وزارة النقل تطلق 7 خدمات جديدة عبر منصتها الإلكترونية    اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب.. جمعية حقوقية تكشف استمرار الانتهاكات وتطالب بالإفراج عن معتقلي الرأي    بن جلون مديرا للمركز السينمائي.. الحكومة تصادق على تعيينات جديدة في مناصب عليا    الدرهم يرتفع بنسبة 0,5 في الماي ة مقابل الدولار خلال الفترة من 19 إلى 25 يونيو    خامنئي: إسرائيل كادت تنهار تحت ضرباتنا.. وضرب القواعد الأمريكية قد يتكرر إذا تجدد العدوان    تفكيك شبكة بالحسيمة تنشط في تنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    رئاسة النيابة العامة تحث على تفعيل اختصاصاتها في مساطر معالجة صعوبات المقاولة    وزارة الثقافة توزع أزيد من 9 ملايين درهم على 177 مهرجانا وتظاهرة خلال سنة 2025    رسالة من بريتوريا.. خريطة المغرب كاملة في قمة دولية بجنوب إفريقيا (صور)    عمر زنيبر يبرز بجنيف أولويات العمل الدبلوماسي والوطني للمغرب في مجال الهجرة    جو ويلسون يُقدّم مشروع قانون إلى الكونغرس الأمريكي لتصنيف البوليساريو كمنظمة إرهابية    الوداد يغادر مونديال الأندية خالي الوفاض بعد هزيمته أمام العين الإماراتي    برلمان أمريكا الوسطى يجدد تأكيد دعمه لمخطط الحكم الذاتي وللوحدة الترابية للمملكة    تعيين محمد رضا بنجلون مديرا للمركز السينمائي المغربي    مجلس الحكومة يُصادق على مشاريع مراسيم تهم مجموعة من القطاعات    أمير المؤمنين يبعث بطاقات تهنئة إلى ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد 1447    المحكمة تستدعي الفنانة لطيفة رأفت كشاهدة في قضية "إسكوبار الصحراء"    اتصالات المغرب وإنوي تعلنان إنشاء شركتي "Uni Fiber" و"Uni Tower"    مشاريع استثمارية تبلغ 51 مليار درهم    مقتل 44 فلسطينيا بقصف إسرائيلي    سانشيز: غزة تشهد "إبادة جماعية"    خريطة المغرب الكاملة بجنوب إفريقيا    الجزائر توظف ورقة النفط والغاز لعرقلة موقف أمريكا من الصحراء المغربية    الهزيمة الثالثة.. الوداد يودع مونديال الأندية بخسارة أمام العين الإماراتي    تعيين بنجلون مديرا للمركز السينمائي    ضجة الاستدلال على الاستبدال    حفل جماهيري ضخم.. ديانا حداد تحقق رقمًا قياسيًا في الحضور بالمغرب    6 مليارات دولار و200 شركة تكنولوجية صينية في الأفق: المغرب يجذب استثمارات صينية غير مسبوقة في الصناعة والتكنولوجيا    الزيات يعلن ترشحه لرئاسة الرجاء ويعد بمرحلة جديدة مع تفعيل الشركة    بعد غياب 6 سنوات..المعرض الوطني للكتاب المستعمل يعود في نسخته الثالثة عشر بالدارالبيضاء    ادريس الروخ يشرع في تصوير مسلسل درامي جديد    الطالب الباحث عبد الفتاح موليم ينال شهادة الماستر في القانون العام بميزة مشرف جدا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر            الحسيمة.. تحويط حريق بغابة "ثاندا إفران" وجهود متواصلة لإخماده    وفاة رجل أضرم النار في جسده وسط الشارع العام بطنجة إثر خلاف تجاري    عواصف عنيفة تضرب فرنسا وتخلف قتلى ودمارا واسعا    في الأمم المتحدة.. المغرب يدعو لتحرك جماعي لحماية المدنيين من الفظائع    مونديال الأندية.. إنتر يتفوق على ريفر بليت ويعتلي الصدارة ومونتيري يعبر برباعية    جمعيات تحذر الوزارة الوصية من "تفويت" 54 مركزا للشباب    أسعار الذهب ترتفع وسط تراجع الدولار الأمريكي    عبد الكبير الخطيبي: منسي المثقفين    مغاربة العالم يعقدون ندوة حوارية بباريس حول الورش الملكي الخاص بالجالية    "الحسنية" تأذن بسفر المدرب الجديد    معرض يستحضر الأندلس في مرتيل    الرباط تحتضن دوري الراحل بوهلال    إدانة رابطة مغربية لتأخير رحلة Ryanair بمطار الرباط    طفل في كل فصل دراسي مولود بالتلقيح الصناعي ببريطانيا    احذر الجفاف في الصيف .. هذه علاماته وطرق الوقاية منه    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلومينينسي يعبر إلى ثمن النهائي عقب تعادل سلبي أمام صنداونز    دراسة تحذر: انتكاسات كبيرة في برامج التلقيح تعرض الأطفال لخطر الأمراض القاتلة    عودة الدواجن البرازيلية إلى الأسواق المغربية بعد زوال المخاطر الصحية    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملتمس غفران لجنة النسيان .. إطلالة سريعة على تجربة العبدلاوي
نشر في هسبريس يوم 15 - 06 - 2017


مقدمة وتنوير:
سأواصل من خلال منبر هسبريس قراءاتي النقدية في بعض التجارب الأدبية لشعراء وكتاب ومثقفين يدلون بدلوهم في حقول مختلفة من العلوم الإنسانية والأدب والنقد الثقافي والفلسفي والسياسي، موظفا تجربتي وثقافتي ومنهجيتي في قراءة المنتوج الفكري قدر المستطاع. هذه التجربة التي أحاول من خلالها وضع اليد على مكامن القوة في النص الأدبي ومكامن الضعف فيه، وتقويم مكوناته الثقافية منهجيا وأكاديميا.
تسعى المحاولة إلى استبيان الأماكن المضيئة في النص وتصحيح الاختلالات الواردة في نسقه المنهجي وترسيم مضمونه الفكري على أسس منطقية وسليمة. سياق البحث في تجربة الكاتب أو الكاتبة يفضي نحو عالم متجدد من النصوص والأفكار تقدم ما لديها، والهدف منها هو ترويض الكلمة نحو أفق جديد ومساعدة الكاتب على تجاوز مرحلة الحيرة في تجربته الثقافية، لأنه لا يمكن لنا أن نطالب الكاتب أو المبدع بأكثر مما لديه.
هذه التجربة سبق لي أن قمت بالإسهام فيها في العقد التاسع من القرن الماضي (1986-1998) على صفحات بعض الجرائد الورقية الوطنية المقروءة آنذاك، أذكر منها على سبيل المثال ما كنت أنشره في الملحق الثقافي لجريدة "بيان اليوم" والملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي" وصفحة الثقافة في جريدة "أنوال" وصفحة "على الطريق".. كانت تجارب رائدة في تنقيح تجربة الكتابة وإعدادها لتخوض معركة الفكر والثقافة والإبداع. وقد انطلقت من هذه المنابر عدة أصوات خرجت مسلحة بمفاهيم وأدوات ثقافية أهلت بعضها الآن لتحتل مكانة مرموقة في الحقل الثقافي والإبداعي المغربي، ومنها من حاز جوائز وطنية ودولية تشجيعا لتجربته في هذا الميدان.
أعيد التجربة قدر المستطاع على صفحة هذا المنبر (هسبريس) دون أن يكون المقصود- طبعا - هو إعطاء الدروس لأحد، ولكن لتنوير طريق بعض الكتاب من خلال التراكم الذي استفدنا منه نحن على مدى ثلاثة عقود من حمل رسالة القلم في هذا الوطن، وشرطي الوحيد في قراءة أي عمل أدبي أو فكري هو أن يكون متفاعلا مع قضايا الأمة وملتزما بهموم المجتمع والمسحوقين من أبناء هذا الوطن ومهموما بمستقبلهم. إن الكتابة خارج هذا لشرط لا تعنيني على الإطلاق لأنني أعتبرها كتابة التهويم غير المنتج. ولعل هذا الشرط هو الذي جعلني ألتفت بدءا إلى تجربة شاعرة ملتزمة كلماتها من ضياء وأفكارها راجمات ترمي النيران على قلاع الفساد والظلم والاستعباد، شاعرة ترفض أن تكتب اللغة ولكن تضع في قالب اللغة لعنة المرحلة وسخطها ورفضها لما هو سائد.
قراءة في تجربتها الثانية لما بعد "تقاسيم الريح".
لا أزعم أن هناك شيئا تغير في تجربة الشاعرة فوزية العبدلاوي شكلا أو مضمونا، إنما أطرح أسئلتي من خلال المتن الشعري الذي أمامي وأحاول الإجابة عنها قدر المستطاع، غير أن هذا لا يحرمني متعة التساؤل أيضا، هل هناك من متغير طرأ في العمل الشعري لفوزية العبدلاوي بعد ديوانها "تقاسيم الريح"؟ وهل هناك أسباب موجبة لهذا التغيير؟ وهل يمكن الحديث عن تجربة ثانية للشاعرة تخوضها بيقين وإصرار؟
أكيد أن هناك الكثير مما تغير في كتابة الشاعرة بعد ديوانها "تقاسيم الريح"، فمن البديهي أن كل مطبوع صدر يحمل نسقا خاصا للكتابة ويكون طعمه بنكهة المرحلة التي كتب فيها، وما يقدم مبدع أو كاتب على الدخول في عمل ثان إلا وقد حضر لديه هاجس التطوير والتغيير. هذا لا يعني بتاتا أن كل إصدار؛ تجربة، وكل ديوان شعر يحمل ملامحه المغايرة؛ فالمعنى المقصود هو أن الكتابة التي تعقب العمل الأول تستزيد من خصب التجربة وتتحول تحت نقاب شفاف من اللغة والمعاني والصور الحادثة، نحو متغير يحمل كل سمات التجربة الأولى ويتفوق عليها. هذا ما لاحظته في القصائد التي جاءت بعد تقاسيم الريح. ولعلي هنا أجد مبررا كي أتناول الشق الثاني في تجربة الشاعرة على خلفية كتابات تقاسيم الريح التي في نظري هي العتبة الأولى لقياس تحولات التجربة.
إلا أن الذي لا يمكن القفز عليه أو تهميشه هو مرتكز التجربة وهدفها ومحرك كوامنها الشعرية عند الشاعرة، لا من الناحية الوجدانية ولا من حيث اللغة المستعملة والصور، فالكتابة الشعرية عند الشاعرة المغربية فوزية العبدلاوي؛ "قضية"، قبل أن تكون ملمحا جماليَا.. قصائدها كلها منذ الوهلة الأولى تحمل شحنة دافئة من العواطف والأحاسيس الإنسانية المشتركة، بل هي كتابه سبر الغور العميق للمأساة، فهي إذا صح التعبير "كتابة الأنين" بامتياز، لذا تستقي تيماتها من مواجع الإنسان وأحلامه وأحزانه وقلقه ودموعه. الشاعرة اختارت أن تكون الكتابة بشكل الخنجر المغروس في الخصر، كما قال نزار قباني، وإلاَ صارت كما قالت هي نفسها "فسحة كلامية مجانيَة" (من حوار في جريدة القدس العربي أجراه الشاعر والأديب المجيد الأستاذ عبد الغني فوزي).
الشاعرة لم تتغير ونبضاتها المعنوية في قصائد ما بعد "تقاسيم الريح" تتشابك في فضاء واحد فسيح ومترام تتطور فيه التجربة باستمرار، وتنزع نحو عالمها الخاص؛ فمن خلال قلق التجربة الثانية ينبعث صخب وضوضاء التجربة الشعرية الأولى في ديوان "تقاسيم الريح"، لكن بنفس مغاير وثورة أكثر على المشاعر والأحاسيس وتحريكها لتقول كل شيء - بعض الشيء- عن الحياة والموت والفقدان والنأي والاغتراب والحزن وآلام الآخرين التي تشكل الجزء الأكبر من هرم الاستياء في حياة الشاعرة. بمعنى قريب من الشعر نفسه فهي "تلوك يأس العالم"، من لا يذكر هذه الجملة القصيرة التي اختصرت تجربة كاملة للحياة والشعر عند المرحومة "سنية صالح". لقد جادت بها وهي تلفظ نفسها الأخير على ذراع زوجها الشاعر محمد الماغوط "عم ألوك يأس العالم".
نم في حضني قليلا أيها الملوَن كقزح ** وارتق ليلي بحكايا الآفلين من وجع الرحيل
هكذا تلوك فوزية العبدلاوي في إحدى قصائدها الأخيرة يأس الحقبة الشاعرية وأوجاع التناقضات الحضارية ومعاناة الناس وتيههم في الدروب الوعرة للحياة. تقول الشاعرة إن الشاعر "ملزم بتبني قضايا عصره والاصطفاف إلى جانب المقهورين، لا أدب حقيقيا خارج التراجيديا الإنسانية، بل حتى الملهاة التي لا تسخر من مأساة الوجود التراجيدي للإنسان لا يمكن أن تصنَف ضمن الأدب بمعناه الإنساني الرفيع"، هذا ما شدني بحق إلى التجربة كي أعشقها وأقرأها قراءة عاشقة.
يا زبدا لموج الجزر
وابتهاله في صفير الريح
أكاد، من ظمئي إليك، أشرب
الأعاصير القادحة لهبا
من وقع حوافر جياد الضناء
وشهقة الربيع في براعم المساء
لقد تهيبت في البدء من الدخول في قراءة نقدية لأنني لم أفعل هذا منذ زمن طويل، وتساءلت مرارا كيف لي أن أنسى أول دروبي لأنني مارست النقد الأدبي في تجارب سابقة قبل تحول تجربتي المعرفية نحو العلوم السياسية والاقتصاد، ولأنني لم أكن لأتحمل كل هذا الغدق الهامي وأناوشه من بعيد، فقلت لا بد من وقفة أمام بحر التجربة الشعرية وموجها الصاخب والبحث عن كيفية للتعامل معها والعثور على منفذ يمر بي نحو أفضائها المتشابكة، علما أنه ليس لناقد مهما كانت حدقته الأدبية أن يمرن معرفته في النص الأدبي الإبداعي كما يشاء، له أن يضع إصبعه على الجراح الغائرة فيه إن استطاع ويتمنى أن تخرج القصائد الشعرية من جحرها مسالمة، فليس له مشروعية التصنيف والتبويب والتبديل لمعنى عمل إبداعي ترقص فيه الريح رقصتها العجيبة وتتقلب حوله تقاسيمها المجيدة، الله وحده يعلم كم اجتر فيه بانيه من عذابات مميتة وكم مرة تقاذفته الريح من مكان سحيق تم أعادته إلى حيث هو، في زمن لا يقاس..يقول نتشه "إن الإبداع الذي لا يمنع عنا الشعور بالموت، ليس إبداعا"، ويقول في كتابه الفن والحياة: "لقد أعطانا الله الشعر كي لا نموت من الحقيقة". إن الشعر الذي لا تتآخى فيه الذات المبدعة مع سراديب الموت في لحظة دامسة "مصبوغة بالسواد" ليس بشعر. فكيف نشرح هذا الكائن المصقول بالهمسات البرية وأنفاس العطر والممهور بأوجاع الروح؟.
كل جملة تسقط على بياض الورقة عند الشاعرة فوزية العبدلاوي ترسم عالما جديدا، وكل حرف يأتي لا يأتي جزافا، بل يأخذ المعنى من تلابيبه ويمضي به طائعا إلى حضرة السماع (التلقي)..أنا أقرأ مرارا من إنتاج بعض الشعراء والشاعرات، لأنني في حاجة ماسة إلى الشعر وفي حاجة أكثر إلى تليين أعصابي قليلا من مادة الاقتصاد والمقالات الجافة في النقد السياسي، وأقسم أنني نادرا ما أتمم قصيدة شاعر أو شاعرة؟ وهذا ليس قصورا مني، بل لأنني لا أتمكن من تطبيع علاقتي مع مضمون بعض القصائد، ولا على استيعاب مكنون اللحظة الإبداعية التي تأسرهم. فألقي سؤالا عريضا "ما جدوى الكلام حول الذات وهناك من التيمات ما يفتن المشاعر والوجدان حد الدمار النفسي والروحي؟"، هنالك تقف رغبتي في المعرفة الأدبية والفنية، والسبب أنني أحس بفراغ سحيق يجمد علاقتي بالنص المقروء، وأجد أن الشاعر غير قادر على "التبليغ عن خطايا الإنسان في حقَ الإنسان"، كما تقول الشاعرة في معرض كلامها.
أنين الكتابة وكتابة الأنين:
ماذا يريد أن يقول شاعر يصف قرنفلة، هو ذا يضع الوردة في مجس العاطفة فيقرأ ما حولها ويحوم كنحلة تتحين الفرصة لتغوص في رحيقها، هو ذا الشاعر قد نقل إلي الصورة الجمالية لوجدانه، هو ولم يطرق بريشته باب عقلي ووجداني وحالي، لا بمختصر من القول ولا بمفيد، فهو بعيد كل البعد عن "معاناتي وإشكالاتي"..إني وجدت أن العالم ضاق بالكلمات وصورها ومعانيها ولم يعد هناك شيء سوى أن نتكلم عن المجاز في علاقتنا بذواتنا وبالعالم. قرنفلة لا تشبه طفلات الهوامش في المغرب العميق "فرح" و"إيديا" و"فاطمة الزهراء"، ولا تشبه طفلة في سوريا الجريحة، طفلة "مجهولة الهوية"، مكسورة العظام، هلامية الشكل، انتشلها والدها من تحت أنقاض بيت هدمته الطائرات الحربية، ومضى بها، تتدلى خصيلات شعرها على ذراعه وهو يمضي بها إلى البعيد البعيد. طفلة غادرها الصمت، لا تبكي لا تصرخ لا تكلم أباها، إنما حوارها معه في الداخل العميق من ذواتهما، وتلك هي مهمة الشعر بامتياز، هكذا يقول القصيد:
في ظلمة استيقظت كطفل مذعور
هزَت رسومه تلاوين اليتم
وأحاطت سريره أشباح الموتى
قصيدة لا تشبهني لا أقراها، قصة تتحدث عن الغائب في واقع يكاد يقتلني من الشؤم لا أقرأها أبدا، مقالة أو بحث أو كتاب غائب عن حالتنا وواقعنا الخاص والعام ولا يلامس أشجاننا ولا يسهم في بناء عالمنا وطموحنا إلى الأفضل، هو كتاب غير جدير بالقراءة. أذكر قول محمد الساسي ليلة إحياء ذكرى الفقيد المناضل محمد حسني بأن المثقفين المغاربة الذين يبحثون في الأكاديميات ولا يلتفتون للواقع حولهم يعيشون خارج الحضارة والفكر، ولا يستحقون أن ينعتوا بمثقفين. مثل هؤلاء كثير في جامعاتنا وفي معاهد البحث والمدارس العليا ممن اتخذ المنهج والبحث والأكاديمية والديداكتيك والخصوصية العلمية تقية للابتعاد عن الواقع المعاش، إنما يبررون عدم القدرة على صنع المواقف ويبتعدون عن الحقيقة زلفى لتحقيق مطمع تافه. هؤلاء مثقفون مزيفون كالشعراء والقصاصين والروائيين المزيفين الذين يكتبون منسلخين عن إكراهات الواقع السيئ الذي يحاصرهم من كل اتجاه.
القاعدة البيانية في الأدب كما في العلوم تقول: إن الكلمة إذا جاورت أختها دون روح لم تكن سوى قطعة حجر. وإضافة قطعة حجر في بناء أساس فني لا يقربك من معناه، بل لا تجد معناه أنت مثلما يسهل على مبدعه أن يلتقطه. في نظري إبداعيا لن يكون هذا إبداعا، وفي الشعر على وجه الخصوص، ليس هذا شعرا، لأن الشعر مملكة العاشقين متاع مشاع بين أهله، جنته تحتاج دوما إلى ملتمس غفران، فإذا لم تكن طريقك سلسة وبوصلتك القلب والعقل معا، فلا شيء يقودك إلى "إيطوبيا" الفرح، فلا تتفاءل، فليس هناك شيء يدنيك من دواخلك إلا الكلمة الصادقة التي تصفك وتتحرى كيانك.. ولن ألقي بعذر في هذا الصدد فهذين البيتين من الشعر من قصيدة ملتمس غفران يعبران عن ذلك أحسن مني:
أحتاج لبكاء طويل كرفرفة طير حزين
أمام شباك لا يعانقه الصبح إلاَ جريحا
الشعر كائن بجسد وروح:
أكيد أن الكلمة الفنية تجعل من القصيدة تكوينا وإيقاعا ولغة وانسجاما، والمعنى الصادق يحولها إلى روح. الاختيار أن تحتوي الكلمة الشعرية على كيان بروح وألا تبقى ممدة كالصخر الجامد. أتريد أن تثيرني أيها الشاعر بفن جميل؛ شعر متماسك لغة ومسبوك من الناحية الفنية ووصفي دقيق الوصف؟ لكن أين شكلي في شكل الكلمة التي تصوغ؟ سيقول: شكل الإنسان شكل الكلمة الإبداعية فهي عمقه وهو جوهرها. إنه البعد الإنساني الصوفي في التجربة وهو جزء من القول الشعري عموما، نجده عند الشاعرة فوزية العبدلاوي كما نجدده عند غيرها من الشاعرات والشعراء، ولكن حين يصير القول الشعري مجردا من الحركة الاجتماعية وتفاعلاته الكونية يسقط معناه الإنساني ويبقى مجرد كلام خال من معاني الواقع الموجع. الشاعر ابن بيئته وما يعتمل في محيطه لا يتركه طليقا في مسرح الشعر يرعى الحشائش التي يريد، بل هو مساق ليؤرخ المعنى من مصدره ويتحدث عن أحزان الوطن وموت الأطفال الفجائي تحت ضربات اليأس والإهمال ومشاكل الحياة في تخوم القرى البعيدة حين تغرق المنازل تحت الثلوج وتموت النساء بالفقر والحسرة والألم وجحيم الحروب والمآسي الكبرى، لهذا المخلوق العجيب الذي ترك جنة الخلد وجاء ليجرب فظاعة الموت. لينظر الشاعر إذن أمامه ويقرأ في فنجان بلده، تقول:
الوطن جرح اتسع
لتطلَ منه شموس آفلات
ودخان قطارات تقبَل وجه الشمال
تنفث في عويلها الحقائب
وتسحق سكَة الأحلام
تبوح القصيدة بجراح اليأس:
أريد وطنا وعيدا،
وحين يتعذر عليها ذلك، تصرخ:
أحتاج لبكاء طويل كرفرفة طير حزين
أمام شباك لا يعانقه الصبح إلاَ جريحا
(قصيدة ملتمس غفران)
وحين تشعر بالوحدة والمنفي تحفر الصخر بأظافرها وتصر على تحقيق تلك الأمنية المستحيلة التي تشبه حلما توارت أطيافه خلف الجفون، إنها جدلية الذاكرة الشعرية والواقع، حيث يحضر النفس التراجيدي الذي لا يمكن للنظرة الجمالية للشعر أن تختزله في صياغة بيانية مفتعلة. إن الشاعرة نفسها ترفض هذا المعنى في الشعر"أرفض نظرية الجمال من أجل الجمالي".
أريد نشيدا يسري في سماوات دون أقفال
وحقولا من تباريح المقاتلين على جبهة الريح
ورغيفا لم تبلَه دموع الجوع
شعراء النزعة الفنية المغرقين في الجماليات وتمجيد المعالم الطبيعية وأحاسيس الإنسان الحميمية يكتبون شعرا جماليا ينبض بالعشق الباذخ الملون بألوان الطيف، كأنهم لا يرون جائعا في العالم يأكل "رغيفا مبللا بالدموع". إن الشعر الذي لا يعانق آلام التعساء ويتجاوزها بصيغة احتوائها في عالم المثل يتعالى على الواقع ويحلق بعيدا في سماء "البعد الإنساني". ما جدوى المعلقات وديوان العرب لولا أنه تراث وتاريخ أمام ما قال أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
لا بد له أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر.
فما الذي يجعلنا قريبين من المتنبي هذه الأيام؟ فمن بين كل قصائده وحكمه لا نرى أثرا لذلك في واقعنا المعاش لولا بيته الشهير:
أ غاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.
أعترف بأن قراءاتي للشاعرة المجيدة فوزية العبدولاي تكون غالبا بنفس واحد، أرى أنني حيالها مدعو إلى منفى اللوعة بين مطرقة الوجد وسنديان الرغبة، أركض مستقيما ولا أقف إلا عند النقطة الأخيرة..اعترف أيضا بأنني لا أقرأ شعرا لا يحركني ويقربني من حالي، وبالتالي لا أضيع وقتا في كلام لا أجد فيه نفسي.
تجربة الشاعرة غنية وثرية ومتعددة الأنفاس، أضعها بحق في صف شاعرات عربيات معاصرات من العيار الثقيل، منهن ظبية خميس ورشا هلال وأخريات...لذا فالمناوشة العابرة لا تليق بقامة شعرية مثل فوزية العبدلاوي، ولكن للنقد أن يقف وقفة رجل حقيقي ويقول كلمته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.