24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة. وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن. (12) يوزعون علينا كل يوم أربع سجائر لكل أسير مدخن، سيجارة من نوع "مجاهد". مع السجائر علبة أعواد ثقاب وحيدة لإشعال سجائر جميع الأسرى ، يتركونها عند بَّا بوعزة، وهو أسير مثلنا. أمام بّا بوعزة حلان اثنان، إما أن يوزع أعواد الثقاب على الأسرى، وستكون النتيجة عود ثقاب وحيد لكل 8 أسرى أو أكثر، وإما أن يجد طريقة لتدبير شعلة لكل سجائر "مجاهد". الحاجة أمُّ الاختراع، مقولة تجلت مع بّا بوعزة، إذ سمح له الحراس بالاحتفاظ بشفرة حلاقة، وكان يستعملها لتقسيم عود كبريت واحد بدقة متناهية إلى أربعة. بدقة لن يُصدّقها الكثيرون كنا نستعمل عود كبريت أربع مرات! كما بدأنا بترتيب مواعيد شبه منظمة لإشعال السجائر لأكبر عدد من المدخنين. عندما تزورنا وفود من صحافيين وبعثات لا نعرفها ندخن أكثر، وقتما يودون توديعنا نطلب منهم أن يتركوا لنا ما تبقى لديهم من سجائر، في الغالب تكون من النوع الجيد الذي لا يشبه " مجاهد". سنوات طويلة ونحن على ذلك الحال، إلى فبراير من سنة 87، إذ أقلعت بصفة نهائية عن شرب هذه السجائر، اتخذت هذا القرار، وصنت العهد إلى يومنا هذا. ولم أعد أنتظر حصتي اليومية من السجائر، وكلما رأيت بّا بوعزة منهمكا في تدبير شعلة يومية للأسرى أرفع أكف الضراعة أن يتمكن زملائي من التخلص من التدخين كما تخلصت منه، وأن يخلّصنا القدير جميعا من ذل هذا الأسر.. في تلك السنة تزامن شهر رمضان مع شهر ماي. رمضان كئيب يشبه كافة الرمضانات العشرة التي قضيتها في الأسر في العشر سنوات الأخيرة. صوم بالنهار والليل، ومحاولة لخلق أجواء صيام وإفطار تشبه أجواء البلد ولو في خيال كل أسير، كمحاولة يائسة لنسيان ذل الأسر والبعد عن الأهل. قبل ليلة القدر بيوم واحد جاء قرار بإطلاق 150 أسيرا دفعة واحدة. كانوا من رفاقي، ولم يكن هناك من وسيط في الإفراج عنهم سوى اتفاق بين المغرب والجزائر لا نعرف بنوده. كل ما نعرفه أن 150 شخصا سينالون حريتهم أخيرا. لا أعرف كيف اختاروهم، بأي معيار، فقد كان المفرج عنهم أو المرشحون لذلك خليط غير متجانس من الأسرى. أغلب الظن أن ذلك تم عشوائيا، كل ما أعرفه أنني لم أكن ضمن الذين نالوا الحرية. أعرف أن الحسد غير مباح، لكني تمنيت لو كنت ضمن المفرج عنهم، لقد قضيت الآن إحدى عشر سنة في الأسر، ومعي من سبقني لذل الأسر ننتظر معا فرجا من السماء. ودّعنا رفاقنا الذين ركبوا الحافلات، وإن لم نكن بينهم فعلى الأقل سينقلون رسالتنا لدولتنا، ولأهلنا، بأننا هنا منسيون ننتظر انصافا. لما بلغوا تلمسان أنزلوا منهم 36 شخصا هكذا اعتباطا، وعوضوهم ب36 آخر تم أسرهم سابقا على مشارف بشّار، عندما اصطدم الجيش المغربي بالجيش الجزائري. أعادوا ال36 أسيرا غير المحظوظين إلى معتقل صغير لا يبعد عنا كثيرا. طوال تلك الأيام التي تلت إطلاق سراح رفاقنا شعرت بحزن شديد مختلط باليأس. لقد فرحت لتحررهم لكني تمنيت أن أكون ضمن الذين عانقوا الحرية. ليومين لم أذق طعم النوم وما ابتلعت طعاما. مر عيد الفطر كمأتم في دوار. لا نتبارك فيه العيد بل نعزي بعضنا البعض. وجاء عيد الأضحى أكثر كآبة. أذكر أن حراس المعتقل سمحوا لنا ليلة العيد بالمبيت في ساحة المعتقل عوض الغرف. كان الجو حارا، فالعيد تزامن مع أواخر يوليوز. حملت فراشي نحو الساحة واتكأت أتأمل القمر في السماء الصافية، تماما كما كان يسطع في قريتي البعيدة. أفكر في أمي التي لم ترني منذ 11 سنة، أعرف أنها وحدها في هذا الكون تتذكرني في هذه المناسبات الدينية الكبيرة. لاشك أن دمعة كبيرة الآن قد انفلتت منها وتدحرجت على خدها، تمسحها بطرف ثوبها وتواصل الحياة. غدا هو العيد الكبير، تَافَاسْكَا بلغة قومي. كل المسافرين من أبناء الأرياف الذين يشتغلون في البناء والبستنة والأعمال الشاقة في المدن البعيدة قد عادوا إلى أعشاشهم على مثن حافلات مهترئة، وحده عْدّي ابنها لم يعد. للمرة العاشرة انتظرته أن يأتي دون أن تفقد الأمل، لعله يأتي ليذبح الخروف بنفسه ويشاركها الفرحة المؤجلة.. في السنوات الأولى التي تلت اختفائي وإن أخبروها مرارا أني توفيت، واستصدروا لي شهادة رسمية تثبت ذلك، فإن صوتا داخليا ما زال يوسوس لها بأني ما أزال على قيد الحياة. وكم مرة تراءت لها ملامحي من بعيد، كلما رأت رجلا طويلا يحمل حقيبة، تهرول ناحيته لعله يكون أنا، وعندما تكون منه قاب قوسين أو أدنى تنجلي الملامح وتتأكد أنها كانت تطارد خيط بخار.. تأزمت نفسيتي بعد تلك الليلة، بعد أن غرقت في تذكراتي، والمصائب لا تأتي فرادى، فقد قاموا بعد أيام بتغير كل الحراس والسجانين. أفهموهم أننا لسنا أسرى حرب، بل إرهابيون تم القبض عليهم داخل الأراضي الجزائرية، وأننا اخترقنا حدودهم لتنفيذ عمليات هجومية. حتى الذين يتم نقلهم للاستشفاء في مستشفيات البلد يكتبون في ملفاتهم ذلك. ساءت الأوضاع أكثر، كلما وقع سوء تفاهم بين أسيرين ولو نقاشا بسيطا، يأخذانهما معا للساحة ويضربانهما معا دون أن يتساءل السجّان: من الظالم ومن المظلوم؟ فكرنا في تنفيذ إضراب عن الطعام كما كنا نفعل من ذي قبل، لكنه لم يعد يؤتي أُكله. أفهمناهم بعد أن يئس الكثير منا أننا لا نطالبهم بتحريرنا أو تزويجنا، هذه أمور ليست بأيديهم وتحتاج قرارا سياسيا من أعلى سلطة في البلد. ما نريده الآن أن ننعم بطعام لائق، وشراب نقي، وتطبيب مستعجل والعيش في بيئة سليمة. لكن ردهم يكون صادما: أنتم إرهابيون جئتم لتخريب بلدنا، أما الأسرى فقد تمت مبادلتهم مع المغرب ولم يتبق هنا أسير واحد. رباه من نكون نحن إذا لم نكن أسرى؟ لكن لمن تشرح وضعك، فالسجّان عبد مأمور، ولا يمكن بأي حال أن يصدق روايتنا ويكذب رواية رؤسائه. عندما تقلد بوضياف مقاليد الحكم استبشرنا خيرا. يستحيل لرجل ذاق ويلات السجن أيام الاستعمار وبعد استقلال الجزائر، وعاش ردفا من الزمن في المغرب ألا يحس بمعاناتنا، نحن الذين نفني زهرة شبابنا بين حيطان غرف سجن بوغار. ربما قد يأتي الخلاص. سمعناه في خطاب يقول أنه خلال شهرين لن يبقى أجنبي واحد في الجزائر، لكن وضعيتنا لم تسوّ رغم ذلك. الضباط وضباط الصف والجنود الذين يزوروننا مباشرة بعد حكم بوضياف كانت لهم نظرة أخرى وتعامل قاس. كانوا يتحدثون عن بوضياف الرئيس بنوع من الازدراء، يقولون لنا بأن ملككم أصبح بقدرة قادر يتحكم في الجزائر. يقولون ذلك لأن الرئيس الجزائري قضى فترة مهمة بالمغرب، إذ كان يدير مصنعا للياجور بمدينة القنيطرة، وعلاقاته جيدة بالمغرب. وطوال ال166 يوما التي قضاها محمد بوضياف رئيسا للجزائر لم تتغير أحوالنا للأحسن، بل ساءت. لما بلغنا خبر اغتياله من طرف أحد حراسه الشخصيين في عنابة أواخر يونيو من سنة 1992، شعر الكثير منا باليأس، كمدمن قمار خسر ثروته ولعب بآخر ورقة له.. فكرة الهرب لا تغادر ذهن أي سجين، قد لا يحاول الهرب واقعيا لخوفه من القتل من حراس يقتلون الواحد كما لو داسوا على نملة، لكن الفكرة لا تغادر مخيلته، فعندما يخلو إلى نفسه يكتب سيناريوهات هربٍ في خاطره، كلها تكلل بالنجاح. يمنحه ذلك بعض الأمل، رغم أن الأمل الزائد في التحرر يؤدي بصاحبه للهلاك. أغلب من جنّ في السجون هم أشخاص تناولوا جرعات زائدة من دواء اسمه الأمل. انتحر أسيران بعد تلك الأيام، طوال هذه المدة توفيّ 34 شخصا بأمراض مختلفة بمعتقل بوغار، وعلمت فيما بعد أنه توفي داخل المعتقلات كلها أزيد من 1448 سجينا. تمر الأيام رتيبة بلا طعم، متشَابهة كبدلات العسكريين، إذ لا يميز أيامنا سوى أنين أسير أو موته. نهاية 1993و بداية94 بدأت المنظمات بالمغرب وخارجه تتحدث عن الأسرى المغاربة القابعين في سجون الجزائر. عرفت فيما بعد أن المغرب أخبر منظمة الصليب الأحمر بتواجد أسرى مغاربة في قاعدة بوغار. وأن منظمة الصليب هاته، قد زارت عدة مرات نواحي هذه القاعدة العسكرية حيث نقيم نحن كأسرى، لكن سلطات الجزائر كانت لا تسمح لهم بالدخول، وتخبرهم أن هذه قاعدة عسكرية تجرى فيها التداريب وسكن العسكر والأسلحة والعتاد والذخيرة، ولا يسمح لأي كان ولوجها. مباشرة بعد تلك المحاولات قامت سلطات المعتقل بأمر من الأعلى بعزل المقبوض عليهم في الحدود عن المقبوض عليهم في المعارك. جعلت هذه الفئة الأخيرة في معتقل صغير آخر، ثم قرروا إعادتنا إلى تيندوف، كان ذلك صباح 30 غشت من سنة 1994. أخبرونا أن تيندوف ستكون مجرد محطة استراحة، لأننا سننال حريتنا أخيرا. تركنا كلّ ملابسنا القديمة هناك كما أمرونا، لم نأخذ سوى ما ارتدينا؛ قميص وسروال. لم نكن لنصدّق هذا الادعاء الكاذب بأننا سنتحرر أخيرا، لم تكن الأجواء ملائمة لأي إفراج، فالعلاقات المغربية الجزائرية متوترة بعد مقتل بوضياف، واسبانيا تميل جهة الجزائر في ذلك الوقت، مع ذلك فقد حاولنا تصديق هذه الكذبة اللذيذة، فهي تجعلنا نعيش وهم التحرر من ذل الأسر ولو في تخيلاتنا! سأذهب إلي بلدتي "النقوب" بعد 18 سنة من الغياب. وكما توقعنا.. سلمونا من جديد للصحراويين بتندوف.