فرق لا يمكن تجاهله في السنوات الأخيرة، ارتفعت في المغرب الأصوات المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة، متأثرة بالشعارات والنماذج القادمة من المجتمعات الغربية. ظاهريًا، تبدو المساواة مطلبًا عادلاً ونبيلاً، وهي كذلك حين تعني تكافؤ الحقوق والكرامة والفرص. لكن الخطر يبدأ عندما تتحول المساواة إلى تشابه مطلق، وحين يبدأ المجتمع في إنكار الحقائق البيولوجية والنفسية التي تميز الرجل عن المرأة. لقد سار الغرب في هذا الطريق إلى أقصاه، وكانت النتيجة أزمة اجتماعية وأخلاقية عميقة ينبغي أن تكون لنا عبرة لا نموذجًا. يؤكد الباحث في علم النفس السريري الكندي الشهير جوردان بيترسون أن الرجل والمرأة متساويان في القيمة، لكنهما غير متماثلين في الطبيعة. وتشهد الدراسات البيولوجية والنفسية على صحة هذا القول. فالرجل يميل – في المتوسط – إلى الاهتمام بالأشياء، أي بالأنظمة والهياكل والتقنيات، بينما تميل المرأة أكثر إلى الاهتمام بالناس، أي بالعلاقات والعواطف والرعاية. هذه الفروق ليست نتاج تربية أو ثقافة، بل هي متجذّرة في التاريخ التطوري للإنسان. ولعلّ المثال الأوضح يأتي من أكثر دول العالم مساواة بين الجنسين: البلدان الاسكندنافية. ففي النرويج والسويد والدنمارك، حيث يتمتع الرجال والنساء بالحقوق والفرص نفسها تقريبًا، كان من المفترض أن تتقارب اختياراتهم المهنية. لكن المفاجأة كانت العكس تمامًا: الرجال يهيمنون على مجالات الهندسة والفيزياء وعلوم الحاسوب، في حين تختار النساء في الغالب التمريض والتعليم والرعاية الصحية. فكلما زادت الحرية، زادت الفروق الطبيعية في الميول والاختيارات. هذا ما يُعرف في علم النفس بمفارقة المساواة بين الجنسين، وهو دليل قاطع على أن الاختلافات بين الرجل والمرأة ليست ناتجة عن ظلم أو إقصاء، بل عن تفضيلات فطرية وسمات شخصية مختلفة. من منظور بيولوجي، تطور الرجال والنساء تحت ضغوط مختلفة. فسيولوجيا الرجال مهيأة للمنافسة الجسدية والمخاطرة، وهي صفات كانت ضرورية للصيد والحماية والسعي وراء المكانة في المجتمعات البشرية المبكرة. هرمون التستوستيرون يعزز العدوانية والتنافس والدافع نحو الهيمنة. أما النساء، فقد تطورن استجابة لمتطلبات الحمل، والرعاية، والتعاون الاجتماعي. ويلعب هرمونا الإستروجين والأوكسيتوسين دورًا مركزيًا في التعاطف، والترابط، والحساسية تجاه الإشارات الاجتماعية. عندما بدأت المجتمعات الغربية في إنكار هذه الفروق، بدأت الأسرة – وهي حجر الأساس في بناء الحضارة – في التفكك. حُلَّت فكرة التكامل بين الرجل والمرأة وحَلَّت محلَّها فكرة المنافسة. قيل للرجل: كن أكثر لينًا وأقل طموحًا، وقيل للمرأة: تخلّي عن أنوثتك وواجباتك الأسرية لتصبحي ناجحة. صُوِّرت الأمومة على أنها عبء، والأبوة على أنها اختيار ثانوي. وكانت النتيجة كارثية: ارتفاع معدلات الطلاق، تراجع الإقبال على الزواج، وازدياد أعداد الأطفال الذين يولدون خارج إطار الزواج والاسرة. وتشير دراسات كثيرة إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في أسر أحادية الوالد أكثر عرضة للرسوب المدرسي، والانحراف السلوكي، والجريمة. لقد تحولت المطالبة بالمساواة إلى تمرد على الطبيعة ذاتها. فالنتيجة في الغرب كانت انتشار الوحدة والعزلة، وانهيار معدلات الولادة، وضياع المعنى والهوية لدى الأجيال الجديدة. لم يعد الرجل والمرأة شريكين متكاملين، بل خصمين في صراع دائم على الدور والمكانة. إنّ على الانسان المغربي أن يتعلم من هذه التجربة قبل فوات الأوان. فمجتمعنا، رغم ما يعتريه من نقائص، ظلّ يقدّر الأسرة باعتبارها مؤسسة مقدسة ومصدرًا للقوة الأخلاقية والتماسك الاجتماعي. إنّ تدمير هذا التوازن بدافع التقليد الأعمى سيكون خطأً فادحًا. نعم لحقوق المرأة والرجل لكن ليس على حساب الاسرة المتوازنة، ركيزة استقرار وتقدم الأمم. ما نراه في مغرب اليوم هو أن الخطاب النسوي لا يقوم دائمًا على رؤية فكرية متوازنة أو معرفة علمية، بل كثيرًا ما تحركه التجارب الشخصية أو ردود الأفعال العاطفية على فشل اجتماعي أو أسري. كما أن بعض الرجال مِن مَن يُقدَّمون بوصفهم «مفكرين» أو «حداثيين» يرفعون شعارات الدفاع عن المرأة لا عن قناعة فكرية حقيقية، بل فقط لإظهار انتمائهم للتيار العصري، وكأن الحداثة تُقاس بمدى معارضة الرجل لقيم مجتمعه ودينه. وهكذا تحوّل النقاش حول المرأة من بحث علمي إلى ساحة للمزايدات الأيديولوجية واستعراض المواقف. لا يختلف عاقلان على أنه يجب علينا أن ندافع عن كرامة المرأة وحقوقها، لأن المرأة هي امنا واختنا وبنتنا وعمتنا وخالتنا وحفيدتنا وزوجتنا، لكن ليس على حساب ثقافتنا وديننا، ودون أن ننكر الفوارق الطبيعية التي تجعل التعاون بين الجنسين هو السبيل الى نجاح مشروع الاسرة، وبالتالي المجتمع. حماية حقوق المرأة لا تعني محو قيمنا أو تقليدا أعمى لتجارب أجنبية، بل تعني منحها الحرية والفرص ضمن إطار يحافظ على التوازن الأسري والاجتماعي الذي عرفته البشرية لقرون. المساواة الحقيقية لا تعني أن يكون الرجل والمرأة متطابقين، بل أن يُقدَّر كلٌّ منهما على أساس خصائصه. إنّ المجتمع الذي يسعى إلى محو الفروق بين الذكورة والأنوثة باسم التحديث، لا يحقق العدل، بل يزرع الفوضى. لقد دفع الغرب ثمنًا باهظًا لإنكاره الفطرة. أما المغرب، فما زال أمامه الفرصة ليختار طريقًا أكثر حكمة: طريقًا يجمع بين الحداثة والتوازن، بين تمكين المرأة وصون أنوثتها، وبين المساواة واحترام الاختلاف. -أستاذ باحث في علوم الطب الحيوي – معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، جامعة حمد بن خليفة