الحكومة تقر بفشل سياسية استيراد أضاحي العيد    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    الوزير جازولي يدعو المستثمرين الألمان إلى اغتنام الفرص التي يتيحها المغرب    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    الاتحاد الجزائري يعلن شرطه الوحيد لمواجهة نهضة بركان!    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    المغرب: كنرفضو إقتحام المسجد الاقصى وقيام دولة فلسطينية هو اللي غادي يساهم فإحلال السلام    "اتصالات المغرب".. عدد الزبناء ديالها فات 77 مليون بزيادة وصلات ل2,7 فالمية    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    واش هادشي غايأثر على شراكة اسبانيا والمغرب والبرتغال فمونديال 2030.. الحكومة فالصبليون دارت الوصاية على الاتحاد الإسباني بسبب الفساد وخايفين من خرق لقوانين الفيفا    البحرية الملكية تنقذ مرشحين للهجرة السرية    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    المغرب يستنكر اقتحام باحات المسجد الأقصى    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي : إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    تشافي لن يرحل عن برشلونة قبل نهاية 2025    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    أبيدجان.. أخرباش تشيد بوجاهة واشتمالية قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مطيع: الأنظمة تستبيح دماء وأعراض الناس ب"أحكام السياسة"
نشر في هسبريس يوم 04 - 06 - 2014

بعد أن دعا الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي، مؤسس أول فصيل إسلامي بالمغرب، في مقال سابق إلى إلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي في المغرب، لكونه عقوبة غير إسلامية، عاد في مقال ثان تنشره هسبريس، إلى موضوع ذي علاقة يرتبط بما يسمى "القتل السياسي" عند الفقهاء.
وسلط مطيع الضوء على ما نعته بفساد الأنظمة التي قامت سابقا أو حاليا على ما يصطلح عليه "أحكام السياسة" في مجال المخالفات والجنايات التي لم يَرِدْ من الشرع حكم فيها، إذ تستبيح بها دماء المواطنين وأعراضهم وأموالهم، سواء سَمَّتْ ذلك قتلا بأحكام السياسة الشرعية، أو إعداما بأحكام القانون.
وهذا نص مقال مطيع كما ورد إلى هسبريس:
القتل السياسي لدى الفقهاء هل له من سند شرعي؟
في المقال السابق كان الحديث عن الإعدام بصفته انبثاقا من عقيدة لا تؤمن بالغيب واليوم الآخر، وعملا عدوانيا لا يُمتثل فيه لأمر الله أو يُحكَم فيه بحكمه، ولو كانت النتيجة العملية المادية له وللقتل واحدة، إذ العبرة في الإسلام بالنية التعبدية في الأعمال، لا سيما والإعدام عند أهله سياسي في أكثر أحواله، صراعا كان على السلطة أو حماية لأصحابها، ويقابل ذلك في التاريخ الإسلامي عقوبة القتل السياسي عند الفقهاء، أو القتل سياسةً كما هو مصطلحهم، وقد عرف تنفيذه نماذج مقززة تنفر من ذكرها نفوس أولي النهى والأحلام. نماذج ليس لها أصل في كتاب أو سنة، أو مبادئ تحترم الحيوان بله الإنسان.
ونحن إذا ما استعرضنا تاريخ القتل السياسي في الأمة الإسلامية نجد أن حكامها المسلمين كانوا فيما بعد الخلافة الراشدة إذا غضِبوا من أحد بَطَشُوا به، وإن ارتكب مخالفةً مُضِرَّةً بأمْنِهم نَكَبوهُ، من غيرِ أن يحاولوا أو يفكِّروا في إضفاءِ الشرعية على تصرفهم. وكان في مقدمة ضحايا هذه الجرائم الحسين رضي الله عنه حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرة عينه، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، إلا أن إنكارَ العامةِ بوازعِهم الديني وحسِّهم الإنساني، وتنديدَ بعضِ العلماء الصادقين أدى إلى الاستعانة ببعض فقهاءِ السلطة، من أجل تبريرِ هذه التصرفات و"شرعنتها"، فكان مبدأ "التعزير" الشرعي أيْسَرَ مَدخلٍ وأوْطَأَ كَنَفٍ في هذا المضمار.
والتعزيرُ لغةً من أسماء الأضداد، يُفيد التعظيمَ والتبجيلَ والنصرةَ كما في قوله تعالى: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 9]، ويُفيد أيضا الردعَ والردَّ والتأديبَ كما في المباحث الفقهية التي عرَّفتْه بأنه تأديبٌ بضربٍ وغيرِه دون الحَدِّ أو أكثرَ منه، في الحدود التي لم تَتَكامَلْ أركانُها وتقتضي معاقبةَ مرتكبِها، وفي المخالفاتِ والجنايات التي لم تَرِد النصوصُ بأحكامٍ فيها، وفي الجرائمِ السياسية ضد الدولة ورموزِها، وفي كل ما يَرى الحاكمُ مصلحةً له في ردعه وقمعه.
ولقد حاول الفقهاءُ من مختلف المذاهب التمييزَ بين التعزيرِ وبين الحَدّ، وذكروا فروقا بينهما كثيرةً من أهمها:
• أن الحدَّ مُقَدَّرٌ شرعا والتعزيرَ غيرُ مقدَّرٍ شرعًا ومُفَوَّضٌ فيه إلى رَأْيِ الحاكم.
• أن الحدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ والتعزيرَ يَجِبُ بالشُّبْهَةِ.
• الرّجوعُ في الإقرارِ يُعْمَلُ به في الحدِّ ولا يُعْمَلُ به في التعزير.
• الحدُّ لا تجوز فيه الشفاعةُ والتعزيرُ تجوز فيه.
• الحدُّ لا يجوز للإمام تركُه والتعزيرُ للإمامِ فيه التركُ.
• الحد يَسْقُطُ بالتَّقادُم والتعزيرُ لا يَسْقُط.
• الحدودُ واجبةُ النَّفاذ واخْتُلِفَ في وجوبِ التعزيرِ.
أما مشروعيةُ التعزير فقد اختلف فيها الأئمة الأربعة:
وإذ يرى الشافعي أن التعزيرَ ليس بواجبٍ وأن للإمام حقَّ إيقاعِه وتركِه، يرى الحنابلةُ أن ما كان من التعزيرِ منصوصا عليه فهو واجبٌ، وما لم يكنْ منصوصا عليه فالأمْرُ لِنَظَرِ الإمام إن شاءَ عزَّرَ وإن شاء تَرَك، ويذهبُ مالك وأبو حنيفة إلى أنه واجبٌ، لورود أحاديثَ موقوفةٍ فيه، مثل ما رُوِي عن علي كرم الله وجهه فيما أخرجه ابن الجعد في مسنده عن عبدالملك بن عمير قال: سُئِل عليٌّ عن قول الرجل للرجل: "يا فاجر يا خبيث يا فاسق"، قال: "هُنَّ فواحش فيهِنَّ تعزيرٌ وليس فيهن حدّ"، وما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: "ولا يُبْلَغُ بِنَكالٍ فوق عشرين سوطا". أي لا يتجاوز التأديب عشرين جلدة.
ولئن كان الحديث الوارد في أمر التعزير متكلَّمًا فيه، على رغم اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه عن أبي بردة، وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُجلَد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، فقد بلَغ الاختلافُ في تأويلِه وتقديرِ العددِ فيه مَدىً بعيدا.
رأى مالك أن تحديدَ قدرِ التعزير يكون على قدرِ العقوبةِ وصاحبِها، ويُخَيَّرُ الإمامُ بين العشرة وبين ما فوق الحدود الشرعية جلدا وقطعا وقتلا وصلبا، وذهب بعض المالكية إلى أن عددَ العشرة مقصورٌ على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الرأي في غاية الضعف، وذهب أشهب إلى العمل بظاهر الحديث.
ورأى الشافعي ألا يُبلَغ بالتعزير ما هو مُقدَّرٌ في الحدود، فلا يُزادَ على تسع وثلاثين ضربة، أي أقل من الأربعين التي وردت في الأثر، وذهب بعضُ الشافعية إلى أن حديثَ "العشرة" منسوخٌ بفعل الصحابة، وهذا ضعيف جدا لأنه لم يثبت إجماع من الصحابة على نسخه، ورأى القاسمُ بن القفال الشاشي من الشافعية عدمَ تجاوُزِ العشرةِ عملاً بظاهر الحديث.
كما يستشهدون على حقِّ الحاكم في إيقاعِه وتركِه وتقديرِه وتعيينِ مستحِقِّيه بحديث ضعيف ورد في جامع الترمذي ومسند الشهاب هو (اتَّقوا فراسةَ المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل) وفي رواية كنزِ العمال عن عروة مرسلا: (إن لكلِّ قوم فراسةً وإنما يعرفها الأشراف) وبحديث آخر متكَلَّمٍ فيه ورد في "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي والمعجم الأوسط عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتَّوَسُّمِ).
وذلك ما ذَهب إليه ابنُ قيم الجوزية في كتابه "الفراسة المُرْضية في أحكام السياسة الشرعية" إذ قال: (وقولُ أبي الوفاء ابن عقيل ليس هذا فراسةً، فيقالُ ولا مَحْذورَ في تسميتِه فراسةً، فهي فراسةٌ صادقةٌ، وقد مدح اللهُ سبحانه الفراسةَ وأهلَها في مواضع من كتابه فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75] وهم المتفرِّسون الآخِذونَ بالسِّيما وهي العلامةُ، يقال تفَرَّسْت فيك كيت وكيت وتَوَسَّمْتُه، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [محمد: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [البقرة: 273]، وفي جامع الترمذي مرفوعا: (اتقوا فراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنور الله) ثم قرأ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75].
وكلا الحديثين لا ينطبق معناهما ولو كانا صحيحين على حالات التعزير سياسةً من قِبَلِ الحكام، فما مِنْ أحدٍ منهم تأكد لنا أنه كان يَنظُر بنورِ الله لتكونَ له تلك الفراسةُ، وما مِنْ أحدٍ منهم تأكد أنه كان من رجال الله الذين يعرفون الناسَ بالتَّوَسُّم.
أما الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ وقولِه مخاطبا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ﴿ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]، وقوله ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [البقرة: 273] فأبْعَدُ عن موضوع التعزيرِ سياسةً بُعْدَ الأرض عن السماء، لأن الآيةَ الأولى متعلقةٌ بضرورةِ الاعتبارِ بما وقع لقومِ لوط ومعرفةِ قوةِ الله وجبروتِه وغيرتِه لانتهاك حرماته، والثانيةُ متعلِّقةٌ بوَحْيٍ من الله تعالى لنبيِّه في شأن المنافقين، وليست هذه الخاصية لغيره، وليس الحكام مِمَّنْ يوحَى إليهم في شأنِ أعدائهم، والثالثةُ في أمرِ الصدقات والفقراء الذين لا يكادُ يعرفُهم الجاهلون.
إن بناءَ العقوبة على الفراسةِ والتوسُّمِ والظنِّ والتخْمينِ والشُّبهةِ والتُّهمةِ واعتمادا على نَظَرِ الحاكم ومِزاجِهِ وما يَراه مصلحةً يُعَدُّ بابا مُشْرَعاً للفِتنِ والظلمِ والجورِ والاستبدادِ.
وقد غَلِطَ ابنُ قيم الجوزية في كتابه "الفراسة المُرضية في أحكام السياسة الشرعية" إذ دافع دفاعَ المجادلِ المستميتِ عن نظرية الفراسةِ وجَعَلَها من أهمِّ مَحاوِرِ الحجةِ في الموضوع وَوَصَفَها بأنها (مسألةٌ كبيرةٌ عظيمةُ النفعِ جليلةُ القدرِ إن أهملها الحاكمُ أو الوالي أضاعَ حقّاً كثيرا وأقامَ باطلا كثيرا).
وإلى ذلك ذهب ابنُ تيمية أيضا في كتابه "السياسة الشرعية" إذ قال: (وأما المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مقدَّرٌ ولا كفارةٌ....فهؤلاء يعاقَبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدْرِ ما يراه الوالي)، ثم بعد أن بَيَّن أن التعزير يكون بالإيلام قولا أو فعلا، كما يكون بالحبس أو تسْويدِ الوجه وإركابِ المعاقَبِ على دابةٍ مقلوباً، ذكر أن مالكا وبعضَ الحنابلة جَوَّزوا البلوغَ بالتعزير إلى القتلِ للإفساد ولو بدون رِدَّةٍ.
ولئن كان الفقهاءُ قد حاولوا الاستشهادَ على شرعيةِ ذلك ببعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعةِ واصطيادِ ما انتحَلَه الأخباريون من روايات، أو القياسِ على بعض حالات الحرب التي لها أحكامٌ خاصة، فإن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لم يثبُتْ أنه عزَّرَ خارجَ الحدود الشرعية، بل كان يَعفو ويصفَح حتى في حالات الإساءة إليه كما روي عن عبد الله قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسما، فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسارَرْتُه، فغضب من ذلك غضبا شديدا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، ثم قال: (قد أوذِيَ موسى بأكثرَ من هذا فصَبَرَ).
لقد نشأت نظريةُ العقاب خارجَ إطار الحدود الشرعية في حضن مسوِّغاتٍ فقهية مختَلَفٍ فيها، ولكنها أخذَتْ في التطور مع مرور الزمن وترامِي رقعة السلطة، وفُشُوِّ الفقه واتساعِ شُقَّة الخلاف فيه، وحاجة الحكام إلى ضبط العامة وإخضاعهم، وبعد أن كان التعزيرُ عند الفقهاء محصورا في المخالفاتِ الشرعية غير المنصوص على حكم فيها كالغش والنصب والحدود التي لم تكتملْ أركانُها، عُرِفَ التعزيرُ للمصلحة المرسَلَةِ المُقدَّرةِ بِنَظَرِ الحاكم، والتعزيرُ للتهمِ بالإساءةِ للدولةِ وأمْنِ السَّلْطَنَةِ، والتعزيرُ بالشُّبهة والظنِّ والفراسةِ والتوسُّمِ، واتُّخِذَ لكل هذه التعازيرِ اسمٌ جامع هو التعزيرُ سياسةً.
من ثم عَرَف الفقهُ الإسلامي مصطلحَ "السياسة" الذي تطوَّرَ مع الزمن فصار "سياسة شرعية" بِيَدِ الحاكمِ يطبقها كيف شاءَ وأنَّى يشاء وفي مَنْ يشاء.
كان الأصلُ في الشريعة أن العقوبةَ لا تكون إلا حدّاً، ثم صارت حدا وتعزيرا، ثم حدا وسياسة، ثم سياسةً شرعيةً، ثم سميت العقوبات المعزرة بنوع من التجاوز كذلك حدودا كما قال ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ص 101: (وأما تسمية العقوبة المعزرة حدا فهو عرف حادث) وعرَفَ الفقهُ الإسلامي بهذا التطور الجلدَ حدًّا والجلدَ سياسةً شرعية ، والقطعَ حدًّا والقطعَ سياسةً شرعية، والقتلَ حدًّا والقتلَ سياسةً شرعية، ومصادرةَ الأموال حقًّا ومصادرتَها سياسةً شرعية، ثم خُلِعَتْ ربقةُ التقيُّد بالنصوصِ مطلقا وتوالَت المظالمُ على الأمة بالصلبِ والمثلة وتقطيعِ الأطراف سياسةً شرعية والقتلِ بالعصْرِ ِونفخ الضحيةِ من الدبر حتى الموت سياسة شرعية،ً والصلب والتقطيع والقتل والرمي للكلاب تفترس القتيل من غير أن يصلى عليه سياسة شرعية، قال ابن رشد القرطبي في "المقدمات الممهدات على مدونة مالك" عن الخارج على السلطان ص 3/232 - 233:"وإن أخذ مالا فكان ما أخذ عشرة دراهم فصاعدا قطعت يده ورجله من خلاف. فإن قتل وأخذ المال فإن أبا حنيفة قال: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف أو صلبه وقتله على الخشبة..." واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل في الخشبة فقال الفقيه المالكي ابن الماجشون: ينزل من الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يُترك أحد من أهله ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه، ولا ليصلي عليه". وفي عصرنا هذا عُرِفَ تذويبُ الضحايا في حامض "الأسيد" كذلك سياسةً شرعية، ولا ندري من افترس مجهولي المصير من المعارضين.
إن هذه النَّقْلَةَ النوعيةَ من مصطلح العقاب تعزيرا وتأديبا" إلى مصطلح "العقاب سياسةً " أو ما يطلق عليه الفقهاء"السياسة الشرعية" قد رفعت الحَرَجَ الديني عن الحكام في جميع مراحل التاريخ الإسلامي منذ قيام الملوكيات الفاسدة، ووسَّعت عليهم باستعمال لفظٍ غائمٍ ضبابي، يبتلعه العامَّةُ ويستسيغونه ما دام بعض الفقهاء يستعملونه للتعبيرِ عن شرعيةِ أي تصرف.
لقد عرَّف ابن عقيل الحنبلي السياسة الشرعية بأنها: (ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحي).
وعلق ابن القيم في الطرق الحكمية على هذا التعريف بقوله: (عن ابن عقيل قال: "السياسة ما كان فعلا مع الناس أقربَ إلى الصلاح وأبعدَ عن الفساد، وإن لَمْ يَضَعْهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ولا نَزَلَ به الوحيُ"، ومنْ قال لا سياسةَ إلا ما نَطَقَ به الشرْعُ فقد غَلِطَ).
وقال الطرابلسي في "مُعين الحكام": (السياسةُ ما يحتاجُه الحكامُ والوُلاةُ من إيقاعِ بعضِ العقوبات ردْعاً وزَجْرا لتُوصَدَ أبوابُ الفِتَن). إلا أنه في نفس الكتاب "معين الحكام" ص 68 انتبه لمخاطرِ السياسة ونبَّه إليها محذِّرا بقوله في الحكم بالفراسة: (فالحُكْمُ بالفراسةِ مثلُ الحكمِ بالظنِّ والتخمينِ وذلك فِسْقٌ وجَوْرٌ من الحاكم)، ثم يعقِّبُ على ذلك بتفصيلِ المظالم التي تَنْشأُ عنها قائلا: (اعلمْ أن السياسةَ شرعٌ مُغَلَّظٌ، والسياسةُ نوعان سياسةٌ ظالمة فالشرعيَّةُ تُحرِّمها وسياسةٌ عادلة تُخْرِج الحقَّ من الظالم...وهي بابٌ واسع تَضِلُّ فيه الأفهامُ وتَزِلُّ فيه الأقدامُ، وإهمالُه يُضيِّعُ الحقوقَ ويُعَطِّلُ الحدودَ ويُجَرِّئُ أهلَ الفساد ويُعينُ أهلَ العنادِ، والتوسُّعُ فيه يَفتحُ أبوابَ المظالمِ الشنيعةِ ويوجِبُ سَفْكَ الدماءِ وأخْذَ الأموالِ غيرِ الشرعية...).
ولئنْ ترك الطرابلسي في هذه الفقراتِ مَنْفَذاً لتَمْريرِ بعضِ تصرفاتِ الحاكمِ بإشارتِه إلى ما سَمَّاهُ السياسةَ الشرعيةَ دون أن يَضَعَ لها تعريفا دقيقاً أو آليةً واضحةً دقيقةً أو مِقياسا تُعرَفُ به، فإن الفقيهَ المالكي الإمام القرطبي في تفسيره 10/44 قد وَضَع حَدًّا لكلِّ تأويلٍ في هذا الشأن فقال عن الفِراسةِ التي هى ركيزةُ أحكامِ السياسة: (قال القاضي أبو بكر بن العربي: "إذا ثبت أن التوسُّمَ والتَّفَرُّسَ من مَدارِك المعاني فإن ذلك لا يَتَرَتَّبُ عليه حكمٌ ولا يُؤْخَذُ به مَوْسومٌ ولا مُتَفَرَّسٌ، وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيامَ كَوْنِي بالشام يَحْكُم بالفِراسةِ في الأحكام، جريا على طريقِ إياس بن معاوية أيامَ كان قاضيا، وكان شيخُنا فخرُ الإسلام أبو بكر الشاشي صَنَّفَ جزءا في الرَّدِّ عليه، كَتَبَه بِخَطِّه وأعْطانِيه، وذلك صحيحٌ، فإن مداركَ الأحكام معلومةٌ شرْعا مُدْرَكَةٌ قَطْعا وليست الفراسةُ منها).
إن هذا المصطلحَ المستحدثَ من أجل "شَرْعَنَةِ" الاستبداد لا تُقِرُّه مبادئ الإسلام وتعاليمُه شكلا ومضمونا، لِمَا يحمله من معاني تحكم فئةٍ في فئة، وما يعطيه للحاكم من حقِّ التصرف في الشأن العام استبدادا تامّاً لا مُعَقِّبَ له، وما يفتحه من أبوابٍ للفتن والمظالم على جميع الصعد:
على الصعيد السياسيِّ إذ تَمَّتْ تحت غطائِه السيطرةُ على أمر الأمة، وسُخِّرَ للأهواءِ والمصالح الفردية ونَهْبِ المال العام، أمامَ عيْنِ الأمة الخائفةِ من هذه العقوبة المستحدَثَةِ غيرِ المُقَدَّرةِ عقلا أو شَرْعا، والمَوْكولَةِ إلى مِزاجِ الحاكم وعَفْوِيةِ ما يصدُر عنه في حالاتِ خوفه وتوجسه، غضبِه وزَهْوِهِ، قتلا أو بَتْرا أو صلْبا أو جلدا أو مُصَادَرةً.
وعلى الصعيدِ الاجتماعي فُرِضَت على الأمة الخدمةُ الذليلةُ في أعتابِ الحكام وأمراءِ الشرطة والجيشِ وفي قصورِ النُّخَبِ الفاسدة ذاتِ النفوذ والجاه.
وعلى صعيدِ السيادةِ الوطنية فُتِحَت البلادُ للغزوِ الأجنبي عسكريا وثقافيا وعقديا.
وعلى صعيدِ التَّواصِي بالمعروفِ والتَّناهي عن المُنكر، أُجْبِرَ الدعاةُ على لُزومِ الصَّمتِ ومُلازمةِ الظِّلِّ تحتَ طائِلةِ التَّعزيرِ سياسةً وما ينْتُج عنه من قتلٍ وسَحْلٍ وانتهاكِ أعراضٍ.
إن المرء ليخجل من نفسه وهو يرى فقهاء السلاطين لدى جميع المذاهب الإسلامية من السنة والشيعة يبررون الجرائم السلطانية بمخلف ضروب التحايل على النصوص قطعا للأرجل والأيدي من خلاف وتصليبا ورميا للكلاب، وتمثيلا وتنكيلا بالمعارضين في أقبية السجون العلنية والسرية، متغاضين عن تحريم ذلك بالنصوص القطعية الواضحة، والسنة النبوية الثابتة التي تحرم كل ضروب العدوان على الأجساد والأرواح والأموال والأعراض، مع ما لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم من القدوة الحسنة إذ رأى يوم أحد ما بحمزة رضي الله عنه وبقتلى المسلمين من المثلة وحلف ليمثّلنّ بسبعين من المشركين، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل 12 ، فقال: (بل نصبر)، وكفّر عن يمينه. وإذ حرم المثلة بالحيوان ولعن من مَثَّل به فقال: (لعن الله من مثَّل بالحيوان)، وحرم أكل الممثول به من الطير والبهيمة، قال مجاهد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمثَّل بالذوات وأن تؤكل المَمْثول بها). وإذ مر بنفر من الأنصار وقد نصبوا شاة يرمونها بالنبل فقال:(هذه المعذبة، لا تأكلوا لحمها)، ومر عبد الله بن عمر بشباب من قريش يرمون دجاجة فقال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يمثِّل بالحيوان).
إننا إذ نَنْقُضُ ما دُعِيَ "أحكامَ السياسة" في مجال المخالفات والجنايات التي لم يَرِدْ من الشرع حكمٌ فيها، فإنما لنبين فساد الأنظمة التي قامت عليها سابقا أو تقوم عليها حاليا وتستبيح بها دماء المواطنين وأعراضهم وأموالهم، سواء سَمَّتْ ذلك قتلا بأحكام السياسة الشرعية كما يدعي فقهاء السلطان، أو إعداما بأحكام القانون كما يحكم به كلاب جهنم من القضاة. ولئن كان الإعدام بالمفهوم الغربي حكما بغير ما أنزل الله فإن القتل السياسي ونسبته لشريعة الإسلام تحت أي تسمية ظلم للإسلام وكذب على الله ورسوله، وخروج على الأمة، قال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هود 18.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.