في زمنٍ تتداخل فيه حرية التعبير مع استفزاز الرموز، وتُختزل فيه السخرية في كونها أداة تنوير، يبرز مقال أحمد عصيد بعنوان "على هامش قضية ابتسام لشكر: ظاهرة السخرية من الأديان"، المنشور على موقع هسبريس بتاريخ 14 غشت 2025، كمثال صارخ على أزمة المفاهيم في الخطاب المعاصر. المقال، رغم جرأته، يطرح إشكالات عميقة تتعلق بالمنطق، والتاريخ، والفلسفة، ويغفل البعد الأخلاقي الذي يجعل من المقدس أفقًا للمعنى لا مجرد قيدٍ على التعبير. في هذا النقد، نسعى إلى مساءلة أطروحة عصيد، لا من باب الرد الشخصي، بل من منطلق فكري يُعيد الاعتبار للتوازن بين الحرية والمسؤولية، بين النقد واحترام الآخر، وبين التنوير الحقيقي والاستفزاز المجاني. أولًا: خلل في المنطق والتحليل ينطلق الكاتب من تعميم غير مدعوم حين يقول إن موجة السخرية تعم "بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط والعديد من بلدان العالم"، دون أن يقدم أي دراسة أو إحصاء يثبت هذا الزعم. كما يقرر أن "لا توجد قوة تستطيع إيقاف الخطاب الشعبي الساخر لأنه تعبير عن حاجة اجتماعية ونفسية"، وهو قول مطلق يتجاهل قدرة الأنظمة القانونية والثقافية على ضبط هذا الخطاب. ثم يذهب إلى مصادرة غير منصفة حين يقول إن من يعتبر الدين خطًا أحمر "لا يفهم بأن الأولوية الحقيقية إنما هي للإنسان ولكرامته". وكأن احترام المقدسات يتناقض مع احترام الإنسان، وهو طرح يفتقر إلى التوازن الأخلاقي. بل إن العلاقة السببية التي يقيمها بين تحويل الدين إلى شأن فردي وتراجع الإساءة إليه، تبقى غير مثبتة، وتغفل تعقيد الظاهرة الدينية في المجتمعات الحديثة. ثانيًا: خلل في التأريخ والاستشهاد يقول الكاتب إن "الأديان سخرت من بعضها البعض"، وهو قول لا يستند إلى نصوص مقدسة، بل إلى قراءة انتقائية. فالنصوص الدينية، وإن رفضت أديانًا أخرى، لم تمارس السخرية التهكمية كما يفعل بعض الخطاب المعاصر. كما أن قوله إن "القرآن يعتبر المستهزئين كفارا" يتجاهل السياق القرآني الذي يميز بين النية والمقام، ولا يضع قاعدة عامة. أما ربطه بين إشاعة التطرف الديني وحدث سنة 1979، فهو اختزال تاريخي غير دقيق، إذ أن سياسات التدين في الدول العربية تعود إلى عوامل أعمق وأكثر تعقيدًا. كما أن استشهاده بتهنئة "حركة التوحيد والإصلاح" للسلطات الأمنية، دون مصدر رسمي، يضعف حجته ويجعلها عرضة للتوظيف الانتقائي. ثالثًا: خلل في المفاهيم الفلسفية يصف الكاتب الدين بأنه "نظام اجتماعي قهري وسلطوي"، وهذا التوصيف يتجاهل البعد الروحي والأخلاقي للدين، ويختزل التجربة الدينية في بعدها السياسي فقط. كما يعتبر أن "السخرية وسيلة فعالة لتفكيك الطابو الديني"، لكن السخرية ليست دائمًا أداة نقد، بل قد تكون استفزازًا أو تهجمًا، وقد تؤدي إلى العنف بدل الحوار. ثم يقرر أن من وُلد من أبوين مسلمين يُعتبر مسلمًا بالضرورة، وهو رأي فقهي تقليدي لا يُطبق قانونيًا في كل الدول، ولا يعكس الواقع الاجتماعي المعقّد. كما يعمم حين يقول إن "الانفجار المعرفي جعل الشباب يكتشفون تناقضات الإسلام"، بينما الواقع يُظهر أن كثيرًا من الشباب يستخدم المعرفة الرقمية لتعميق إيمانه، لا لنقضه. التجديف بين أزمة المعنى وحدود الحرية في خضم هذا الجدل حول السخرية من المقدسات، يغيب عن كثير من الخطابات المعاصرة أن التجديف، حين يتحول إلى ممارسة مألوفة، لا يعكس بالضرورة نضجًا في الوعي أو تحررًا من القهر، بل قد يكون مرآة لفراغ قيمي عميق. فالمجتمعات التي تفقد قدرتها على احترام الرموز، حتى حين تختلف معها، تكشف عن اضطراب داخلي أكثر مما تعبر عن تقدم حضاري. إن نقد الأفكار لا يستلزم إهانة الرموز، كما أن الحرية لا تكتمل إلا حين تقترن بالمسؤولية الأخلاقية. فالهجوم على المقدسات، تحت شعار تفكيك الطابوهات، قد يؤدي إلى استفزاز مجاني، لا إلى حوار عقلاني. الحرية الحقيقية لا تُقاس بمدى القدرة على التهكم، بل بمدى احترام كرامة الآخر، حتى حين نختلف معه جذريًا. إن ما يُغفل في هذا النوع من الخطاب هو أن المقدس ليس مجرد عقيدة، بل هو نقطة توازن بين الحرية والاحترام، بين النقد والمسؤولية. حين يُهان المقدس دون رد فعل، لا نكون أمام تعبير حر، بل أمام انهيار في المعنى. فالمجتمعات لا تعيش بلا "آفاق للمعنى"، كما أن الحرية، حين تُفصل عن الأخلاق، تتحول إلى وهم خطير. خاتمة: القانون كحَكَم فوق المهاترات وفي ظل هذه المهاترات الفكرية، لا بد من العودة إلى المرجعية التي ارتضاها الفكر الإنساني الحديث: القانون. فليس من العقل أن تُترك المعارك الرمزية تُحسم بالصراخ أو بالاستفزاز المتبادل، بل يجب أن تُحتكم إلى منظومة العدالة التي وضعتها المجتمعات الديمقراطية لضمان التعايش واحترام الحقوق. القانون، حين يُبنى على قيم الحرية والكرامة والعدالة، يصبح الحَكَم العادل الذي يقف فوق الجميع: فوق السلطة، وفوق الجماعة، وفوق الفرد. إنه ليس أداة قمع، بل وسيلة تنظيم، تحفظ حق التعبير دون أن تسمح بالإهانة، وتضمن حرية الفكر دون أن تفتح الباب للفوضى الرمزية. وهكذا، فإن كل تجاوز في حق المقدسات، وكل رد فعل غير عقلاني، يجب أن يُعاد إلى ميزان القانون، لا إلى منطق الغضب أو التبرير الأيديولوجي. ففي الديمقراطية، لا يُحسم الصراع بالانفعال، بل بالاحتكام إلى القانون الذي يجمع المختلفين على أرضية مشتركة من الاحترام والمسؤولية. إنه القانون، لا المهاترات، من يحسم المعركة.