الأقمار الصناعية تكشف تفاصيل جديدة عن البنية المعدنية الخفية في الأطلس الصغير    صندوق النقد الدولي يدعو المغرب إلى تسريع الإصلاحات الهيكلية دون المساس بشبكات الحماية الاجتماعية. ..أوصى بضرورة تعزيز المنافسة ورفع الإنتاجية والاستثمار في الرأسمال البشري    من واد غيس إلى الجماعات الهشة : عبد الحق أمغار يضع فلاحة الحسيمة تحت مجهر المساءلة البرلمانية    وسط قيود على المساعدات الإنسانية .. الأمطار تغرق خيام النازحين في غزة    المنتخب الجزائري يحسم المواجهة أمام منتخب بوركينا فاسو ويتأهل إلى ثمن النهائي    أخبار الساحة    السودان تحقق فوزا مهما على غينيا الاستوائية في كأس إفريقيا    جبال خنيفرة تلبس "الرداء الأبيض"    بوصوف: المخطوطات "رأسمال سيادي"    المهدي النائر.. ريشة تحيي الجدران وتحول الأسطح إلى لوحات تنبض بالجمال    عبد الكبير الركاكنة يتوج بجائزة النجم المغربي 2025    السينما والأدب: الخصوصية.. والحوار الممكن    أمن العروي يطيح بسائق سيارة أجرة وبحوزته قرابة 5000 قرص طبي مهرب    ميناء طنجة المتوسط يخطط لتوسعة كبرى لمحطة المسافرين استعدادًا لمونديال 2030    فيضانات تجتاح جنوب إسبانيا بعد تساقطات ليلية كثيفة    تأخر الإشهاد ونقص السيولة يرجئان صرف منحة "الريادة" إلى مطلع 2026    مدرب زامبيا: مواجهة المغرب صعبة ونشعر هنا أننا في أوروبا    نشرة إنذارية.. زخات رعدية محليا قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح أحيانا قوية يومي الأحد والاثنين    منعطف قضائي بشأن شرعية رسوم تسجيل الطلبة الموظفين    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    الركراكي يؤكد مشاركة حكيمي ضد زامبيا    سلطات آسفي تدقق في لوائح المتضررين من الفيضانات لتفادي الإقصاء    حكيمي: "جميع اللاعبين يشعرون بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم.."    الناخب الوطني: دياز بلغ "النضج الذهني"    مداخيل المغرب من صادرات الأفوكادو تتجاوز 300 مليون دولار خلال موسم واحد    بنسليمان.. انتخاب أحمد بلفاطمي كاتبا إقليميا لاتحاد المقاولات والمهن بإجماع المهنيين    تحسن نسبي مرتقب في الأحوال الجوية بالمغرب بعد أيام من الاضطراب الجوي        بعد خمس سنوات من التطبيع.. تقرير يكشف تغلغل إسرائيل في المغرب من الفلاحة إلى الأمن والتعليم والطاقة    عاصمة الرباط تنتظرها بطولات أكبر ..    بورما تجري أول انتخابات عامة منذ الانقلاب العسكري عام 2021    روسيا تعلن إسقاط 25 طائرة مُسيّرة    قرار حكومي يوسّع الاستفادة من منحة "مؤسسات الريادة" ويعدّل منظومة التحفيز    مدفوعة ب"كان 2025″ وانتعاش السوقين المحلية والأوروبية.. أكادير تقترب من استقبال 1.5 مليون سائح مع نهاية السنة    الحلم المغاربي حاضر في الرياضة غائب في السياسة    غموض الموقف المغربي والإماراتي يلفّ رفضاً عربياً وإسلامياً واسعاً لاعتراف إسرائيل ب"أرض الصومال"    عواصف عنيفة تحصد أرواحًا في السويد وتغرق دول الشمال في الظلام    "جمعية هيئات المحامين بالمغرب" ترفض مشروع القانون المتعلق بتنظيم المهنة وتدعو إلى جمع عام استثنائي    الصين تفرض حد أقصى إلزامي لاستهلاك الطاقة للسيارات الكهربائية    الخدمة العسكرية .. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة    كأس إفريقيا .. نيجيريا تفوز على تونس و تعبر إلى دور الثمن    أزيد من 2600 مستفيد من قافلة طبية متعددة التخصصات بخنيفرة    مصرع عشريني في اصطدام مروّع بين دراجة نارية وسيارة بطنجة    كُرةٌ تَدُورُ.. وقُلُوبٌ تلهثُ مَعَها    علماء روس يبتكرون مادة مسامية لتسريع شفاء العظام    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    تنديد واسع باعتراف إسرائيل بإقليم انفصالي في الصومال    انطلاق فعاليات مهرجان نسائم التراث في نسخته الثانية بالحسيمة    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    من جلد الحيوان إلى قميص الفريق: كرة القدم بوصفها طوطمية ناعمة    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    الحق في المعلومة حق في القدسية!    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التضليل باسم العقل
نشر في هسبريس يوم 15 - 08 - 2011

«أيُّ ملاذٍ قد يُؤْوِي من أهان جَلال العقل؟» ("إسپينوزا")
«ثمة غُلُوَّانِ: إقصاءُ العقل، وعدمُ الإذعان إلا للعقل.» (پاسكال)
يَميلُ "ٱلْمُبطِلُون" (أيْ المُشتغلون ب"ٱلباطل" قَولًا مُرسَلًا بلا قَيْدٍ و/أو فِكْرًا مُلْقًى بلا سَنَدٍ) إلى ٱلإكثار من ٱدِّعاء ٱلِاعتماد على "ٱلعقل". ذلك بأنَّه لا يَخفى أنَّ "ٱلعقلَ" يُمثِّل لا فقط مَناط التّميُّزِ النّوعيِّ للإنسان، بل يُمثِّل أيضًا مَناطَ نوعٍ من التّميُّز ٱلِاجتماعيّ وٱلثّقافيّ. ولهذا، فإنَّ بعض مُحترِفي "خطاب ٱللَّغْوَى" يَحرِصُون دائمًا على الحديث "في موضوع ٱلعقل" و"باسم ٱلعقل" حتّى يَكفُلوا لخطابهم مَشروعيّةً لا تُضاهى في ظنِّهم، تمامًا كما لو كان ذلك يَكفي لجعل خطابهم "مَعقولًا" ولإعطائهم مكانة "أُولِي الألباب"!
لكنْ، يُلاحَظ أنَّ "ٱلمُبطلِين" يَستعملون لفظ "ٱلعقل" إطلاقًا بدون تقييد وتعميمًا بدون تخصيص، إمّا جهلا منهم بواقعه الحقيقيّ (القائم على التّغيُّر والتّفاوُت) وإمّا تدليسًا على عامّة النّاس ممّن يكتفون، في معظم الأحيان، بالِانبهار والتّلويح بما يُعدُّ ٱمتيازًا في مجال ٱجتماعيٍّ مُعيَّن. إِنّك تجدُهم لا يَتحدّثون إلا عن "ٱلْعقل" (مُعرَّفًا ب"ٱلْ")، ويَنْدُر أنْ تسمعَ من أحدهم عبارةَ "هذا العقل" أو "عقلُنا" أو "ٱلعقل في هذه الحدود" أو "ٱلعقل بالنِّسبة إلى شروط إمكانه وٱستعماله".
ولأنّهم لا يكادون يُدركون مدى تصديقهم ذاك - بل "إيمانهم"- ب"ٱلعقل في ذاته"، فإنّهم لا يَتردَّدُون في إتيان "ٱلإثبات" تَحكُّمًا أو تَعاطِي "ٱلنّفي" إنكارًا مُتجاوزين ب"ٱلعقل" نطاقَه البشريّ وجاعلينَه "معيارَ ٱلفصل" فيما لا يُحيطُ به وُجودُهم أو معرفتُهم، خصوصا أنّ منهم من يَذهب إلى حدِّ القول بأنَّ التّجلِّي الحقيقيّ للعقل لا يكون إلا في صورة "ٱلتّشكيك الجِذريّ" الذي يَؤُول، بالضرورة، إلى "ٱلإلحاد" تَعاقُلًا وتَعالُمًا.
ولعلَّ أوّل ما يَجدُر بالمُتأمِّل إدراكُه أنّ ما يُسمَّى "ٱلعقلَ" - في الواقع البشريّ- لا يَستقلُّ بذاته مُطلقًا، لأنّه ليس ب"ذات قائمة بنفسها"، وإنّما هو نِتاجٌ للصيرورة التي تُقِيمُ الإنسانَ ذاتًا، ونِتاجٌ يبقى جُزئيًّا بين جُملة من الإنتاجات التي لا تُعدّ كلُّها "عقليّةً" بالتّحديد (الِانفعالات/الأهواء، المُيول/الرَّغبات، الِانطباعات، التَّوهُّمات، التَّردُّدات، الأخطاء). فهو، بالأحرى، "فِعْلٌ" مُحدَّدٌ بالنّسبة إلى ما هو طبيعيّ وٱجتماعيّ وتاريخيّ في نفس كل ٱمرئ (أو ذهنه)، إنّه جُزءٌ من مجموع "ٱلْأفعال" التي يَطلُب بها كل إنسان شيئًا من "ٱلإدراك" أو "ٱلتّقييم" أو "ٱلفعل" في إطار تحصيل حاجاته الحيويّة ضمن مجتمعه الخاص. فلا يَقُوم "ٱلعقلُ"، إذًا، إلا في مُحيطٍ من "ٱلأهواء" و"ٱلأوهام" المُتناقضة والمُتهارِشة على النّحو الذي يَجعل "ٱلعقلَ" و"ٱللاعقلَ" مُتلازمَيْنِ في ٱلمَعِيش البشريّ تَلازُمًا يُوجِبُ دوامَ "ٱلِاجتهاد" لتَبيُّن الفُروق الدّقيقة التي تُميِّز بين "ٱلمُدرَك ٱلعقليّ" (في وُضوحه ولُزومه) و"ٱلمُدرَك ٱللاعقليّ" (في ٱلتباسه وتَفلُّته).
وعمومًا، فإنَّ أساسَ مفهوم "ٱلعقل" يُمكن ردُّه إلى معنى "ٱلجَمْع/ٱلرَّبْط" بين الأشياء (أو الظواهر) بشكل يُؤدِّي، من جهة، إلى نوع من "ٱلإدراك/ٱلفَهْم" الذي يُمسِكُ ب"ٱلعلاقات" أو يُحدِّد "ٱلنِّسَب" القائمة بينها و، من جهة أخرى، إلى تَعاطي "ٱلحُكْم/ٱلضَّبْط" بشأنها تمييزًا وترتيبًا وتقديرًا. و"ٱلعقل"، بهذا التّحديد، يَتمثَّل في مُمارَسة "ٱلتّفكير ٱلِاستدلاليّ" تَعليلًا وتشريعًا وترشيدًا، وليس فقط في "ٱلفحص النقديّ" تَبيُّنًا وتمحيصًا.
غير أنّه لا شيء من ذلك يَتِمّ إلا في حُدود ما تَسمحُ به الشروطُ التي تَحكُم وجودَ وفعلَ الإنسان ضمن هذا العالَم على نحو طبيعيّ وتاريخيّ وٱجتماعيّ. ومن هنا، فإنَّ "ٱلعقل" ليس "فاعليّةً" مُتعالِيَةً ومُطلقةً، وإنّما هو "نشاطٌ تَفاعُليٌّ" تَحكُمه مجموعةٌ من الشروط التي تَجعلُه مُحدَّدًا بالنِّسبة إلى مجموع أسباب المُمارَسة النّظريّة والعمليّة المُتعلِّقة بمختلف مجالات الحياة والنّشاط البشريَّيْن.
ولأنّ "ٱلعقلَ" لا يَستقلُّ بذاته كجوهر (واحد وثابت)، فإنّه لا يُمكنُ أنْ يُؤسِّس نفسه بنفسه (إلا دَوْرًا فاسدًا أو تَسلْسُلًا مُحالًا في طلب "ٱلمبادئ" و"ٱلمعايير" الأُولى)، بل يحتاج إلى غيره ممّا يُوجَدُ خارجه لكيْ يَتأسَّس عليه. ومن العجيب أنّ الذين يَأخُذهم الزَّهوُ في مُتابَعة تصور "ديكارت" للعقل يَغفُلون عن كونه لم يَجعل أساس اليقين قائمًا في "ٱلعقل" باعتباره مُستقلا بنفسه، وإنّما صَرَّح بأنّ "ٱللّه" هو وحده "ٱلضامن" لليقين الذي يُميِّز المُدركَات العقليّة في تَطابُقها مع موضوعاتها (ومن هذه المُدركات اليقينيّة إدراك النّفس لذاتها بحسب ما فُطِرَتْ عليه وكما يتجلّى في مثال "الكُوجيتو").
ولذلك، فإنَّ "ٱلعقلَ" - بما هو قُدرةٌ ذهنيّةٌ ونفسيّةٌ مُعطاةٌ مبدئيًّا إلى كل النّاس- لا يَقُوم فعليًّا إلا بالنِّسبة إلى مجموع الشروط الِاجتماعيّة والتّاريخيّة والثقافيّة التي تَحكُم وجودَ وفعلَ الإنسان ضمن هذا العالَم. ولذا، فإنَّ "ٱلعقل" كسلطة حاكِمة وفاعِلة (أيْ ك"عقل عُموميّ") لا يَتأسَّس إلا تَداوليًّا في حُدود ما تَسمح به شُروط ٱلِاستعمال القائمة في مجالٍ مُعيَّن كشُروط تُحقِّق، في آنٍ واحد، الإيمانَ بأهميّة "ٱلعقل" وبقُدرته ككيفيّة نَظريّة و/أو عمليّة.
ومن ثَمّ، فإنَّ "حُدودَ ٱلعقل" لم تَعُدْ مسألةً ظنيّةً يُمكن للمرء أنْ يَتردَّدَ في قَبُولها مُستهينًا بها أو مُستعظِمًا لها. إِذْ أنَّ مُكتسبات البحث العلميّ والفلسفيّ المعاصر صارت تَسمحُ بتَبيُّن أهمّ الكيفيّات التي تُثبت مَحدوديّة "ٱلعقل" ليس فقط بِناءً على ٱزدياد المعرفة بتَناهي الوُجود والفعل البشريَّيْن، بل أيضًا بسبب ثُبوت لاتناهي المعرفة بما ليس بشريًّا على مستوى الوُجود والفعل كليهما. ونجد، بهذا الصدد، أنّ حُدودَ "ٱلعقل" باتَتْ ثابتةً علميًّا (مُبرهَنة "غُودل" وفيزياء "ٱلكوانتا") وفلسفيًّا (ٱمتناع التّأسيس المُتعالِي، التّجذُّر التّاريخيّ وٱلِاجتماعيّ للعقل الوَسِيلِيّ، التّلازُم الضروريّ بين "ٱلمعقول" و"ٱللامعقول").
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنَّ مُلاحَقة الفكر للمُمكنات (كلانهائيّة من الوُجوه ٱلِاحتماليّة) يُقوِّي إحساسنا بأنَّ "ٱلعقلَ" قُدرةٌ تُخرجنا من "ٱلمحدوديّة" وتَجعلُنا ننفتح على "ٱللاتناهي"، بل تَقُودنا إلى تكسير قُيود "ٱلحتميّة" وتُهيِّئ لنا، من ثَمّ، سُبل ٱلِانطلاق نحو أبواب "ٱلحُريّة" المُشْرَعة على المستقبل ٱجتهادًا وٱبتكارًا. لكنْ ينبغي عدم ٱلِاستسلام للخلط الشائع بين إغراءات "ٱلإمكان" وصعوبات "ٱلتّحقُّق"، لأنَّ تَصوُّرَ "ٱلعقل" كلانهائيّة من المُمكنات لا يُعطينا تَمامَ القُدرة الفعليّة على تنزيلها واقعيًّا إلا بقدر ما نتفانى في التّعامُل مع الشُّروط القائمة توسيعًا لحُدودها وتكثيرًا لمَنافِذها، مِمّا يَقتضي أنَّ لانهائيّةَ المُمكنات ليست من بناء "ٱلعقل" عينه، وإنّما هي عَطاءٌ مُتعالٍ يُؤكِّد أنَّ كل شيءٍ فيه إنّما هو تَجَلٍّ يَتجاوز حدود ما هو بشريّ.
وإذا كان الإقرارُ بمحدوديّةِ "ٱلعقل" ونسبيّته يُعدُّ أدَلَّ على الوفاء له بما هو كَسْبٌ بشريّ (يقول "پاسكال": «لا شيءَ أشدُّ مُوافَقةً للعقل من هذا الجُحود للعقل.»)، فإنّه ليس تَهوينًا من شأنه أو تَخليًّا عنه لصالح ضدٍّ من أضداده ("ٱلهوى ٱلغريزيّ" أو "الإيمان الأعمى") كما يَزعُم المُبْطِلُون، وإنّما هو إقرارٌ بواقع "ٱلوَضْع البشريّ" تَواضُعًا لا ٱتِّضاعًا، وهو التّواضُع الذي من شأنه أنْ يَجعلَ معرفةَ الحُدود شرطًا في تفعيلها عقليًّا ك"إمكانات" و"أسباب". ولأنَّ "أهل الغِرّة" يَنْسون أنَّ ٱلتّواضُعَ أصلٌ في الرِّفعة والشّرف عند الحُكماء، فإنّهم يَأْبَون بجُحودهم إلا أنْ يَزيدوا تأكيدًا لتَوجُّههم التّضليليّ في تَناوُل "ٱلعقل"، فتَراهُم يُصرُّون على ربط "ٱلتّنوير" برفض "ٱلإيمان" وجعل "ٱلتّحرير" ٱنفكاكًا عن "ٱلدِّين" كأنَّ أخذَهم ب"ٱلعقل" يَقُوم بدون إيمانٍ، ولا يترتب عليه إلزامٌ أو ٱلتزامٌ، بل كأنَّ في "ٱلإلحاد" مُنتهَى ٱلِاكتفاء وٱلِاكتمال.
إنّ الدرس الكنطيّ، الذي ظلَّ كثيرون عاجزين عن ٱستيعابه، لا يَكمُن في مجرد ٱلِاعتراف بامتناع "ٱلبرهنة العقليّة" على ٱللّه، وإنّما أيضا في ٱمتناع البرهنة على العكس (لأنَّ "ٱلعقلَ" نفسَه الذي يَعْجِزُ عن القيام بالأمر الأول لن يَستطيعَ القيام بالأمر الآخَر!)، بل يتمثل - أبعد من ذلك- في كون هذا ٱلِامتناع يَفسَحُ آفاق "ٱلإيمان" بالفعل نفسه الذي يُعيِّن به حدود "ٱلعقل" فيَحصُرُه في تَعرُّف "ٱلظّواهر" دون "ٱلبَواطِن". ولهذا، فإنّ حُجّة "راسل" - القاضية بأنّ ٱللّه، سبحانه وتعالى، كان أوّل من خرق "ٱلعقل" حينما ٱمتنع عن إعطاء بُرهانٍ على نفسه- ليست في العمق سوى شَيْطنة خادعة، من حيث إنّه لو أُعطي البُرهان القاطع على وجود ٱللّه لكان خرقٌ في "الحكمة الإلاهيّة" ولَٱنْتفت بالمرّة حُريّة الإنسان لكونه لن يستطيع بعد ذلك أنْ يَلتمس عُذرًا يُبرِّر له عمله من دون ٱعتبار الأمر الإلاهيّ النّازل عليه بسُلطان "ٱلعقل" نفسه، بل إنَّ حياة الإنسان بكاملها لا معنى لها إلا على أساس كونها سعيًا مُجِدًّا في طلب "ٱلدّليل" ٱجتهادًا نظريًّا وعمليًّا على نحو لا يَنفكُّ عن مُكابَدة مكر "دليل ٱلأدلّة" الذي له ٱلحقّ وحده في أنْ يَقضيَ "دَالًّا/هادِيًا" فلا يَصِحّ، بالتّالي، أنْ يُقضى بشأنه "مَدلولًا" موضوعًا بين أيدي (أو مَدارِك) بعض خَلْقه. وبهذا، نَتفهّمُ مغزى قول "كنط" «كان عليَّ أنْ أَحُدَّ من العِلْم لأستبدل به الإيمانَ.»!
ومن أجل ذلك، صار من الأجدر أنْ يُعترَض على ٱلتّوجُّه الإلحاديّ المُتعاقِل من عدّة نَواحٍ: ناحية وُجوديّة، وناحية معرفيّة، وناحية ٱجتماعيّة-تاريخيّة، وناحية أخلاقيّة. فمن النّاحية الوُجوديّة، يَمتنعُ على الإنسان - بفعل تَناهيه في الزمان والمكان- أن يَبُتَّ في وجود أو عدم وجود "ٱللّه" (غير المُتناهِي أصلا)، إذْ لا أحدَ من البشر يَستطيع أنْ يُوجدَ خارج هذا "ٱلكون ٱلمفتوح" على النّحو الذي يُخوِّلُه أنْ يَتفحَّصه من كل الزوايا والنُّقط ليرى ما يُوجد فيه وما لا يوجد من كائنات. ومن النّاحية المعرفيّة، يَمتنعُ على الإنسان أنْ يَبُتَّ علميًّا في وُجود "ٱلله" أو عدم وجوده، لأنّ معرفته - حتّى بخصوص هذا "ٱلعالَم ٱلمشهود"- تبقى دائمًا مشروطةً، ولا سبيل أمامه ليَجعلَها معرفةً مُطلقةً كعلمٍ كليٍّ ونهائيٍّ («[...]، وما أُوتيتم من العِلْم إلا قليلا.» [الإسراء: 85] ؛ «[...]، ولا يُحيطون بشيء من علمه، إلا بما شاء [...]» [البقرة: 255]). أمّا من النّاحية الِاجتماعيّة-التّاريخيّة، فإنّ ٱستحالةَ وجود الإنسان خارج الشروط الِاجتماعيّة والتّاريخيّة يَقتضي ألا تكون ٱعتقاداتُه قابلةً للتّعليل إلا بالنِّسبة إلى تلك الشروط، مما يَترتَّب عليه أنّ القول بعدم وجود "ٱللّه" ليس حُكمًا قَبْليًّا خالِصًا يُصدرُه عقلٌ لا تَعلُّق له بالتّجربة في تحدُّدها ٱلِاجتماعيّ-ٱلتّاريخيّ، وإنّما هو حُكْم ٱعتقاديٌّ صريحٌ مُعلَّل بَعْديًّا بالنِّسبة إلى مجموع الظروف التي تُحيط بالمرء كعُضوٍ في مجتمع وثقافة مُعيَّنين. وأمّا من النّاحية الأخلاقيّة، فلو ٱمتنع وجودُ "ٱللّه" ("الدّيَّان") ووُجود حياة بعد الموت ("يوم ٱلدين" و"ٱلآخرة")، لصار طلب "ٱلحقيقة" وٱلتزام "ٱلفضيلة" عَبَثِيًّا ونَفْعيًّا تماما لِاستحالة تطبيع "ٱلأخلاق" (أيْ جعل ٱلِالتزام الأخلاقيّ طبيعيًّا وليس ثقافيًّا)، ولجاز - بالتّالي- التّخلُّص من "أخلاق ٱلعِلْم" (آداب البحث والحوار) و"أخلاق ٱلعمل" (آداب السُّلُوك والمُعامَلة) بقدر ما يُمكن تحقيق المصلحة من دون وقوع تحت طائلة الجَزاء السَّلْبيّ: إِذْ ما الذي يُمكن أنْ يُلزِمَ "ٱلْمُلحد" خارج مبدأ "ضرورة الصراع لبقاء الأقوى"؟ إنّه لا شيء، ٱللّهُمّ إلا ما يُفرَض عليه ٱجتماعيًّا وثقافيًّا بحكم ٱضطراره للتّعايُش مع أمثاله، بحيث يَتعيَّنُ "ٱلعقلُ" فقط ك"عَقْل وَسيلِيٍّ" مُحدَّدٍ في علاقته ب"غاياتٍ عمليّة" مُتغيِّرة دَوْمًا. لكنّ المُفارَقة، كما أكّد "پاسكال"، هي أنّه «تبعًا للعقل وحده، لا شيء عادِلٌ بذاته، بل كل شيء يَهتزُّ بمرور الزمن.»!
ولأنَّ الأمرَ يَؤُول، هكذا، إلى أنَّ "ٱلتّعقُّل/ٱلتّعقيل" لا يُمكنُ إلَّا أنْ يَخضعَ لنوعٍ مُعيَّنٍ من أنواع "ٱلتّوجيه ٱلعمليّ" الذي يَشتغل كآلية ل"ٱلتّأسيس" التّداوليّ و"ٱلتّشريع" الأخلاقيّ، فإنّ التّوجُّهَ "ٱلإلحاديَّ" لا يَتفرَّدُ لا بأسانيد "ٱلصَّواب" ولا بأسباب "ٱلصّلاح"، بل إنّه بالأحرى مُطالَبٌ بمُغالَبة ٱلتّوجُّه "ٱلإيمانيّ"، في هذا المستوى، مُغالَبةً مَدنيّةً في بَذْل "ٱلجُهد ٱلعُمرانيّ" الكفيل بتحقيق "ٱلحياة ٱلطَّيِّبة" عاجلا و/أو آجلا.
وهكذا، فإنَّ "ٱلإلحاد" - بما هو تَعاقُلٌ يَتعدّى الحُدود البشريّة- لا يَعودُ موقفًا يقع خارج كل ٱعتقاد، بل إنّه بالأحرى موقفٌ ٱعتقاديٌّ مُتنكِّر أو مُتفلِّت، من حيث إنّ أصحابه لا يَملِكُون أنْ يَتوقَّفوا نهائيًّا عن الحُكْم تواضُعًا وٱتِّضاعًا، ولا أنْ يُعلِّلوا تَعاطيَهم للحُكْم خارج المُغالَبة في ٱلِاجتهاد العقليّ ك"ٱستدلال" قد يَتكافأ مع ٱستدلالات غيرهم (لِتَكافُؤ العُقلاء) أو يَنْزِلُ دونها بدرجة أو أكثر (لعدم تَكافُؤ ٱستعمالات "ٱلعقل" باستمرار حسب تَغيُّر شروط البحث والتّباحُث).
إنَّ تَوْضِيعَ سيرورة "ٱلتّعقُّل/ٱلتّعقيل" لا يُؤدِّي بالضرورة إلى تبنِّي نزعةٍ نسبيّة مُتطرِّفة (يَحسُن أنْ تُسمّى "نِسبيّانيّة" لوُقوفها في حدود "ما هو نسبيّ") قد تقول باستحالة "ٱلحقيقة" أو بامتناع "ٱلفضيلة"، وإنّما ينبغي أنْ يُنظَر إليه كعمل على فتح سُبُل "ٱلمعقوليّة" في حُدود وضع الإنسان في هذا العالَم باعتبار هذه الحدود هي عينها شرط إمكان الفاعليّة البشريّة تكليفًا وترشيدًا. ولهذا، فإنّه تَبيُّنٌ في شروط إمكان "ٱلمعرفة الموضوعيّة" فيما وراء "ٱلموضوعانيّة" المُتعالِمة و"الذاتيّانيّة" الحالِمة على النّحو الذي يُمكِّن للفعل البشريّ كفعل مسؤول أخلاقيًّا وسياسيًّا، ومُتحرِّر فكريًّا ومعرفيًّا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.