مظاهرة حاشدة في مدريد لدعم رئيس الوزراء وحثه على البقاء    بدء أشغال المؤتمر السادس للبرلمان العربي بمشاركة المغرب بالقاهرة    منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    گاريدو مدرب اتحاد العاصمة: جينا نربحو بركان ونتأهلو للفينال ونديو الكاس    أمن طنجة يجهض مخطط لإغراق المدينة بالمخدرات والحبوب المهلوسة    توقعات أحوال الطقس غدا الأحد    هذا تاريخ عيد الأضحى لهذه السنة بالمملكة    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    فرنسا تعلن استعدادها تمويل خط كهرباء يربط الدار البيضاء بالداخلة    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية الطوغو بمناسبة العيد الوطني لبلاده    بعد "بلوكاج" دام لساعات.. الاستقلال ينتخب فجر السبت لجنة ثلاثية لرئاسة مؤتمره    بلغت تذاكره 1500 درهم.. حفل مراون خوري بالبيضاء يتحول إلى فوضى عارمة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح وآثم من فعل ذلك    تقنيات أوروبية متطورة تحاول إقناع مهنيي القطاعات الفلاحية في المغرب    مجلس الأمن .. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    مدير الثانوية اللي حصل ففي يو كيتحرش بتلميذة قاصر "هرب".. والنيابة العامة دارت عليه مذكرة بحث وسدات عليه الحدود    ارتفاع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و388 شهيدا منذ بدء الحرب    الخارجية البريطانية: ملتازمين بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فالصحرا وكنشجعو الأطراف باش يواصلوا جهودهم فهاد الصدد    الرباط: اختتام فعاليات "ليالي الفيلم السعودي"    المغرب يواجه واحدا من أكثر المواسم الفلاحية كارثية في تاريخه    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    مؤتمر الاستقلال يمرر تعديلات النظام الأساسي ويتجنب "تصدع" انتخاب القيادة    بنتايك ضمن التشكيلة المثالية للجولة ال34 من دوري الدرجة الثانية الفرنسي    تفاصيل وكواليس عمل فني بين لمجرد وعمور    الدكيك يكشف ل"الأيام24″ الحالة الصحية ليوسف جواد وإمكانية مشاركته بكأس العالم    تواصل حراك التضامن مع الشعب الفلسطيني في المغرب.. مظاهرات في 56 مدينة دعما لغزة    قناة عبرية: استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي قريبا وجميع الضباط المسؤولين عن كارثة 7 أكتوبر سيعودون إلى ديارهم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب هذه الدولة    مجلس أمناء الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    فرنسا مستعدة ل"تمويل البنية التحتية" لنقل الطاقة النظيفة من الصحراء إلى الدار البيضاء    "التكوين الأساس للمدرس ورهان المهننة" محور ندوة دولية بالداخلة    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    خمسة فرق تشعل الصراع على بطاقة الصعود الثانية وأولمبيك خريبكة يهدد حلم "الكوديم"    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة        زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    حريق كبير قرب مستودع لقارورات غاز البوتان يستنفر سلطات طنجة    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجازي والمزاجي في لعبة كرة القدم
نشر في هسبريس يوم 25 - 11 - 2009

تأملات حول خسارة الفريق المصري أمام الفريق الجزائري ""
حتى السلطة نفسها لم تعد تنتج ومنذ فترة طويلة سوى علامات تشبهها-جان بودريار
حول تلك القطعة الصغيرة المنتفخة بالهواء وليس غير الهواء تدور كبرى المبادلات للعنف المادي والرمزي. عنف يستند إلى كثير من المجاز البعيد والمزاج السيء. لا ندري حتى اليوم لم تستأثر هذه اللعبة الطفولية الشكل والاهتمام بكل هذا الهياج الجمعي.
لقد مارست هذه اللعبة في فترة الطفولة وربما لي معها حكايات تتراوح بين المسلّي والدرامي. فأول إحساس كان ينتابني هو نوع من الاستخفاف بالمشهد لمجرد أن آخذ مسافة من الحشد الجماهيري المتدفق ببلادة إلى المدرجات لا يهتم بشيء اهتمامه بهذه اللعبة البليدة. وحتى الآن لا أفهم كل ذلك الذي يحدث في المشاعر العميقة حينما تنتقل العدوى في تموجات جمهور يحب أن يلعب خارج الملعب بشيء من الكلام المنتفخ بالهواء وليس إلا الهواء. لعبة لا تقل هرولة وعنفا كما يحدث داخل الملعب. لذا لم تكن اللعبة غير جماهيرية ولا هي لعبة كل الأعمار، أو بتعبير معمر القدافي : إنها ليست رياضة. بمعنى آخر هي لعبة أنانية لمجموعة تلعب وملايين البشر يحرقون أعصابهم. ماذا يقول الجمهور من كلام يخاطب العقل؟ هناك في المدرج لاعبون نظريون يحكمون ويمارسون كل شيء إلا الفرجة من التنظير لهذه الممارسة بصورة تعكس غرابة هذا الطقس الذي لا ينتمي إلى جنس رياضي بعينه. لكل منا أن يتساءل: ماذا لو كانت هذه اللعبة تمارس من دون جمهور وفي الملاعب المغلقة؟! إذن هي لعبة الجمهور. لذلك ومن دون جمهور لا تنفع تقنية اللاعبين. يبدو من تاريخ دراما كرة القدم أننا بصدد لعبة تمنح جمهورها فرصة للهياج : من يملك مشاهدة مبارة برباطة جأش؟!
هناك خداع عنفي ممارس ومقبول. وحينما تتداعى مشكلات كرة القدم أكثر من تداعيات الحرب والأزمات الاقتصادية ، فلا مجال للحديث إذن عن أزمة في الروح الرياضية ، بل المطلوب أن نتحدث عن عوارض وتدفق غير مسيطر عليه من رعونة كرة القدم. سأعود وأقول لماذا فشلت في أن أمارس لعبة كرة القدم بعد أن جعلتها من ذكريات الطفولة. لقد تنبهت مبكرا إلى عنفها المقنع وطفوليتها. ولكنه العنف غير المستوفى دائما. هناك شيء مما يتبقى من العنف في صورة احتقان لا يجد مخرجه كاملا في هذه اللعبة. وهذا هو جوهر وسياسة هذه اللعبة ، الذي يجعل مجرد الانتصار في مبارة لا يمنع من مواصلة العنف المادي بين الجماهير. لقد وجدت نفسي داخل الملعب أتعرض لاعتداءات جبانة من قبل لاعبين لا يملكون أن ينازلونك خارج هذه اللعبة. فضلت بعدها فنون القتال، لأنها بقدر مباشرتها ومظهرها العنفي هي أقل تهييجا من كرة القدم وأكثر قدرة على التفريغ الكامل لشحنات العنف لا تبقي في النفس منها شيئا . لأن سياستها تهدف إلى نزع العنف وليس إذكاءه. والمهم من ذلك كله هو أنها أقل شعبوية من الكرة.
لا شيء أمكنه قهر الرأسمالية كما فعلت أيديولوجيا كرة القدم. فلا نهاية لتاريخها. فجمهورها يبحث دائما عن غلب لا يتحقق كما يريد ، وعن تفريغ للعنف لا يتم بشكل كامل. فالولايات المتحدة الأمريكية وهي تملك أكبر صناعة إعلامية فشلت في أن تجعل من البيزبول بديلا عن كرة القدم. ولكنها على الأقل استطاعت أن تحرر جمهورها من أن لا يشارك العالم عنفه الكروي. ربما يعود ذلك إلى نجاحها في التعويض بكرة القدم الأمريكية التي تملك من الممارسة العنفية ما يفوق كرة العالم التقليدية. لا يعوض العنف إلا العنف في مسار جنون رياضي خرج عن حده الرياضي. لا أحد في واقع الأمر يلعب كرة القدم ولا أحد يشاهد مبارياتها. هناك فقط خدعة بليدة لأنها تتكرر باستمرار لممارسة التحشيد والتهييج والتهريج في مناسبة لتشابك العنفين المادي والرمزي. هناك لعبة أثبتت تفوقها لأسباب نجهل الكثير من حيثياتها على كل أشكال اللعب في منسوب الانفعال. لا يكاد يضاهيها في هذا التهييج إلا طقس مصارعة الأسود في اليونان القديمة ومصارعة الثيران في المجتمع الإسباني. ولكنها تتفوق عليهما في جوانب ليس آخرها قوة تداخل العنفيين المادي والرمزي ولعبة المجاز وسوء المزاج بصورة تفوق الخيال. ولعله من المفارق القول أن كرة القدم يجب أن تلعب بروح رياضية هذه العبارة الغامضة والتعامل معها بعقلانية. ليس في الأمر سوى خداع يخفي أكثر أشكال العنف بدائية ، يعاوض بالعنف الرمزي ويشرعن العنف المادي بقواعد جزافية ؛ أي بضرب من المواضعة لإدارة عنف مؤطر بقواعد لعبة ، ربما ما زالت لم تقنع العقلاء بأنها لعبة كما لم تقنع أصحابها بمعقولية قواعدها. وهذا هو الفارق الخادع بين العنف المشروع والعنف الممارسة وفق قواعد اللعبة، التي هي في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون مجرد لعبة قواعد جزافية. ما يوجد في اللاوعي الكروي ليس هو مجرد ممارسة عنف مقوعد ورمزي بشيء من المزاج المصاغ بمزاج سيئ ، هناك شيء لا تستطيعه قواعد اللعبة لأنه يفضحها و يجعلها مستحيلة : أن تكون كل الضربات مشروعة. ولهذا السبب تحديدا كان لا بد من قواعد جزافية ومن إبقاء الكثير من العنف والكراهية العميقة محتبسا في النفوس.إنها لعبة لا يمكن أن تلعب إلا بمنتهى الانفعال. أي بتعبير أوضح: إنها ليست لعبة للاسترخاء بل هي لعبة التهييج بامتياز. إنها ليست لعبة عقلانية. فما معنى إذن أن يكون اللاعقلاني عقلانيا.. والهياج روحا رياضية.. والانفعال الأناني تسامحا.. وكيف تصبح الهزيمة بعد كل هذا نتيجة مقبولة بضمير بارد؟!
هذا الهذيان الكروي الغاط في مفارقاته، هو ما يمنح لهذه اللعبة شعبويتها البليدة ويجعلها أفضل تعبير عن غرائز الحشد الاجتماعي والوعي الشقي..في هذه اللعبة لا يمكننا تصور أنفسنا خارج أجواء الحرب ومفرداتها. هنا تحضر لغة الحرب وسيكولوجيتها. فالمقابلة تقوم بين فريقين مؤلفان من هجوم ودفاع ووسط وحارس (مرمى)..وجمهور يحرض على المواجهة ونشيد وطني يلهب الحماسة الوطنية. هو عدو يجب هزمه وتسديد ضربات قوية باتجاه مرماه والانتصار عليه. هناك فريق يطير فرحا عند نهاية المبارة وآخر يبكي حظه العاثر. ومع ذلك لم تعد لعبة كرة القدم محلا لكبرى الاستعارات الحربية فحسب ، بل إن عالم الحرب نفسه بدا يستلهم لغته من داخل هذه اللعبة. أحيانا لا نجد أروع من القول في لحظات العدو الأكثر حرجا: الكرة اليوم في مرمى العدو.
هوس كروي واختلال سياسات
يمكن لكرة القدم أن تتعدى حدودها. أي يمكن أن تتسبب في قطيعة ديبلوماسية بين الدول. فاللعبة تستمر ما بقي الاحتقان. وهذا ما تتجه إليه تداعيات المبارة التي جمعت بين الفريقين المصري والجزائري في الخرطوم برسم التأهيل لنهائيات مونديال في جنوب أفريقيا. فما حدث بين الفريقين لم يكن من أعاجيب هذه اللعبة التي تحمل القابلية لكل أشكال المهازل. هناك وراء هذه اللعبة لعبة أخرى سياسية.وهو الأمر الذي يتعدى كونها مجرد تفريغ شعبوي لأزمات اجتماعية أو تعويض عن إخفاق سياسي لكيانين تؤكد المؤشرات على أنهما يعانيان من وضعية هشة؛ بل الأمر يتعلق بعملية فاشلة لكسر روتينية الحصر السياسي وخلق تمثلات للإلهاء. الخوف هو ماذا بالإمكان تمريره من مشاريع وسط هذا الصخب الشعبوي الذي لم يعد يسمع ولا يتكلم ولا يرى؟ وككل لعبة لا بد هنا من رابح وخاسر. غير أن المؤسف أن حظ مصر كان هو الخسارة بكل ما تحمله الكلمة من معنى: خسارة " ماتش" وخسارة لعبة سياسوية غبية. فالعنف دو طبيعة ارتدادية. لا نتحدث عن العنف حينما يصبح رد فعل ويتحول إلى واقع بمقاييس وعدالة ، هنا الحديث عمن هو المسئول عن قدح شرارة العنف في لعبة تملك القابلية للجنون. كانت هناك ثقوب في اللاوعي الجمعي لكلا البلدين فضحته الممارسة الشعبوية المنفلتة. تسرب منها شكل هجين من التعبيرات العدوانية البدائية الطفولية امتد إلى الرأسمال الرمزي للبلدين . ربما اهتممت بردود الأفعال من داخل الإعلام المصري أكثر. وجدت الكثير من المبالغة التي ساهمت فيها نخب من المجتمع الفني الذين نسوا أن لهم معجبين من داخل المجتمع الجزائري أيضا. كان المصرييون يتحدثون عن أنفسهم باعتبارهم الشقيق الأكبر والمعلم الأول لجماهير عربية يحسبها المرء إن كان يجهل التاريخ أنها لم تكن تعرف ما الكتاب ولا الإيمان لو لا الفراعنة. ومن هنا ولكبرياء مصر سوف أتحدث عن مصر لأننا لا نريدها أن تصغر في خطابها وتسمح ل " زعران" كرة القدم أن يوردوها موارد الإسفاف والهلكة. وعندي حكاية مع عبارة " الشقيق الأكبر". ذات يوم وعلى هامش لقاء جمعني مع المفكر المصري حسن حنفي في برنامج تلفزيوني ، سألته: إيه.. دكتور حنفي كيف هي أحوال الشقيقة مصر؟
قال : مصر حزينة.
وبعد أن فصل لي مظاهر هذه الأزمة، قلت له كلنا في الهم شرق.. هذه مشكلة كل الأشقاء العرب..
قال لي : ولكن مصر هي الشقيق الأكبر
هي إذن حكاية الشقيق الأكبر. هذا جواب الوجدان المصري. وهي كلمة في محلها تاريخا وجغرافيا. لكن هناك من يستعملها في غير محلها. وهنا تكمن المشكلة. أي حينما تستعمل لإنهاء أو قمع أي كلام من الشقيق الأصغر إلى الشقيق الأكبر .. ولتبرير كل هزيمة: مصر الشقيق الأكبر. وفي كرة القدم نسمح الحكاية نفسها. هل للأشقاء المصريين أن يتعودوا على غير هذه العبارة؟
في المبارة التي جمعت بين الشقيقين ، رأيت أن مصر جرحت حقا. وهذا مؤلم. كيف ننصر مصر وننتصر لكبرياءها إذن ؟! لو سلمنا بكل الشكاوى المصرية وفرضنا حصارا سياسيا واقتصاديا على شقيقها الجزائري، لما كنا قد نصرنا مصر حقا! إذا كان ولا بد من نصرة الأخ ظالما أو مظلوما، فذلك بإيقاظه من سباته. لكنني أيضا لاحظت مبالغة لا تستحق كل هذا الهياج. بل أكثر من هذا هناك إسراف في كل هذه اللغة، لا سيما من النخب التي شاركت في إذكاء هذا الغضب. إننا لا نحاسب " زعران" كرة القدم في كل مكان حينما يبلغ بهم الجنون إلى حد الإساءة للرموز الوطنية. ولكننا نحاسب المثقفين والفنانين والسياسيين... أي النخب التي ليس لها مبرر في أن تنخرط في هذا الهياج بينما دورها الأساسي يكمن في التربية والتوجيه والتخفيف من الاحتقان بالثقافة والسياسة والفكر. الإخوة المصريون تحدثوا عن النشيد الوطني الجزائري كونهم أصحاب فضل في تلحينه. هكذا ينط الهذيان الكروي من الكرة إلى "الغنا" كأن الجزائريين يخوضون حربا ضد أم كلثوم أو عبد الوهاب؟! وهذا كان فخرا للجزائريين لأنهم شاركوا مصر جمال عبد الناصر في تلحين نشيدهم الوطني إذ لا يعدمون فنانيين يمكنهم أن يلحنوا لهم أناشيدهم الوطنية. لأن المشكلة هنا: من سيسلم للإخوان المصريين هذه المرة شرف التدخل في تشكيل رموزهم الوطنية بعد هذا المن الكبير وغير النافع؟ ثم قالوا هؤلاء همجيون ومتوحشون ومتعصبون وليست عندهم لغة مثل المصريين وإنهم بربر. وهذا يجعل الأمر محيرا ، مادام أن كلاما كهذا يزعج كل الأمازيغ وهم موجودون في مصر نفسها. هذا كلام ليس مثقفا لأن تاريخ كلمة بربر هو من إطلاقات اليونان على كل من ليس يونانيا، وأطلقوها على شمال أفريقيا من الأسكندرية حتى المغرب الأقصى. ما يجهله أصحاب هذه التعبيرات ، أن المجال الأمازيغي في المغرب العربي مجال يخلوا من العنف بالقدر الذي يزدهر في المجال الذي يقطنه العرب. ولا عليك. أنا عربي حتى النخاع وأدرك ذلك. الأمازيغ مسالمون جدا ومتحاورون جدا. وأما عرب شمال أفريقيا فهم من أصول مشتركة. كان على الإخوان المصريين أن يدركوا أن العرب من الصعيد المصري إلى وهران الجزائرية إلى دكالة المغربية هم في الأعم الأغلب من أبناء التغريبة الهلالية. وأن "زعران" كرة القدم من مصر أو من الجزائر أو من كل بلاد أخرى هم جنس ثالث لا يصنف في الأعراق ، ولكنهم من حيث الأصول هم من عرب الهلالية كما لا يخفى. وهكذا لسنا في حاجة أن نجادل في كل ما ينطق به الغضب والتعصب هنا أو هناك. فمصر جمال عبد الناصر لا يمكنها أن تخفي جزائر ابن باديس ومالك ابن نبي. كان على الإخوة المصريين أن يضعوا كبرياء مصر في محله. لا في تعويضات خادعة تساهم في الإلهاء والتخدير واستبدال الكرامة المغشوشة بالكرامة الحقيقية. لو ربحت مصر معركة السياسة والوجود مع إسرائيل لما همها أن تلقي بكل كبريائها في نزاع كروي صغير. ولكن ما هو إيجابي في هذه الحكاية أن الجمهور المصري كان جمهورا حماسيا وحيّا. وأن يمارس التعويض والتفريغ من جهته هذا أمر إيجابي للشعب المصري لا لسياساته. بقدر ما تبدو روحية الجمهور المصري كبيرة تبدو سياساته هزيلة. هنا تحديدا نفهم كيف خسرنا الحرب مع إسرائيل فيما ظل الشعب المصري يحمل روحا أرغمته السياسات للتعبير عنها في ملهية كرة القدم.
أعتقد أن هزيمة الفريق المصري كانت مهمة للغاية. وهي نعمة وجب أن يشكروا الرب عليها. هذه الهزيمة درس للمصريين في أن يتأملوا وضعهم الملهاتي داخل مهزلة استبدالية للعبة أتقنوها كتعويض لا كاستراحة مقاتل. لقد بدا أن إحساس المصري بالإخفاق السياسي والتنموي هو نفسه إحساسه الذي تفجر على إثر خسارة " ماتش" كروي. وبدا أن الكرامة التي يبحث عنها المصري هي كرامة مجروحة على خلفية النكسة والهزيمة أكثر مما هي الكرامة المتحدث عنها بمظاهر البارانويا الكروية. متى كان هدر الكرامة في خسران مبارة أو حتى ضمن معركة أبطالها "زعران" كرة القدم وليس على الأقل عقلاء الجمهور؟!
من هنا كان من الواجب على المصريين أن يشكروا الفريق الجزائري وحتى الجمهور الجزائري الذي مارس العنف في لعبة يجب أن نتوقع فيها العنف والعنف المضاد، لأنه وضعهم في وضعية المراجعة والصحوة من سبات التعويض الخادع. فمعركة مصر هي أكبر من ذلك؛ هي معركة السياسة والاستراتيجيا والتنمية. هي لعبة بين مصر وإسرائيل. وليس بين الشعوب العربية. ووجب على السياسة المصرية أن تذكي خيال الجمهور المصري في هذا الاتجاه لربح معركة، وحدها المعركة التي سنصدق فيها الأشقاء المصريين حينما يقولون: مصر هي الشقيق الأكبر. هذه الهزيمة تضع مصر أمام تحدي الحقيقة. مصر الممكنة لا مصر الغارقة في خيمياء تمجيد الذات ولو بالباطل وتحويل الهزيمة الحقيقية إلى انتصارات وتغليف الإفلاس السياسي بسيلفون تاريخ مصر المجيد. الوجه الذي لا يريد الأشقاء معرفته، هو كيف تنظر شعوب المغرب العربي إلى مصر والمصريين؟
لا يوجد في هذا المجال من يحمل كراهية لمصر التي شكلت بانتصاراتها قبلة اهتمامهم قبل أن تعيدهم نكساتها إلى أن يكفروا بالشرق إلا من رحم ربك. لقد تعرفت شعوب المغرب العربي على اليومي المصري بكثافة حتى صارت المسلسلات التلفزيونية المصرية أنيس الأسرة المغاربية. وحتى حينما انهار هذا الهرم الفروعي لتحل محله الدراما السورية كان دائما هناك حنين إلى الدراما المصرية. ومن هنا أعجب كيف نادى بعضهم بقرار منع الفيلم المصري عن المشاهد الجزائري.. وأغرب من ذلك من دعا إلى عقوبات اقتصادية ضد الجزائر.. ومع ذلك هذا لا يخفي أن ثمة مصدرا آخر لهذا الإحساس المصري بالإحباط . ليس لأن المصري فقد القدرة على الإبداع ، بل لأنه بات يتمدح بكبرياءه المجروح ؛ كبرياء الديمغرافيا لا بكبرياء التاريخ والإنسان. إنه إحباط في الصناعة التلفزيونية وفي كرة القدم وفي التنمية... وكل هذا ليس سوى فرع لإحساس عميق بالإحباط من مواقف الهزيمة السياسية تجاه إسرائيل التي فقدت الإحساس بالوقاحة وهي تطالب مصر والجزائر بضبط النفس. يجب أن لا نكذب على المصريين. ونقول لهم لماذا معظم الجماهير العربية فضلت انتصار الفريق الجزائري على الفريق المصري على الرغم من أن كل فريق هو في نهاية المطاف ممثل للعرب جميعا في المونديال؟ إن الحديث عن الكرة بلغة الحرب معناه أن الجمهور العربي غير راضي على الدور السيئ لمصر في حصار غزة طيلة الحرب. لقد بات الوضع مختلفا. فالشعوب التي علقت آمالا على الدور القومي المصري أصيبت هي الأخرى بإحباط يفوق إحباط الجمهور المصري. وهذا العنف الشعبوي ليس سوى تصريف لجلد الذات بعد هزيمة كنا فيها جميعا في الهم شرق. لقد تمنت الجماهير العربية أن يفوز الفريق الجزائري ليس كراهية لمصر أو المصريين ولكن تأديبا للسياسة المصرية. لقد دفع الفريق المصري ثمن أخطاء السياسة والموقف من القضية الفلسطينية. على الرغم من أن لا أحد ينسى أو يجهل أن الشعب المصري لا يزال رافضا للتطبيع صامدا في وجه الهزيمة التي تحاصره بفضل الاختيارات السياسية التي يرفضها. وهذا مصدر إحباط إضافي ؛ كون الجمهور المصري يشعر بأنه غير مسؤول عن هزيمته ومع ذلك يدفع فاتورتها غاليا عند الشعوب العربية. يجب أن تكبر مصر لنحبها ونجعلها تنتصر علينا في كرة القدم رغما عنا. تكبر حتى نكبر معها. ولا ينفع الحديث عن ضرورة اعتذار هذا الطرف أو ذاك. ليس على مصر إلا أن تعود إلى موقعها المناسب وستجد كل العرب جمهورا لها. هل يملك السياسيون أن يقولوا الحقيقة للجمهور المصري أو هل تملك النخبة المصرية أن تقف الموقف الصحيح كما مثله مناضلون مصريون لم يجدوا في القنوات التجارية المصرية منبرا لكي يقولوا كلمة العقل. ستظل مصر هي فعلا الشقيق الأكبر . ولكن على مصر أن تكبر في سياستها ولا تصغر فتجرئ عليها "زعران" ملاعب كرة القدم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.