واش يبقى ولا يستاقل. اليوم يتحدد مصير رئيس الحكومة الصبليوني. خدا ويكاند باش ياخد قرارو بعد اتهام مراتو بالفساد    بالفيديو.. الجيش الإسباني ينفذ تمارين عسكرية على الحدود مع الناظور    الصين: "بي إم دبليو" تستثمر 2,8 مليار دولار اضافية شمال شرق البلد    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    تقرير: المغرب وإسرائيل يسعيان تعميق التعاون العسكري رغم الحرب في غزة    منظمة المطبخ المركزي العالمي تستأنف عملها في غزة بعد مقتل سبعة من عمالها    استطلاع.. غالبية المريكانيين كيبان ليهوم أن إدارة ترامب أنجح من ديال بايدن    أول تعليق من مدرب نهضة بركان على مواجهة الزمالك في نهائي كأس "الكاف"    يوسفية برشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني بعد التعادل مع تطوان    ماركا: المغرب يستغل الفرصة.. استعدادات متقدمة لنهائيات كأس العالم وسط فضائح الاتحاد الإسباني    الحكومة والنقابات توقعات على زيادات عامة في الأجور وتخفيضات في الضريبة على الدخل    توقعات طقس اليوم الاثنين في المغرب    هجوم مسلح يخلف سبعة قتلى بالاكوادور    رواد مركبة الفضاء الصينية "شنتشو-17" يعودون إلى الأرض في 30 أبريل    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    "العدالة والتنمية" يندد بدعوات إلى استقالة ابن كيران بعد خسارة انتخابات جزئية    فريق يوسفية برشيد يتعادل مع "الماط"    مدرب بركان يعلق على مواجهة الزمالك    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    البطولة: المغرب التطواني يضمن البقاء ضمن فرق قسم الصفوة وبرشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني    مرصد يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    بايتاس: ولوج المغاربة للعلاج بات سريعا بفضل "أمو تضامن" عكس "راميد"    مكناس.. اختتام فعاليات الدورة ال16 للمعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    كلمة هامة للأمين العام لحزب الاستقلال في الجلسة الختامية للمؤتمر    طنجة تسجل أعلى نسبة من التساقطات المطرية خلال 24 ساعة الماضية    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    الجهود الدولية تتكثف من أجل هدنة غزة    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اِنْهِيَارُ الاِحْتِرَامِ بَيْنَ الْمَغَارِبَةْ وَانْهِيَارُ الْعَيْشِ الْمُشْتَرَك
نشر في هسبريس يوم 02 - 09 - 2016


"احْتَرِمْ تُحْتَرَم"
حكمة صغيرة، تتكون من كلمتين، لكنها كبيرة في تداوُلها ودلالاتها، ونتائجها ومآلاتها، وهي تحمل فائضا من المعاني، يستجيب لحاجات الجنس البشري في الحاضر والمستقبل، تتحدَّث الحكمة بصيغة الأمْر "احْتَرِمْ" والأمر موجَّهٌ للإنسان، أُنْثى وذَكر (لا داعي للدخول في مُزايدات بخصوص مُقاربة النَّوع والادعاء أَنَّ الحكمة أَقْصت المَرْأة "احترمِي") ولا شكَّ أنَّ الاحترام من القيم التي عرفت زلزالا خطيرا في المجتمع المغربي، امتدَّت تصدُّعاته إلى كل مناحي حياتنا اليومية.
مظاهر تصدُّع الاحترام بيننا نحن المغاربة كثيرة، وواقع الحال ساداتي القُرّاء الأفاضل يُغني المقال، بدْءا بهشاشة الاحترام في الأُسْرة، أفضى إلى استقالة الكثير من الأسر من وظائفها التربوية، وصناعة الرساميل البشرية التي تعتبر الثروة الحقيقية لكل دولة، غياب الاحترام بين الزوجين وما يصاحبه من إخفاق في التفاهم عبر الحوار المتمدّن وإيجاد الحلول للمشاكل الزوجية، والانزلاق في الطلاق بعد رحلة طويلة من العنف..
- غياب الاحترام والتفكك الأسري والعنف الأسري:
العنف الأسري الذي يولده عدم الاحترام، يصل في بعض الحالات إلى جرائم القتل، قتل الأبناء للوالدين، أو قتل زوج لزوجته وأبنائه (الجرائم ضد الأصول والفروع).. وغالبا ما يكون سبب هذه الفواجع المأساوية هو "غياب الاحترام".. غياب احترام تضحية الوالدين ومعاملتهما باستخفاف والتعامل مع نصائحهما برعونة تُجسِّد عدم احترام تجربة الآباء وما راكماه من خبرة ومعرفة بالحياة ومتطلباتها وعواقب الأمور، وازْدراء توجيهاتِهما واعتبارها أفكارا رِجعيةً بالية لا تتناسب مع الأفكار العصرية، كما أن بعض الآباء يتفننون في تقزيم أبنائهم وعدم احترام آرائهم وتسفيهها وعدم مناقشتها لإغنائها وتعديل أخطائها وتثمين الجوانب القيِّمة فيها، فتتأزم العلاقة بينهما، ويبحث الأبناء عن متنفس خارج البيت، مُحمَّلين بأفكار جاهزة وأحكام مسبقة تجاه كل من يكبرهم سِنّأ، وفي ظل عدم التربية على قيم الاحترام ينفجر العنف الذي تمَّ استنباته داخل الأسرة ويكتسح المُجتمع برمَّتِه، موجها ضربة قاسية لاحترام العيش المشترك.
- انهيار الاحترام وانهيار العيش المشترك:
كما سبقت الإشارة، عدم التربية على قيم الاحترام داخل الأسرة (احترام حرية التفكير، احترام حرية التعبير، احترام الرأي المُخالف، احترام الاختلاف...) تُغذِّي ثقافة العنف الرمزي والمادي حيث يغيب الاحترام بين الجيران ويغيب معه العيش المشترك وبدل حُسن الجوار والتآخي والتضامن... يُؤدي غياب الاحترام إلى الاستفزاز والاحتقار وعدم مراعاة خصوصية الجار، أو مرضه أو موت أحد أفراد أسرته، وقد يقيم الجار عرسا صاخبا لابنته في نفس اليوم الذي توفي فيه جار العُمر (على وزن صديق العمر) وفي أحسن الأحوال تُنْهجُ سياسة الاحتراز وتجميد كل المعاملات والأبواب المُغلقة.
يمكن اعتبار الشارع المغربي مختبرا مفتوحا لملاحظة ودراسة ظاهرة هشاشة قيم الاحترام بتلويناتها المتنوعة، وعنوانها البارز:
- عدم احترام الغير:
تطرقت الفلسفة (من زوايا مختلفة) إلى مفهوم الغير بصفته "الأنا الذي ليس أنا" إنه ذاتٌ إنسانية أخرى شبيهة ومختلفة في نفس الآن عن باقي الذوات الإنسانية، واختلفت تصورات وأطاريح الفلاسفة بخصوص العلاقة مع هذا الغير، هل هي علاقة عداء وصراع وانفصال أم علاقة صداقة وتناغم واتصال، ومعظم الفلاسفة المعاصرين يدعون إلى نسج علاقة صداقة وحب واحترام، بهدف العيش المشترك في سلم ووئام، وسأترك الحديث عن أهمية الفلسفة في التربية على قيم الاحترام في نهاية المقال.
لِنَعُدْ إلى الشارع المغربي ونحاول رصد أهم تمظهرات غياب الاحترام، انطلاقا من احتقار الفضاء العمومي المشترك، الصُّراخ والتنابز بالألفاظ البذيئة، والتبول على الجدران (ظاهرة ذكورية تحتاج دراسة سوسيولوجية وسيكولوجية..) وعدم احترام الباعة وأصحاب المقاهي للملك العمومي واحتلال طريق المارّة، عدم احترام السائقين والراجلين على حد سواء لقانون السير، وضعف احترام المرأة بدليل التحرش الجنسي، والاعتداء على المواطنين والمفارقة الخطيرة عدم التدخل لحماية الضحايا وزجر المعتدين، عدم التدخل لتغيير الأعطاب والاختلالات الموجودة في المجتمع المغربي هو موقف يتبناه معظم المغاربة في العديد من القضايا، عدم التدخل إزاء اعتداء زوج على زوجته في الشارع بالضرب المفضي أحيانا إلى الموت، عدم التدخل من أجل المشردين الذين يفترشون العراء ومعاتهم تزداد في موسم الشتاء.. باختصار عدم التدخل حكاية طويلة مريرة تشعبت في مفاصل حياتنا وأصبحت مرضا مزمنا.. وعدم التدخل هو الوجه الآخر لانهيار الاحترام وانهيار العيش المشترك.
كيف أنام في بيتي مطمئنا دافئا ومشرد مُسِنٌّ ومشرّدةٌ عجوزٌ بلا مأوى وطابور من المشردين ذكورا وإناثا بلا سكن بلا مستقبل ونحن نراهم يوميا يتألمون، والكثير من المشردات يُغتصبن وتنتفخ بطونهن بمواليد بأنساب مجهولة ومستقبل مجهول؟ كيف؟ إلاَّ إذا كانت قيم احترام الحياة، احترام المواطنة، احترام المشترك الإنساني مُنهارا بدواخلنا.
قيم الاحترام المنهارة أفسحت المجال لقيم اللااحترام حيث يتوهم الكثير أن الوقاحة جرأة والتهور شجاعة والتطاول والفوضى حرية والتشهير شهرة والفضيحة نجومية..، نعم قيم الاحترام تنهار ونحن نتفرج، تتساقط قيم الاحترام كأوراق الخريف في المدرسة المغربية بكل أسلاكها من الابتدائي إلى الجامعي، وحضور مختلف أشكال عدم احترام حرمة المدرسة فضاء التربية والتعليم والتكوين، العنف المدرسي، تعاطي المخدرات، الابتزاز الجنسي.. وبانهيار الاحترام انهار العيش المشترك بين المتعلمين والمدرسين والطلبة والمؤطرين..وعدم التدخل مرة أخرى..
موضوع انهيار الاحترام في مجتمعنا يحمل صورا عديدة، في الإدارات حيث "البِيرو رشوة قْراطية" تضرب احترام القانون في الصميم واحترام المواطنة.. في المستشفيات عدم احترام المرضى والتعامل بلامبالاة ووفاة النساء الحوامل جراء غياب قيم احترام الحياة..، غياب الاحترام في الحياة السياسية واستفحال العنف والرشوة في الانتخابات وتحويل البرلمان إلى قبة للملاسنة والملاكمة، غياب الاحترام تسلل إلى المساجد، وما حدث في مسجد الأندلس بتطوان من قتل للإمام ومصليين في صلاة الفجر، سوى ورقة توت تخفي غابة العنف وانهيار الاحترام حتى في الأماكن المقدَّسة.. وعدم تدخل المجتمع المدني، والغريب أن التدخل أحيانا يكون لنصرة قضية لحسابات سياسية أو إيديولوجية كما هو الحال لواقعة التنورة بإنزكان حيث خرج المجتمع المدني عن بكرة أبيه، وقد اصطفت لنصرة التَّنُّورتين (لا الفتاتين) العديد من الهيآت الحقوقية والمحامين والجمعيات ووسائل الإعلام.. دليل آخر على هشاشة قيم الاحترام، وعلى صعوبة العيش المشترك، مما يستدعي نقاشا جادا ومقترحات من أجل إيقاف النزيف الذي يهدِّدُ قيم الاحترام بسكتة قلبية ستكون عواقبها وخيمة على إمكانية التعايش المشترك الزاخر بالمودة والاحترام بين عموم المواطنين.
من وجهة نظري التربية على قيم الاحترام مجال تتقاطع فيه العديد من الحقول المعرفية، انطلاقا من التربية الإسلامية، والعلوم الإنسانية، وعلوم التربية، والعلوم المجردة والعلوم التجريبية، ووسائل الإعلام، والعمل الجمعوي، والأحزاب السياسية، والأندية الرياضة، والفن بروافده الغنية من مسرح وشعر وموسيقا وسينما.. وسأحاول توضيح علاقة الفلسفة بالتربية على قيم الاحترام.
"إن هذا الاحترام للذات إذن هو واجب على كل إنسان تجاه نفسه" (1)
يَرتَفِعُ الفيلسوف الألماني كانط Kant بقيم الاحترام، لدرجة جعلها واجبا أخلاقيا تجاه الذات، وكل تفريط في هذا الواجب ينزِل بالإنسان إلى مستوى الأشياء والكائنات غير العاقلة، إن قيم الاحترام تنبثق من امتلاك الكرامة الإنسانية La Dignité humaine، وبامتلاك الشخص لهذه الكرامة، يرغم كل الكائنات العاقلة الأخرى على احترام ذاته، ويتبادل معها نفس الاحترام على أساس قاعدة المساواة، إن الإنسان غاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة، لأهوائه الذاتية أو أهواء الغير، إن الدفاع عن قيم الاحترام وحمايتها والتبشير بها مسؤولية يتحملها كل شخص، وهذا واضح في تحديد كانطKant لمفهوم الشخصباعتباره "الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها".
تتربَّع الفلسفة الكانطية عرش قيم الاحترام، وبهذا الصدد أستعير مقولة دريدا "إن الديموقراطية التي تخسر الفلسفة هي ديموقراطية في خطر" لأقول: "إن المدرسة التي تخسر الفلسفة هي مدرسة في خطر"، إن الفلسفة ظمأ لا ينتهي نحو الحقيقة، وهي جرئية لا تخجل من شكِّها في الآراء، المعتقدات، العلوم..، بل إن الفلسفة تمارس النقد على نفسها، في "تعطش دائم نحو الحقيقة والدفاع عنها، إنها تموقع الإنسان داخل الكون، تُعري المسافات بين الإنسان وذاته، بين الإنسان والغير، بين الإنسان والوجود، إنها مطمح نحو تحقيق الكمال الإنساني (2)يجب تجاوز الإشكاليات المزيفة والأزمات المفتعلة، والكُفَّ عن إثبات وجود الفلسفة في المدرسة المغربية، لأنها موجودة، وإن لم تكن موجودة بالفعل، فهي موجودة بالقوة، وبالتالي يجب تفعيل وجودها، بإقناع جماهيرها بأنها أكثر أهمية من الهواء والماء والغذاء، لأن الفلسفة ليست هي سقراط، وكانط، بل هي ممارسة التفكير، والمساءلة النقدية، والبحث عن الحقيقة، وتفضيل الكرامة واستنشاق الحرية، واختيار الديمقراطية، الفلسفة باختصار هي قيم الاحترام.
الفلسفة لا يمكنها إلا أن تحُثَّ على احترام الذات، واحترام الغير، واحترام الغير، وقيم احترام الغير تتجسد في الاعتراف بوجود الغير، "وبحقه في الاختلاف لأنها أصلا مسكونة في داخلها بالاختلاف... وإعلاؤها من قيمة العقل ليس سوى رفض اللاعقل والعنف والإقصاء، وتكريس قيم الاختلاف والتعددية، التي تعد اليوم شروط الديمقراطية وقاعدة المواطنة في المجتمع المدني. بل إن الفلسفة تنشد في الواقع مواطنة كونية قوامها كونية العقل، تتجاوز خصوصيات العرق والمعتقد والمجتمع (3).
- الفلسفة والتربية المبكرة على قيم الإحترام:
"الفلسفة هي التي تُعلّمُنا الحياة، وللطفولة نصيبها من التعلم.. فلماذا لا نجعلها تتواصل معها".
لاشكَّ أن سؤال سِنَّ التفلسف من أبرز الإشكاليات التي حركت الفكر الفلسفي منذ لحظة سقراط، وهو سؤال مازال يحظى براهنيته اليوم، حيث يشْرئبّ موقفان بخصوص العمر المناسب لممارسة فعل التفلسف:
- الموقف الأول:
يمثله كبار الفلاسفة عبر التاريخ وعلى رأسهم سقراط، أفلاطون، ديكارت، هيجل، يرى هؤلاء أن الطفولة هي مجال الحس المشترك، والإدراك السطحي للحياة والأشياء، وهي مرحلة الأخطاء والأهواء بامتياز، إن تعليم الفلسفة للأطفال حسب أفلاطون "أشبه بوضع سلاح مدمر في يد المجنون أو المعتوه، فأول شخص سيتعرض للضرر هو هذا الشخص" (5)، لذلك يؤجل أفلاطون ممارسة التفلسف حتى سن الخمسين.
- الموقف الثاني:
ويجسده مجموعة من الفلاسفة وعلماء التربية والمدرسين، الذين يؤيدون تدريس الفلسفة للأطفال، ومن بينهم كارل ياسبر، ميشيل دي مونطين، وماثيو لبمن..، وهم يرون "أن الطفل فيلسوف بشكل عفوي، لأنه يطرح الأسئلة باستمرار وهذه العملية حسب كارل ياسبرز هي جوهر فعل التفلسف، فالتفكير في الأصل هو الدافع الأساسي لممارسة فعل التفلسف... والأطفال بطبيعتهم ومنذ نعومة أظافرهم يطرحون أسئلة مرتبطة بهذا الأصل، ذلك أن الطفل يعبر عن اندهاشه أما هذا الوجود المركب من خلال التساؤل عن أصله" (6).
الفلسفة هي إعمال العقل، والتربية على ممارسة التفكير، وتأجيل تدريس الفلسفة إلى الثانوي التأهيلي، (مرحلة انخراط الشباب في الحياة السياسية وبالتالي تأجيل الديمقراطية) يعني تأجيل إعمال العقل وتأخير ممارسة التفكير زهاء عقد من الزمن، حيث يكون المتعلم قد ودَّع مرحلة الطفولة، صوب مرحلة الشباب، بعدما امتلأت ذاكرته بخليط من المعارف المتنوعة، وترسَّبت في عقله العديد من الأفكار الجاهزة، وترسَّخت لديه مجموعة من القناعات الدوغمائية، وما تحمله من أحكام مسبقة، وقيم متضاربة، خصوصا وأن المعرفة الدينية هي المرجعية الأساسية لعموم المغاربة، وهي المعرفة الوحيدة التي تُلقَّن للأطفال بداية من طرف الأسرة بمضامين تتعايش فيها الخرافة والأسطورة مع الدين، والتربية الدينية هي "المادة الوحيدة التي تدرَّس من أول سنة إلى آخر سنة من التعليم الثانوي" (7) ، وهذا شيء جميل لأنه يروم تجذير الهوية الدينية للشعب المغربي، لكن هذا المشروع الهوياتي، يحتاج إلى أرضية صلبة، تتمثل في عقلنة الهوية الدينية، وهذا دور الفلسفة، التي اكتشفنا صحبتها عبر هذه الفقرات، أن مشروعها المركزي هو التربية على قيم الاحترام، ومن بين هذه القيم احترام المرجعية الدينية، خلافا للمغالطات التي يتم ترويجها لأبنائنا حول استهداف الفلسفة للدين وللقيم الأخلاقية، ووصم الفلسفة بالمتهافتة واللامُجدية.
. هل بهذه التنشئة الاجتماعية سَنُعلِّمُ الأطفال احترام التعدد الهوياتي واحترام الاختلاف بين الأديان والمعتقدات والأعراق وأنماط العيش والتربية على قيم الاحترام؟
. وهل بهذه التربية سنُعلّمهم احترام التفكير الحر وجرأة النقد والتشبع بالتسامح والانفتاح والقبول بالاختلاف والعيش المشترك أم التشجيع على احتقار التفكيرووقاحة الاستفزاز والعبثية ونشر الكراهية وزرع الطائفية والحرب الأهلية؟
إن التربية على قيم الاحترام هي البداية العظيمة في تربية الأطفال و"البداية هي دائما أعظم الأشياء" على حد تعبير الفيلسوف مارتن هايدغر، وتمرن الأطفال على التفلسف، يعني التمرُّن على إعمال العقل وممارسة التفكير وقدرتهم على الملاحظة، المقارنة والتمييز بين: الخطأ/الصواب، الكذب/الصدق، الضرر/النفع، الشر/الخير، الهوى/الحقيقة، العبثية/الجدية، الاحتقار/الاحترام...، مما يجعلنا نتحدث عن دمقرطة "الحق في الفلسفة" (8) لكل البشر، وكل الفئات العمرية "ضدا عن التوجه والخيار الديكارتي اللاديمقراطي الذي حسب تصوره الخاص للطفولة كمكان وزمان للأحكام المسبقة والخطأ فإذا أردنا التفلسف فعلينا أن نبدأ أولا بمغادرة مرحلة الطفولة" (9).
وهنا يجب التمييز بين الفلسفة والتفلسف، بين التصور الهيجلي الذي يرى "بأن العرض الفلسفي يجب أن يقتصر على الجامعة وأن يقصى من التعليم الثانوي" (10)، إن الفلسفة بالنسبة لهيجل تدرس كمحتويات معرفية، من وجهة نظره لا يمكن معرفة الفلسفة دون معرفة معالمها، جغرافيتها، تضاريسها، وديانها وشعابها (تاريخ الفلسفة)، وبالتالي فإن "ما يمكن تعلمه هو الفلسفة وليس التفلسف" (11).
في مقابل هذا التصور يصرح كانط أنه "لا يمكن تعلم الفلسفة، فما يمكن تعلمه هو التفلسف... إنَّ(ه) تعلم التفكير وممارسته، ليس تعلما لمحتويات أو لأنساق، إنه استعمال نقدي للعقل، وتجاوز لكل الصيغ الدوغمائية التي أسسها العقل نفسه" (12).
المواطن لا يولد مواطنا، ولكنه يصبح مواطنا إيجابيا بفضل التربية، والتربية على الاحترام هي أسرع الطرق لتكريس القبول بالاختلاف، ورفض العنصرية واختيار السلم والعيش المشترك، ونشر المحبة والمواطنة الحية، وتجفيف منابع الحقد والكراهية والاستغلال والعدوانية التي أصبحت تفتك بقيمنا وتنخر هويتنا المغربية.. فمتى نتدخل لإنقاذ العيش المشترك..؟ علما أنني لا أٌعَمِّمُ القول، ففي وطني أيضا الكثير من المواطنين المتشبٍّعين بقيم الاحترام السامية.. ختاما احترامي الكبير لكم سادتي القراء، ولكم منى أصدق تحية.
المراجع والهوامش:
1-Kant, fondements de la métaphysique des mœurs (1785), Traduction de V. Delbos, Revue par Ferdinand Alquié, Ed. Gallimard, 1987, p.294
2- ضرورة الفلسفة، نقدالوضع الحالي للفلسفة، بيير ثويليي، ترجمة: عزيز لزرق، منشورات اختلاف، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى2000، الصفحة:7.
3- د.نضال فاضل البغدادي ومجموعة من الأكاديميين العرب، التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل، دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، الطبعة الأولى2014، الصفحة:227.
4- Montaigne, Essai 1, 24, De l'instruction des enfants.
5- د.نضال فاضل البغدادي ومجموعة من الأكاديميين العرب، التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل، دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، الطبعة الأولى2014، الصفحة:.91
6- المرجع نفسه، الصفحة:91.
7- حكيمة أغريس وسعيد الراشدي، محنة الفلسفة الفلسفة ومكانة حضورها في النظام التربوي المغربي، العدد السابع،2014، الصفحة:12.
8- د.عزالدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى2002،الصفحة:15.
9- د.نضال فاضل البغدادي ومجموعة من الأكاديميين العرب، التفلسف والتعليم ورهانات المستقبل، دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع، العراق، الطبعة الأولى2014، الصفحة،74.
10- د.عزالدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى2002،الصفحة:71.
11- المرجع نفسه، الصفحة"70.
12- المرجع نفسه، الصفحة"70.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.