الأحزاب السياسية مؤسسة أساسية للتعبير عن مطالب المواطنين وتأطيرهم وإعداد الأطر القادرة على إدارة الشأن العام ، فالأحزاب نشأت لتحل محل التعبيرات القديمة القائمة على الاحتماء بالعشيرة أو القبيلة ، ولتتعامل مع الناس كمواطنين، وهي تجمع بين الأفراد على أساس الانتماء لتصور أيديولوجي معين، يساعد على تأطير جماهير الناس من أجل التعبير عن تصوراتهم، وتحويلها إلى برامج فعلية، قابلة للتنفيذ ، عبر الآليات الديمقراطية المتجلية في الانتخابات . فالأحزاب السياسية مدرسة للتربية السياسية للمواطن، ينخرط فيها للمساهمة في الشأن العام. فهل الأحزاب السياسية المغربية تؤدي أدوارها في استقطاب الأفراد و تأطيرهم و إعدادهم لإدارة الشأن العام ؟ و هل تلتزم بمبادئ الديموقراطية الداخلية كما استوجبها الدستور ؟. و هذا ما سنحاول الإجابة عليه من حلال المحاور التالية : اختلال في الوظيفة الحزبية وسؤال الديمقراطية الداخلية : من خلال قراءة للمشهد السياسي ، وعلى ضوء التجربة الحزبية بالمغرب ، يلاحظ أن الأحزاب السياسية انحرفت عن أسسها الإيديولوجية ، وتقاعست عن القيام بأدوارها ووظائفها الدستورية ، ولتصبح مجرد جماعات تقوم على الولاء للقائد والزعيم ، والقادر على إدارة شؤون الحزب. ولا يتعلق الأمر، هنا، بأحزاب اليمين وحدها، وإنما أيضاً بأحزاب اليسار نفسها التي ترفع الديمقراطية الداخلية شعاراً لها ، الأمر الذي جعل المؤتمرات الحزبية تنتج نفس الأشخاص و القيادات ، وبالتالي تظل هذه المؤتمرات شكلية وصورية ، حيث يتم توزيع الأدوار و المواقع داخل الحزب مسبقا ، في الكواليس و بناء على الاتفاقات التي تتم بين المتحكمين في دواليب الحزب، حارج إطار الشرعية التنظيمية . فضلا عن ذلك ، فإن زعيم الحزب يتمتع بصلاحيات مطلقة، ولا يخضع للمساءلة، رغم أن القوانين التنظيمية للحزب تقررها ، و المنخرطون هم أشبه بالرعايا السياسيين، عليهم السمع والطاعة، ومن حاول تصحيح الاختلالات داخل الحزب، أو معاكسة الزعيم في قراراته ، يكون مصيره الإبعاد أو التهميش، حيث يلعب منطق الولاء للزعيم المتحكم في كل قرارات الحزب الدور الأساسي للشخصية المحورية في الحزب (شخصية عبد الإله بنكيران في حزب العدالة والتنمية مثلاً) ، فالزعيم من يحدد مصير الحزب و مستقبله و الشخص الذي سيتولى ادارة الحزب بعده ، عادة يكون من أفراد عائلته أو من مريديه ( حالة محمود عرشان الأمين العام لحزب الحركة الشعبية الديموقراطية والاجتماعية عندما هيء الظروف المواتية لابنه عبد الصمد عرشان لإدارة الحزب ). حيث ظلت القيادات الحزبية تعيد إنتاج نفسها في كل المؤتمرات المتعلقة بالحزب بصيغ مختلفة، وهذا أدى إلى حصول انشقاقات واسعة داخل الأحزاب، أثرت عليها انتخابياً، بسبب غياب آليات إدارة الحزب بصورة عقلانية و ديموقراطية ، تسمح بالتداول على القيادة، أو صعود زعيم ينقصه الحكم الرشيد ، أو تتسم قراراته بإقصاء معارضيه بمنهجية دكتاتورية ( حالة ادريس لشكر ، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، مما أدى إلى انشقاق في الحزب ) . إن الشخصانية والرغبة في تصدر المشهد السياسي و الحزبي ، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التقليدية، فضلاً عن تمسك القيادات بمواقعها من جانب آخر، أدى بدوره إلى عزوف المواطن ، خاصة الشباب ، عن الممارسة السياسية والانخراط في الأحزاب و المشاركة في الانتخابات ، في مقابل ذلك نلاحظ حضوراً واضحاً للوبيات المالية ورجال الأعمال الت انخرطت في الأحزاب و تحكمت في القرارات الحزبية ، وهي تتحرك بدافع امتلاك مزيد من النفوذ، خدمة لمصالحها الاقتصادية الخاصة ( حالة حزب الحركة الشعبية و حزب التجمع الوطني للأحرار ). تراجع دور الأحزاب أمام تنافي المجتمع المدني : أثبتت الممارسة الفعلية أن الأحزاب السياسية عجزت عن إشباع الحاجات الأساسية للمواطن، وضاع التمايز في خطابها الأيديولوجي، بعد أن ذابت الفروق بين اليمين واليسار بسبب طغيان عصر العولمة وانهيار الحركات الأيديولوجية اليسارية في العالم لحساب و هيمنة افتصاد السوق، مما أدى إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني بأنماطها المتعددة والتي تركز على حقوق الانسان ، السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية . وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة في الأحزاب السياسية باعتبارها ممثلة لمصالح المواطنين، وتصاعدت الثقة في مؤسسات المجتمع المدني، التي لديها قدرة على التفاعل المباشر مع الناس، والدفاع عم مصالحهم الاقتصادية والاجتمعاعية ، مما أدى الى اعتماد مبدأ الديمقراطية التشاركية في الدستور . عزوف الشباب عن المشاركة السياسية : إن انسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب ، فضلاً عن تمسك القيادات بمواقعها على مستوى المكتب السياسيي للحزب أو الأمانة العامة، رافضة أي تشبيب على مستوى القيادة إلا استثناء ، أدى بدوره إلى عزوف المواطن ، خاصة الشباب ، عن الممارسة السياسية والانخراط في الأحزاب و المشاركة في الانتخابات ، كمرشحين أو كناخبين . وهذا ما جعل الأحزاب السيساية المغربية بشكلها الحالي تمثل عائقا أمام انخراط فعال للشباب في الحياة السياسية بسبب الجمود الذي تعرفه على المستوى التنظيمي و الوظيفي و غياب الديموقرلطية الداخلية ، وتقاعسها عن تشكيل قوة اقتراحية تقدم البرامج في الانتخابات القابلة للتنفيذ ، حيث إن جلها غير واقعية و فضفاضة ، تتم الدعاية بها لاستمالة الناخبين . لهذا فإن تفكيك أزمة الثقة بين الشباب والأحزاب يمر عبر إصلاح الحقل الحزبي وإقرار ديمقراطية حقيقية داخلية تفتح الباب أمام الشباب للانخراط في العمل الحزبي و تحمل المسؤولية في القيادة و فتح المجال له للابداع و الابتكار داخل المؤسسة الحزبية ، ليصير قوة اقتراحية فعالة ، وتهييئه أيضا ليكون قادرا على إدارة الشأن العام المحلي والوطني . صعوبة وصول المرأة إلى مناصب القيادة الحزبية : لا يمكن الاختلاف عما حققته المرأة المغربية من تقدم وإنجازات وما وصلت إليه من مكانة مشرفة بفضل جهودها وكفاحها وطموحها لتقلد مواقع الريادة، وفرض حضورها في المجتمع المدني و السياسي ، وبالخصوص داخل الأحزاب السياسية و المؤسسات التمثيلية ، على الرغم من التحديات الكبرى التي واجهتها وتواجهها والتقاليد المتحجرة التي تعيق مسيرتها. و رغم الدور الحيوي والمشهود للمرأة المغربية داخل الأحزاب فإننا ما زلنا نلاحظ ممارسات تمييزية في حقها في المجتمع وداخل الأحزاب من قبيل تهميش دورها السياسي ، و حتى عندما تقدم في الواجهة ، تقدم فقط كديكور أو ربح رهان انتخابي وليس دفاعا عن كينونتها و كفاءتها ، وهو ما يمكن اعتباره استغلالا للمرأة سياسيا وإعلاميا . كما أنه مازلنا نلاحظ ، مثلا ، حضورا باهتا لها في وسائل الإعلام وعلو الصوت الذكوري في البرامج الإعلامية ، الخاصة بأنشطة الأحزاب ، والذي يحاول أن يخطف نجاحها لصالحه، حيث يهيمن على البرامج التلفزيونية الحوارية الحضور الرجالي الذي يدلي بشؤون وهموم الوطن، في مقابل خفوت الصوت النسائي ، إلا استثناء. وهذا الواقع كما نلاحظه، مرتبط بطبيعة المجتمع المغربي حيث مازالت تسود العقلية الذكورية والتي تعطي الأولوية للرجل كقائد اجتماعي وسياسي وكعنصر له قدرات أقوى من المرأة في تدبير الشأن العام السياسي وتقلد المواقع الريادية ، وبالتالي يصير وصول المرأة إلى مناصب القيادة مسألة صعبة جداً و معقدة أحيانا، رغم الخطابات المعلنة بأن الأحزاب السياسية تدعم وصول المرأة إلى مراكز القيادة والمسؤولية . وعلى هذا الأساس ، فإن الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب تعد القناة الأكثر فاعلية في نشر ثقافة تمكين المرأة من المشاركة السياسية و تسهم في خلق ثقافة المواطنة، ذلك أن تمكين المرأة وإسهامَها الكاملَ والمتكافئَ في كافة النشاطات السياسية ، بما في ذلك الإسهامُ في صناعة القرار الحزبي و المشاركة في تدبير الشأن العام بجانب الرجل ، شرط أساسي لتحقيق مبدأي المساواة و تكافؤ الفرص بين الرجل و المرأة . و نستنتج مما سبق ، أن إعادة تشكيل المشهد الحزبي بالمغرب أصبح ضرورة ملحة ، في ظل وجود أحزاب تقليدية فشلت إقناع المواطن و تحقيق طموحاته ، وأيضا فشلت في إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية ، و بالخصوص معضلة التعليم ، ناهيك عن المشاكل التنظيمية الداخلية للأحزاب و الانحراف عن الإيديولوجية التي تأسس عليها الحزب في نشأته . ومن شأن إصلاح البناء التنظيمي للأحزاب أن يساهم بشكل أكبر في استقرار العملية السياسية، والتقدم في بناء العملية الديمقراطية في البلاد، وهذا أمر يفرضه الواقع الجديد، ومهمة عاجلة على عاتق السياسيين والنشطاء الحزبيين. *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية