حينَ يتحدَّثُ الوَحْيُ بِلسَانِ المَصْلَحَة أليس غريبًا أن يتكاثر في زماننا هذا عددُ "المنزِّلين" أكثر من عدد المفسِّرين؟ منذ متى صار القرار السياسي يُوحى به من الغيب البيروقراطي؟ ومن الذي أذن بتحويل البلاغ السماوي إلى بلاغٍ وزاري؟ كيف أصبح "التنزيلُ" وسيلةً لتبرير الخطأ لا لتصحيح المسار؟ وأيُّ فِقْهٍ هذا الذي يجعل المصلحةَ نصًّا مقدّسًا، والمعارضةَ كفرًا بالقدر؟ أسئلة تتدافعُ مثل الغبار حول " فقه التنزيل المعاصر"، ذلك الفنّ العجيب الذي يُحوِّل الخطاب إلى مُعجزة، والَعبَث إلى إرادةٍ عُلْيا، والصَّمْت الشَّعبي إلى عَلامةِ رضى إلهيٍّ مؤقت. من فقه المفسرين إلى فقه المبرّرات بعدما استمعتُ هذا الأسْبوع إلى بعض خطابات زعماء السياسة، وتتبعتُ ما نُشر من تعليقات صحفية وحوارات تلفزية وثرثرات إذاعية، شدّني مُجددًا ذلك اللفظ الذي صار يتردّد في الخطاب العام مثل التعويذة: "التنزيل". كلمة صغيرة تبدو بريئة، لكنها تسلّلت من قاموس اللاهوت إلى معجم التدبير العمومي، واستقرّت هناك كأنها وُجدت منذ الأزل لتصف كل شيء ولا شيء في آن. كانت في البدء وعدًا بالإصلاح، ثم صارت شعارًا للتأجيل، ثم تحوّلت إلى ستار يُخفي خلفه العجز والتبرير؛ كأن السياسي حين ينطقها، يعلو صوته بجدّية نبوية توحي بأن ما سيحدث ليس قرارًا بشريًا وإنما واقعة منزّلة من سماء المعنى على أرض الإدارة. هكذا تاهَ المقصد وتحوّل المراد إلى أثر لُغوي عالق بين البلاغة والبيروقراطية، حتى غدت الكلمة أشبه بطقس لُغويّ لتزويق الفَراغ وتجْميل المُراوحة باسم "التنزيل". من هنا، أدركَ السَّاسَةُ، على نحوٍ متأخّر ومباغت، أن مفهوم "التنزيل" يمكن أن يتحوّل إلى كنزٍ استراتيجي لم يُستثمر بعد في قاموس السلطة. هكذا انقلبت دلالته من حقل الوحي إلى فضاء الإدارة، ومن لغة السماء إلى خطاب المكاتب والدواوين. لم يعد "التنزيل" فعلًا روحانيًّا يُتلى في المحاريب، وإنما صار آليةً بلاغية تُستعمل في المؤتمرات الصحفية لتمنح القرارات طابعًا من "القداسة البيروقراطية". فقد غدا كل قرارٍ سياسي "منزَّلًا"، وكل خطابٍ "آيةً" في كتاب الإصلاح، وكل تغريدةٍ "حديثًا قدسيًّا" يفسّر للناس أسرار الواقع كما لو كان وحْيًا نازلًا من عَلْياء البَيَان. وعلى هذا النحو، الْتَبست حدود الخطاب بين ما هو تدبيرٌ بشري وما هو تعبيرٌ شبه نبويّ، حتى صار السياسيّ يتكلم كما لو أنه يفسّر نصًّا يُملى عليه من غيبٍ إداريّ لا يُخطئ أبدا. كيف يطهّر التنزيل الأخطاء ويكرّم العجز لقد انتقل الخطاب السياسي في نسخته المعاصرة من مجال التداول العقلاني إلى منطق الخطاب التنزيلي، حيث لم يعد الواقع يُقرأ بوصفه معطًى قابلًا للتحليل، بقدر ما أصبح يُفسَّر كما تُفسَّر النصوص المقدّسة في كتب التفسير الأولى. تحوّل السياسي إلى مفسّرٍ متعالٍ، لا إلى فاعلٍ مدنيّ، وصار كلامه يُتلقّى من غير أن يُناقَش، ويُؤوَّل من غير أن يُفكَّك؛ هكذا انزاحت البلاغة السياسية من فضاء الحوار إلى مقام الطاعة، ومن لغة الإقناع إلى لهجة الإلْهام، لتغدو السِّياسة نفسها نوعًا من "التفسير الإجباري للغيب الإداري". وهكذا، غدا "التنزيل" في معجم السياسة الحديثة أداةً لتقنين الخطأ وتجميل العجز، مظلّةً شرعية تلوّحُ بها السلطة كلّما أمطرتها الوقائع بما لا يَسُرّ. لم يعد "التنزيل" طريقًا إلى الفهم، وإنما أضحى سلّمًا إلى السيطرة، ولإلقاء البلاغ الإداري باسْم القَدر. ففي عصور الأنبياء، كان الوحيُ يُطهّر القلوب ويهدي البصائر؛ أمّا في عصور الساسة، فقد صار "التنزيل" يُطهّر الفضائح ويهدي التقارير إلى الرفوف العليا. والفارق، على بساطته عميق الدلالة: فالأول كان يُنزّل الرحمة، أمّا الثاني فلا يُنزل إلا المراسيم، وكلٌّ يُتلى على طريقته، هذا بخشوعٍ، وذاك بتوقيعٍ رسميٍّ في آخر الصفحة. في دواوين الدولة، لا يأتي "التنزيل" من السماء، وإنما من الطابق العاشر، حيث ينعقد الوحي الإداري في صمت المكاتب المكيّفة. هناك، يُوقَّع القرار بيدٍ مرتجفة، كما لو كان مرسومًا مقدّسًا، ثم يُنزل على الموظفين نزول المطر على أرضٍ عطشى للزيادة في الأجور مثلا، غير أنّ هذا المطر سرعان ما يتبخّر قبل أن يبلّل الرواتب، فيبقى الموظف ينظر إلى السماء البيروقراطية مترقّبًا غيمة جديدة من "التنزيل"، علّها تمطر شيئًا غيرَ البيانات. التنزيل بين المنابر والطاولات في عالم الأحزاب، لا ينزل "التنزيل" إلا بعد اجتماعٍ سريٍّ طويلٍ مع "الجهات العليا"، حيث تُغلق الهواتف، وتُطفأ الأنوار، ويُستدعى الغيب الحزبي لاستشارته في شؤون المرحلة. يخرج الزعيم بعدها بوجهٍ متجهّمٍ تكسوه مسحةُ الوقار، ويتحدّث بطمأنينةٍ كهنوتية قائلًا: " لقد استنرنا بالرؤية، وسنعلن "التنزيل" غدًا في المؤتمر."بهذا المعنى، يشبه "التنزيل" الحزبي الوحي، غير أنّه لا يُوجَّه إلى الناس، وإنما إلى الصناديق الانتخابية التي تنتظر البشارة بالأرقام لا بالحقائق. وفي اليوم الموعود، ينزل البرنامج الجديد من سماء الحزب كما ينزل المطر في موسم الجفاف: غزيرٌ في الخطابة، شحيحٌ في الأثر. ويمتلئ النصّ بالوعود التي لا تُنفَّذ، وبالشعارات التي تأبى الموت. إنّه "تنزيلٌ" بعوائد رمزية تُضاف إلى رصيد الزعيم في بنك الخَطابة السّياسية. أما في المقاهي، فللشعب تفسيراته الخاصة "للتنزيل"، حيث تتحوّل الطاولات إلى مدارس للتأويل، والأكواب إلى مصاحف صغيرة للنقد اليومي. يجلس أحدهم أمام كوب قهوة بارد ويقول بوقار نصف جاد: "الزعيم لا يتكلم من فراغ، إنه مُلهم"، فيرد الآخر بسخرية لاذعة: " بل مُلهِم لنفسه فقط"، فتندلع المجادلات كما في حلقات المفسرين الأوائل: هل هذا القرار تنزيل بالمعنى الحرفي، أم تأويل سياسي مصلحيّ، يتماشى مع مصالح الكرسي لا مصالح الناس؟ وفي نهاية المطاف، يتفق الجميع على حقيقة مُرَّة: "التنزيل" يحدث فقط على رؤوسهم، بينما من أنزله، يظل بعيدًا عن أيّ أثر للغبار الأرضي. فقهُ السِّياسة الجديدة: كلُّ قَرارٍ وَحْيٌ، وكلُّ خَطأ ابْتلاءٌ هكذا اكتمل "فقه التنزيل المعاصر": فبعد أن كان "التنزيل" في الماضي رحمةً للناس وهدايةً للعقول، صار اليوم أداةً لتبرير الأخطاء وتجميل العجز. كان الوحي قديماً ينزل ليحرّر الإنسان من قيود الوثن والجهل، أما الآن فيُستعار ليصنع أوثانًا من التصريحات والمراسيم، ويعلّق على جدران المكاتب المكيفة. لم يعد الغيب في السماء، أضحى في الدواوين، ولم تعد الآيات تُتلى على المنابر، وإنما تُذاع في النّشرات المسائية بصوت رخيم يمزج بين الإيمان والميزانية، بين القداسة والإحصاءات. في القديم، كان المفسر يبحث عن المعنى في النصوص، أمّا اليوم فالمسؤول يبحث عن مبرّر يعفيه من السؤال ويبرّر القرارات. هكذا وُلد "فقه جديد للتنزيل"، لا يُدرّس في المدارس، بل تُلقى دروسه اليومية في المؤتمرات الصحفية. فقهٌ يعتبر كل سياسة وحيًا، وكل خطأ ابتلاءً، وكل اعتراض كفرًا بالخطط التنموية، وكأن الناس مأمورون بالتصديق قبل أن يُتاح لهم السؤال. إنه الفقه الذي جمع بين اللاهوت والبيروقراطية، وصاغ للعبث شريعةً تُتلى على الجماهير بوقارٍ، يجعل المواطن يشعر وكأنّه في صلاة جماعية على الهواء، يصغي دون أن يتسرب إليه الشك. "فقه التنزيل المعاصر" ... آخر ما نزل من سماء الخطاب الرسمي، وأوّل ما صعد من دخان الواقع، ليترك وراءه أثراً عجيبًا: فراغا من الحلول، وغبارًا كثيفًا من التبريرات، وابتسامات رسمية تتأرجح بين القداسة والسخرية، تذكّرنا بأن السياسة اليوم تحولت إلى عبادة للقول، حيث يُحتفى بالكلام، ويُكرَّم الوعد، بينما يبقى المواطن يتأمّل السماء بانتظار نزول شيء ملموس على أرضه. التنزيل السياسي: كلماتٌ تتساقط بلا أثر فهل أصبح التنزيل في خطاباتنا السياسية وسيلةً للتغطية على كل شيء، أم مجرد لعبة لغوية لتجميل الفشل؟ ولماذا كل قرارٍ يُقدَّم على أنّه وحيٌ، بينما كل واقعٍ يعارضه يُحوَّل إلى تأويل باطل؟ وإذا كان التنزيل لا يلمس الأرض، فهل المواطنون مجرد متفرجين، يراقبون سقوط الكلمات مثل المطر الرمزي، دون أن يبلّلهم شيء من الحقيقة؟ وهل سيظل "فقه التنزيل المعاصر" يُتلى على المنابر والنشرات، من غير أثر حقيقي، ليتركنا بين تساؤلٍ وسُخرية: من أنزل الحقيقة، ومن صاغ الوهم، ومن سيستيقظ من هذا الحُلم السّياسي المَسَائي؟ لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.