يومًا بعد آخر، يزداد وزن وتأثير التقدم التكنولوجي في حياتنا العامة، كما هو الحال مع حياتنا الخاصة التي لم تعد كذلك في ظل زحف وتطاول كل من مواقع التواصل الاجتماعي من جهة، والذكاء الاصطناعي هو الآخر من جهة أخرى، ليقبع معه معطى الخصوصية أو ما يعرف بالحياة الخاصة في كنف الاندثار. وقد أضحت اليوم مواقع التواصل الاجتماعي تشكل جزءًا لا يتجزأ من طبيعة حياتنا اليومية، بل أكثر من ذلك؛ إن مواقع التواصل الاجتماعي اليوم هي المحيط الذي تجد فيه مجموع التفاعلات الحياتية، كما السياسية، من التنظيم نحو الاحتجاج وصولًا إلى الجريمة. فعلاوة عن نقل المعلومات، أضحت اليوم منصات التواصل الاجتماعي تنقل الأحاسيس، تؤجج المشاعر العامة وتعبئها عبر مجموعة من الآليات على رأسها الهاشتاق وغيرها، مشاعر قد لا تكون – أو بالأحرى تكون في الغالب – سلبية تجاه إحدى القضايا أو المشاكل الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. بيد أن تلك المشاعر العامة تترجم في غالب الأحيان إلى أفعال تسجّد أو تحاول إيصال مشاعر الغضب تلك، سواء عبر منشورات أو تعليقات أو فيديوهات مصورة وغيرها، أفعال تؤثر في جوهر القضية لكن لا تخدمها في غالب الأحيان، وهذا ما يترجم في حملات التشهير بالمتهمين الذين يقبعون تحت مظلة شكوك تحوم حولهم بشأن أفعال وسلوكيات يجرمها القانون، أو ببساطة تجرمها الطبيعة الاجتماعية لمجتمع ما، وبصرف النظر عما إذا كانت تلك الشكوك صحيحة أو تقبل جزءًا من الصحة أو عدمه، تَنْهال المشاعر الجماعية للمجتمع الرقمي على المتهم؛ لينصب هذا المجتمع نفسه خصمًا وحكمًا وجلادًا في الآن ذاته. أمام هذه المحددات، تجد كل من المنظومة القانونية والقضائية نفسها أمام إشكال وجودي يهدد مكوناتها، بدءًا من المبادئ التي تحكم الحياة العامة، وصولًا إلى دور ومكانة الجسم القضائي في إحقاق الحق ودرء البس والخطأ. فمن ناحية، إذا كانت المواثيق الدولية تحث على ضرورة حماية قرينة البراءة، فإن ذلك يؤكد على الطبيعة الكونية لهذا الحق. فكل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لاسيما المادة 11 منه، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية في مادته 14، يؤكدان بشكل لا يدع مجالًا للشك أنه يجب ضمان أن كلَّ شخص متهم بجريمة يُعتبر بريئًا إلى أن تثبت إدانته قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وُفِّرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. كما أنه لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته، ما دام لم يصدر في شأن ما يتابع به حكم قضائي بات ونهائي. ولضمان ذلك، يجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها لدواعي الآداب العامة، أو لمقتضيات حرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى، أو حين يكون من شأن العلنية أن تخل بمصلحة العدالة، حسب مدلول المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من نفس العهد المذكور. ولكلِّ شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات. وهو ما ترجمه الدستور المغربي، شأنه شأن جميع الدساتير على المستوى الدولي، حيث خصص هذا الأخير كما فصل للتأكيد على هذا المقتضى، بدءًا من الفصل 23 الذي نص على أن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان، وصولًا إلى الفصل 119 الذي يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئًا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به. وجُلُّ هذه المحددات تنصب نحو أساس وحيد هو ضمان عدم التشهير بمتهمين دون وجه حق. وفي ذات الصدد، قد خطا المشرع الجنائي المغربي خطوات جد متقدمة، حيث قفز هذا الأخير من خلال المسطرة الجنائية نحو تجريم هذه السلوكيات؛ إذ يعتبر التشهير بالمتهمين جريمة. فإن كل شخص مشتبه فيه أو متابع تفترض براءته ما دامت إدانته غير مقررة بمقتضى حكم نهائي، وكل مساس ببراءته المفترضة محرم ومعاقب عليه بمقتضى القانون. كما يمنع تصوير شخص معتقل أو يحمل أصفادًا أو قيودًا أو نشر صورته أو اسمه أو أية إشارة تعرِّف به دون موافقته، والمعاقبة على ذلك، أو القيام بأية وسيلة كانت بنشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي يتعلق بشخص تجري في حقه مسطرة قضائية، سواء كان متهمًا أو ضحية، دون موافقته. والأكثر من ذلك، فقد ذهب المشرع الجنائي بعيدًا ليقر مبدأين جديدين كليًا لدعم من خلالهم مقتضى قرينة البراءة؛ فقد أقر أن كل شك يفسر دائمًا لصالح المتهم، كما أقر مبدأ سرية البحث والتقصي، حيث أن كل بحث يجب أن يتسم بالسرية في جميع مراحل التحقيق، سواء مرحلة البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي، وسيتوجب حسب مدلول المادة 15 من المسطرة الجنائية على كل شخص يساهم في إجراء هذه المسطرة كتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي. فمجموع هذه المقتضيات الدستورية والقانونية يبتغى بها حماية المتهم، مخافة المس بحقه في حماية حياته الخاصة أو بمعطى براءته، أو أي تشهير يطاله ما دام لم تثبت إدانته. فعِدَّة هي القضايا التي يشهر فيها المتهمون ثم يوم القضاء بتبرئتهم، آخرها الاتهامات التي وجهت لسعد المجرد بالاغتصاب في قضيته الأولى، وتجدد ذلك مع ادعاءات وجهت لأشرف حكيمي في شأن شبهة الاغتصاب. وبالتالي، فإن إشكالية التشهير بالمتهمين تؤثر بشكل عميق في حياة الأشخاص، حتى ولو تم تبرئتهم، فحملات التشهير هذه تظل تلاحق هؤلاء إلى ما لا نهاية. فحتى ولو حُكِمَ على المتهم بشأن المنسوب إليه ابتدائيًا، لا يعني ذلك أن التهم التي يتابع بها ثابتة، فقد يبرز العكس من ذلك تمامًا، والتاريخ يسجل ذلك مع عدة أحداث مشابهة، كقضية أماندا نوكس التي اتهمت بقتل زميلتها في إيطاليا، ووصفها الإعلام الغربي بالشيطان في صورة إنسان، وتم التشهير بها على مدار سنوات إلى حين أن أثبتت براءتها. نفس الشيء مع ما يعرف بقضية سنترال بارك فايف التي اتهم فيها 5 أفراد بالاغتصاب الجماعي في أمريكا، وتم التشهير بهم على مدار 30 عامًا إلى حين تَبَيُّن براءتهم. وتجدر الإشارة أن هذه القضايا سابقة الذكر تحولت إلى أفلام درامية هي الأنْجَح في المجال السينمائي، كما هو الحال مع قضية البستاني المغربي عمر الرضاض الذي اتهم بقتل ربة عمله الفرنسية، وتعرض لتشهير وكراهية سواء التي طالت هويته كمهاجر أو دينه وغيرها على مدار سنوات، إلى أن تبينت براءته لاحقًا. فَهذا يسألنا حول ضرورة حماية قرينة البراءة للمتهمين من الادعاءات الكاذبة والمغرضة والتشهيرية، لما لها من تأثير نفسي واجتماعي عميق على المتهم وبيئته، وحتى على الضحية وعائلتها. وتجدر الإشارة أن المشرع المغربي، في إطار مجموعة القانون الجنائي، قد عاقب بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2.000 إلى 20.000 درهم كل من قام بأي وسيلة، بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبية مكونة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم. وبشكل عام، فإن مناخ حملات التشهير الجماعي على مواقع التواصل الاجتماعي للمتهمين، فعلاوة عن أنه لا يخدم بشكل أكيد المتهم، إلا أنه لا يخدم أيضًا العدالة. فإن كمية الضغط الذي يمارسه المجتمع الرقمي يشكل لا محالة قناعة جزئية لدى هيئات البحث والتقصي، أي الضابطة القضائية والنيابة العامة، بضلوع المتهم في ما ينسب إليه، ويطال ذلك أيضًا، علاوة على تغيير مسار البحث، حق المتهم في الإفراج المؤقت الذي كان يمكن أن يستفيد منه إذا لم يكن محط اهتمام الرأي العام. فهيئة التحقيق وهيئة الحكم قد لا تتجاوب بالشكل المطلوب مع طلب الإفراج المؤقت لتجاوز الشبهات السلبية في الموضوع. فأمام زحف تأثير المجتمع الرقمي هذا، قد تغدو اليوم حملات التشهير بالمتهمين هذه آلية غير مباشرة للتأثير في طبيعة الأحكام واستقلالية القضاء، وتلقي بعبء مضاعف على المتهم لإثبات براءته أمام القضاء. فبغض النظر عن كون المشرع الدستوري قد قطع مع أي من أشكال التأثير المباشر على القضاء، حيث جاء في الفصل 109 من الدستور: "يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر ولا يخضع لأي ضغط"، ويعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، إلا أن الطبيعة الرقمية للحملات تلك تجعلها تصل لا محالة إلى هيئة الحكم، الشيء الذي قد يؤثر بشكل ما (بالإيجاب أو بالسلب) على مخرجات المقررات القضائية. وبشكل عام، أضحت اليوم لمواقع التواصل الاجتماعي قوة لا يستهان بها، قد تؤثر لا محالة في مسار وجودة الأحكام، ينبغي تطويقها من قبل الشركات الرقمية الكبرى التي تتحجج بمعطى عدم الحد من حرية التعبير. إن التعاطي مع هذه السلوكيات الرقمية الجماعية التي توصم بالسلبية تارة والإيجابية تارة أخرى، ينبغي تقنينها في أفق ضمان إحقاق الحق وتركيز أسس المحاكمة العادلة لكلا الطرفين، محاكمة قوامها صون حق الدفاع وحفظ حقوق المتقاضين.