منذ عام 2003 يتضخم صندوق الأكاذيب في العراق المزيف بذريعة الحرية والديمقراطية. كلما كبر، طُلي بأصباغ واهنة تنقشع أمام دمعة طفل منهك أو عرق كادح مهدور الكرامة تحت حكم الأوليغارشية ولصوص الدولة في ما يسمى "العراق الديمقراطي". وعندما يتعلق الأمر بالبصرة، مدينة المدن، لا يصمد هذا الصندوق أمام كل ركلة من أبنائها الذين يتحملون جورًا لم تعرفه في تاريخها الحديث. كل شارع، كل سوق، كل حي ينطق بالمرارة والحقائق المغيبة. مع بطولة كأس الخليج العربي عام 2022، انكشف الصندوق أمام العالم. فقد قدمت وسائل الإعلام صورة تلفزيونية ملونة لمدينة وهمية، بينما بقيت الأحياء العشوائية الغاطسة في وحل المجاري وبيوت الصفيح والطين محجوبة بجدار من أموال الفقراء، في مدينة ترقد على أضخم ثروة نفطية في العراق. دع عنك صراع الميليشيات المستعر على تجارة تهريب النفط والمخدرات، حيث المسافة لا تمتد كثيرًا صوب إيران. كلما حاول الكذابون الكبار ترقيع هذا الصندوق، ظل يتدحرج تحت أقدام العراقيين في المدينة التي كانت يومًا "فينيسيا الشرق". لا تكفي الألوان الباهتة ولا اللوحات الإعلانية الرخيصة لتغطية الحقيقة؛ فالبصرة تقاوم، والحقائق فيها تتفجر مهما حاولوا كتم صوتها. آخر الأكاذيب أن البصرة مدينة لا تسمح بإقامة حفلات غنائية بذريعة رجال الطوائف، كما حدث مع منع العقل القبوري حفلة المطرب محمد عبدالجبار. ضحك يشبه البكاء، في مدينة ولدت لتكون ترنيمة غنائية. البصرة التي عشت فيها سنوات قليلة خلال دراستي الجامعية كانت أشبه بأنشودة، حيث كان عوض دوخي يأتي من الكويت ليغني من شغاف القلب، فيما كان عبدالكريم عبدالقادر يذوب ولهًا كلما هبت عليه رياح البصرة. فؤاد سالم غادرها إلى الكويت، لكنه لم يغنِ إلا بروح بصرية هائمة بجمل موسيقية من ذياب خليل وطارق الشبلي، وبقصائد طاهر سلمان وداود الغنام. رياض أحمد لم يكن يغني إلا عندما تكون بوصلة قلبه نحو البصرة، وسيتا هوكبيان غنت في مدن العراق كلها، لكنها بقيت قطعة من حلاوة بصرية، بينما كانت الأرواح تهيم مع صوت أمل خضير فلا يخطر بالبال غير البصرة. هل انتهت قصة الغناء في البصرة لأن حثالات الطوائف يريدون منعها من الغناء؟ البصرة ولدت لتكون مدينة الإيقاعات والأغاني، وأناشيد لا يستكين البحر من دونها. هل يمكن أن تنسى أنشودة "ما قصرتوا" التي كتبها جبار النجدي ولحنها ذياب خليل؟ شط العرب يؤرخ لسيرته بالغناء وحده، فكيف تُقطع أوتار صوت المدينة التي بقيت تغني منذ أن بناها عتبة بن غزوان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب؟ وكيف تُلقم حنجرتها بالغبار كما يريد العقل القبوري وأذرع إيران في العراق؟ ليست البصرة وحدها. العراق الحقيقي أسطورة غناء منذ أن رثى السومري ابنته القتيلة وظل يغني في وداعها. هل يدرك العقل القبوري أن العراق بلا غناء يفقد مواصفاته الأزلية؟ وأن البصرة لا معنى لها بلا الأغاني الهائمة من أبو الخصيب والعشار، من شارع بشار بن برد حتى الزبير والكويت؟ العراق المزيف، الذي يراد قتل الغناء فيه وإبقاء العويل مع المراثي الطائفية، كان فيه نوري السعيد يشارك أستاذ المقام هاشم الرجب في أداء المقام في لقاءات بمنزله. ويعود له الفضل في المحافظة على المقام العراقي بعد هجرة الفنان العراقي صالح الكويتي إلى إسرائيل، بينما يُسحق اليوم المقام عمدًا وبشكل بغيض، ويُحوَّل إلى ركام نسيان. المدينة التي كانت تهتز مع كل نغمة، وتنبض بالقصيدة والمقام، أصبحت رهينة قرارات الطوائف وفساد السلطة، لكنها لم تفقد روحها. فالشارع البصري، حتى في أحلك لحظات الحصار، كان يردد الأغاني بين الحقول المهجورة والأرصفة الطينية، كأن البحر لا يمكن أن يصمت، كأن صوت شط العرب أقوى من كل الصناديق المليئة بالكذب. البصرة ليست مجرد ميناء أو مدينة نفطية، بل ذاكرة عراقية حية، مختزلة في الأصوات والأغاني والوجد. من أبو الخصيب إلى الزبير، ومن الأسواق القديمة إلى أحياء العشوائيات، يتردد صدى الغناء كحقيقة لا تموت، كصرخة في وجه كل من أراد تزويرها. فأي بصرة هذه من دون غناء؟ وأي عراق هذا الذي يُحاول طمسه بصناديق الأكاذيب الواهنة، ويمنع أبناءه من الغناء بينما تُغتال ذاكرتهم الموسيقية أمام أعين العالم؟ قد يكبر الصندوق، وقد يُطلى بأصباغ شاحبة، لكنه ينهار أمام كل نغمة، أمام كل قلب بصري ينبض بالحقيقة. قبل أن يهزم الغناء، ستنتصر البصرة، وستظل تغني رغم كل الأكاذيب.