انسحاب من التصويت أم انسحاب من التاريخ؟ يُعد الموقف الجزائري الأخير الذي اتخذته مساء يوم 31 أكتوبر الجاري بالامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن المتعلق بقضية الصحراء المغربية، حدثاً لا يمكن تفسيره بمعزل عن سياقه أو اعتباره مجرد مناورة عابرة في سياق التوازنات الدبلوماسية، بل يمثل فصلاً جديداً في مسار طويل من التناقضات التي طبعت سلوك النظام الجزائري منذ اندلاع هذا النزاع المصطنع عام 1975. إنه موقف يجسد في جوهره مأزق الدولة الجزائرية التي وضعت نفسها، منذ البداية، في موقع الخصم بدلاً من الجار، وفي موقع المتورط بدلاً من الوسيط، فوجدت نفسها اليوم أمام إشكالية الشرعية الدولية التي لم تعد تتيح لمناوراتها التقليدية، ولا لخطاباتها المكرورة حول "تقرير المصير" و"الشعب الصحراوي"، أن تحقق النتائج المرجوة. منذ اللحظة التي أعلن فيها المغرب عن تنظيم المسيرة الخضراء عام 1975، قرأت الجزائر المشهد من منظور إيديولوجي بحت، متأثرة بخطاب الحرب الباردة وهاجس الهيمنة الإقليمية. فقد رأت في استعادة المغرب لصحرائه تهديداً مباشراً لطموحاتها في قيادة المنطقة المغاربية، فاختارت الانحياز إلى حركة انفصالية ناشئة، وقدمت لها كافة أشكال الدعم اللوجستي والسياسي والدبلوماسي، حتى تحولت جبهة البوليساريو إلى أداة من أدوات سياستها الخارجية. بيد أن التاريخ، كما يُعلمنا المنهج التاريخي، لا يرحم التناقضات، إذ لم تستطع الجزائر بعد مرور نصف قرن أن تقنع العالم بصلاحية أطروحتها، لأن الوقائع على الأرض والقانون الدولي الإنساني والسياسي لا يؤيدان سوى سيادة المغرب ووحدته الترابية. قرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء المغربية، الذي صوتت عليه غالبية الدول الأعضاء لصالح تمديد ولاية بعثة المينورسو وتأكيد دعم المسار السياسي القائم على الواقعية والتوافق، لم يكن قراراً مفاجئاً في مضمونه، بل استمراراً لنهج دولي راسخ يُقر بأن مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب عام 2007 تمثل الإطار الجدير والوحيد القابل للتطبيق. ما كان مفاجئاً هو موقف الجزائر نفسها التي امتنعت عن التصويت، وهي العضو غير الدائم في مجلس الأمن. هذا الامتناع ليس حياداً، ولا تحفظاً دبلوماسياً، بل هو تعبير عن عجز سياسي واضح، إذ وجدت الجزائر نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما التصويت ضد القرار فتبدو كقوة تعرقل مسار السلام، وإما التصويت معه فتُقر ضمناً بمضامينه التي تضعها في خانة الطرف المسؤول عن استمرار النزاع. فاختارت طريقاً وسطاً يعكس مأزقها التاريخي: لا تريد أن تظهر مناهضة للشرعية الدولية، ولا تملك الجرأة لتكون في صفها. تحليل الموقف من زاوية القانون الدولي العام يكشف أن الجزائر لم تعد قادرة على الدفاع عن موقعها "غير المعلن" كطرف رئيسي في النزاع، إذ إن كافة القرارات الدولية منذ عام 2018 تؤكد على مسؤولية الأطراف الأربعة المعنية: المغرب، الجزائر، موريتانيا، والبوليساريو. كما أن خطاب الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي ستافان دي ميستورا أصبح يربط أي تقدم في المسار السياسي بمشاركة الجزائر الفعلية في المفاوضات، باعتبارها صاحبة القرار الحقيقي في هذا الملف. هذا التوجه الدولي يُفند الرواية الجزائرية التي سعت طيلة عقود إلى تقديم نفسها ك"دولة مجاورة وحسب"، بينما هي في الواقع الدولة الداعمة والموجهة لجبهة البوليساريو. من منظور العلاقات الدولية، يمكن القول إن الموقف الجزائري الأخير يعكس عزلة متزايدة داخل مجلس الأمن، إذ لم يعد خطابها يلقى صدى يُذكر لدى القوى الكبرى. فرنسا، الولاياتالمتحدة، بريطانيا، وحتى روسيا، التي كانت الجزائر تراهن على تقاربها التقليدي معها، أصبحت تتعامل ببراغماتية واضحة مع الملف، مقدمة مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية على أي اعتبار إيديولوجي. أما دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فقد بدأت تتحول تدريجياً نحو الاعتراف بشرعية الموقف المغربي، سواء عبر افتتاح قنصليات في الأقاليم الجنوبية أو عبر دعم الحكم الذاتي كخيار واقعي. في هذا السياق، يصبح الامتناع عن التصويت أشبه بصيحة في واد، تعبيراً عن فقدان التأثير في المحافل الدولية. التحليل النقدي للموقف الجزائري يكشف أن هذا الامتناع هو في جوهره إعلان ضمني بإخفاق استراتيجية "التجميد" التي انتهجتها الجزائر منذ عقود. فقد كان هدفها إبقاء الوضع على حاله بين الحرب والسلام، حتى تستثمر النزاع في صراعاتها الداخلية والخارجية، لكن المتغيرات الدولية الراهنة — من الحرب في أوكرانيا إلى التحولات في الساحل الإفريقي — جعلت استمرار هذا الجمود مكلفاً سياسياً واقتصادياً. الجزائر اليوم مطالبة، أكثر من أي وقت مضى، بتحديد موقعها الحقيقي: هل هي دولة مسؤولة تساهم في استقرار الإقليم، أم أنها ستظل رهينة سردية بالية تُدار من داخل أروقة عسكرية فقدت بوصلتها الإستراتيجية؟ أما على المستوى الإنساني، فإن مسألة مصير اللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف تظل الجرح الأكثر إيلاماً في هذا الملف. فهؤلاء الآلاف يعيشون منذ عقود في ظروف لا إنسانية، محرومين من أبسط حقوقهم في حرية التنقل والاختيار، تحت سيطرة مليشيات البوليساريو التي تستغلهم كأدوات في معركة لم تعد تخصهم. القانون الدولي الإنساني واضح في هذا الشأن: الدولة المضيفة — أي الجزائر — تتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن حماية اللاجئين وضمان مراقبة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لأوضاعهم. غير أن الجزائر ترفض السماح بإحصاء هؤلاء اللاجئين أو تحديد وضعهم القانوني، لأنها تدرك أن أي شفافية في هذا الملف ستكشف الزيف الذي تنطوي عليه ادعاءاتها الإنسانية طوال هذه العقود. في ضوء المنهج التاريخي، يتجلى أن ما يحدث اليوم هو نتيجة حتمية لمسار بدأ منذ منتصف السبعينيات، حين قررت الجزائر أن تجعل من قضية الصحراء ورقة ضغط إقليمية في مواجهة المغرب. بيد أن التاريخ يثبت أن القضايا المصطنعة لا تصمد طويلاً أمام منطق الجغرافيا والسيادة والمشروعية. المغرب، الذي استرجع أقاليمه الجنوبية بوسائل سلمية، استطاع أن يحول الصحراء إلى نموذج للتنمية والاندماج الوطني، بينما ظلت الجزائر أسيرة خطاب الحرب الباردة الذي تجاوزه الزمن. من هذا المنظور يمكن فهم امتناع الجزائر عن التصويت كإشارة إلى إدراكها الضمني بأن المعركة الدبلوماسية خاسرة. إنها لحظة تراجع لا تريد أن تعترف بها، وانسحاب متحفظ من ساحة القرار الدولي، قبل أن يتحول إلى انسحاب صريح من مسار التاريخ نفسه. فالقرار الدولي لم يكن موجهاً ضدها بقدر ما كان مناهضاً لمنطقها المتقادم، لأنه دعا إلى حل سياسي واقعي ودائم، وهو ما يعني ضمناً نهاية وهم "الاستقلال" الذي ترفعه البوليساريو. إن ما تواجهه الجزائر اليوم ليس مجرد حاجة إلى تصحيح موقف في مجلس الأمن، بل ضرورة إعادة بناء رؤيتها الإقليمية على أسس جديدة تقوم على التعاون بدلاً من العداء، والتنمية المشتركة بدلاً من الصراع الوهمي. أما مصير اللاجئين، فينبغي أن يكون منطلقاً لإصلاح إنساني عاجل، يمكنهم من العودة إلى أرضهم في إطار مشروع الحكم الذاتي، حيث يستطيعون المساهمة في بناء مستقبلهم داخل وطنهم الأم. لقد حان الوقت للجزائر أن تدرك أن التاريخ لا يرحم من يصر على البقاء خارج سياقه، وأن القانون الدولي، وإن كان يتسامح في التفاصيل، فإنه لا يعفي من المسؤولية. وحان لها أن تفهم أن كل امتناع عن التصويت في مجلس الأمن هو، في глубиاته، امتناع عن مواكبة حركة التاريخ التي تتقدم بثبات نحو اعتراف دولي شامل بسيادة المغرب على صحرائه. إنها ليست نهاية معركة فحسب، بل بداية تحول إستراتيجي يعيد رسم خريطة الشرعية في المنطقة، حيث لم يعد صوت الشعارات كافياً، بل صوت العقل والسيادة والتنمية هو الذي يكتب الخاتمة.