عرفت العديد من الصفات، ومن بين هذه الصفات كالآتي: "الصحراء وادُها ذهب وأرضُها عَجب والحُكم فيها لمن غَلب". فأن تغلِب عدُوّك بمعنى تتفوَّق عليه وتَقهره وتنتصِر عليه وتُحافظ على انتصاراتك وتحرِص عليها شديد الحِرص، إن الغَلبة إرثُ الأجداد والاعتزاز بالمجاهدين وشرفاء رائحة البارود وسط الحروب التي شهدتها الصحراء، صحراؤنا المغربية. الخليج –وادي الذهب- ملتقى تسامح الحضارات. في وادي الذهب تحضر بهجة لقاء المُحبّ للصحراء، إنها بهجة ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، فمتى كان المِعمار بالضرورة تكون الحضارة، وأوّل المعمارية التي تعرفها ساحة الكبرى وسط مدينة الداخلة هو معمارية المسجد العتيق التي يعادُ بناءه الآن، وفي مقابله على بعد بضعة أمتار تحضر الكنيسة "كنسية سيدة جبل الكرمل"، الآن هي ساحة المهرجان الدولي للداخلة. أيضا الحوار هو تجاذب كل الفاعلين المتدخلين في صناعة حضارة الصحراء باختلاف الجنسيات والحقول العلمية والثقافية والأدبية، الصحراء منظار الوحي للعالمين، إنه ترفض التمييز. سنوات قليلة وتُشرف أمكنة وادي الذهب على ذكرى نصف قرن من التحرر وحالات اللا-حصار التاريخي وأيضا الحصار الوهمي المُفتعل خارج طقوس الحب والوفاء، حصار كان أصعب من حصار العدوّ الحقيقي الشجاع، الذي رام تقدير الوثيقة التاريخية واحترم حضارتنا وتاريخنا. ها هي الأرض عادت كما كانت وأحسن بكثير انفتحت على المؤسسات الاقتصادية والثقافية والعلمية الأكاديمية والسينمائية، وتحوّلت إلى وجهة سياحية عالمية وأمكنة للقاء وشهدت تحوّلات في البنية الطريقية، مثل "شارع الطاح" باعتباره القلب النابض اقتصاديا للمدينة، فالرمزية "الطاح" تؤشر على الاستمرارية الوطنية المغربية وربط تاريخية المسيرة الخضراء، وخصوصا أمكنة طرفاية والعيون بتاريخية تحرّر وادي الذهب. أمكنة وادي الذهب هي أمكنة حبّ والإنسان المغربي يعيشها كل ليلة وكأنها ليلة عيد ابتهاج تحرر وحرية واقتصاد إنساني مصدر للخيرات على هذه الأرض التي صنعها الإنسان المغربي ودافع عنها وحفظها من كل خطر ومقصدية خائنة فاشلة. إن ذكرى 14 غشت من كل عام هي نظرة المُحِبّ الحالم أحلام يقظة من أعماق كيانه والمُنتشي المُعتز بجذوره وحالات أفعال-قيمة أجداده؛ كلّ حبة رمل هي شكل لغة تحقق بناء نص تاريخي لم تكتمل كتابته، لغة الصحراء نطق بها الأوّلون وسار على دربها شهداء الوطن، هي اللغة التي تحاصرنا عندما نتذكر رجالات الصحراء، وكيف كانت نساؤهم/ زوجاتهم تنتظرن قدومهم وهم منتصرين، السبعينيات هي لغة وجب أن تُكتب باللسان المغربي وبلغة السينما المغربية حتى يتسنى حماية آثارنا الإنسانية وآثار مرور قوافل صمدت للعطش والبارود والخيانة والظمأ الشديد، لكنها حررت الصحراء ولم ولن تموت عطشا، فطوبي لهم ولزوجاتهم ولأولادهم، طوبى لكل المغاربة بكل حبة رمل صحراوية وبكل قطرة ماء المحيط الطاهِر الطَّهور.