سباق متهور بين سيارتين ينتهي بحادثة مأساوية على الطريق السيار    فرنسا: توقيف متهمين آخرين في اختطاف المعارض الجزائري "أمير ديزاد"    أشادت بالرؤية الملكية من أجل إفريقيا .. بوروندي تجدد تأكيد دعمها للوحدة الترابية للمغرب ولسيادة المملكة على صحرائها    الشعب المغربي يحتفل بالذكرى ال69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    واشنطن والرياض تُعلنان عن أكبر صفقة أسلحة في التاريخ    ترامب يعلن رفع العقوبات عن سوريا    الركراكي: حكيمي قائد حقيقي ومرشح للكرة الذهبية    بورصة البيضاء تنهي التداول بالأخضر    هشام بلاوي الوكيل العام الجديد للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة    ‮«‬الأسد ‬الإفريقي ‬2025‮»‬: ‬أكبر ‬مناورة ‬عسكرية ‬في ‬القارة ‬تنطلق ‬من ‬المغرب ‬بمشاركة ‬أمريكية ‬ودولية ‬واسعة    الطالبي يجري مباحثات مع عضو الأمانة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ووزير دائرة الإعلام في لجنة الحزب    جلالة الملك يستقبل ثلاثة أعضاء جدد بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية    محمد وهبي يؤكد أن شبان المغرب قادرون على تحقيق أشياء عظيمة    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة محليا بتساقط للبرد بعدد من مناطق المملكة    قطرات مطرية متفرقة مرتقبة بطنجة وجهة الشمال يوم الأربعاء    حريق بشقة سكنية في حي بن كيران بطنجة يخلّف خسائر مادية    الاستقلال يدعو لفتيت إلى تسريع مراجعة القوانين الانتخابية استعدادًا للاستحقاقات المقبلة    عملية بحرية محكمة تُفشل مخطط تهريب دولي للمخدرات بالسواحل المغربية    الصين تراهن على المغرب كمركز صناعي استراتيجي نحو أوروبا وإفريقيا    وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية: الأوضاع الأمنية في العاصمة الليبية "تحت السيطرة"    فشل الجزائر الذريع في جرّ مصر إلى فخ بوليساريو؟    احباط تهريب 58 كيلوغرام من الحشيش بحيلة غريبة    حكم جديد.. 3 ملايين ونصف تعويضاً لسيدة عضها كلب    أزمة دواء اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في المغرب.. يفاقم معاناة الأسر في صمت    جبايات الجماعات.. البرلمان يصادق على إسناد تحصيل رسم السكن والخدمات لإدارة الضرائب وتعديل ضريبة الأراضي غير المبنية    الصين تعزز شراكتها مع أمريكا اللاتينية بخمس مبادرات تنموية وإنسانية جديدة    صافرة رومانية تضبط نهائي دوري أبطال أوروبا    دراسة من هارفارد: شرب الماء الكافي يعزز التركيز الذهني ويقلل التعب والإرهاق    في برنامج "مدارات" : لقاء مع الباحث الأستاذ أحمد متفكر ، وحديث حول سيرة محمد ابن الموقت المراكشي    اللجنة الوطنية الأولمبية المغربية.. انتخاب سفيان البقالي رئيسا للجنة الرياضيين    صيادو الحسيمة في مواجهة خطر التراجع البيئي والاقتصادي    مراكش ومدن مغربية أخرى تحتفي بموسيقى موزارت لتوحيد المواهب المتوسطية    رسوم بذيئة تعبث بموقع "تشان تشان" التاريخي في البيرو    مجموعة OCP توقع اتفاقيتَي تمويل    غزة تحاصر كان.. 380 فنانًا يتهمون إسرائيل بالإبادة    الرباط تحتضن أول مهرجان لفن الراب "212'FlowFest"    لتضيء نضالات الأمس دروب الغد    مشكلة الوعي الزائف وشروط امكان الوعي الحقيقي    المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل    الوكالة الفرنسية للتنمية تعتزم استثمار 150 مليون يورو في الصحراء    شرطة ألمانيا تفكك "شبكة متطرفة"    المغرب الفاسي يثق في منتوج النادي    الأغذية فائقة المعالجة تهدد بأعراض "باركنسون" المبكرة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    النفط يهبط بفعل مخاوف من زيادة المعروض وحذر حيال اتفاق أمريكا والصين    الهيئة المغربية لسوق الرساميل تؤشر على المنشور المتعلق ببيع أسهم "رونو"    برشلونة على أعتاب لقب "الليغا" وريال مدريد يودّع أنشيلوتي    بكين وواشنطن تتفقان على آلية حوار اقتصادي لتفادي التصعيد    حكيمي يعزز استثماراته الرياضية بشراء نادي إسباني    بطولة اسبانيا: ريال مدريد يفتقد لجهود فينيسيوس وفاسكيس للاصابة    تركيا.. أزيد من 64 مليون مسافر عبروا مطارات البلاد خلال الأشهر الأربعة الأولى من 2025    مندوبية السجون توضح بخصوص زيارة الزفزافي لوالده    ماذا نعرف عن أسباب وأعراض متلازمة مخرج الصدر؟    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فِي ضِيَافَةِ خَيْرِ جَلِيسٍ في الزَّمَان!
نشر في هسبريس يوم 12 - 02 - 2018


الكِتَاب.. حكايَاتُه، تاريخُه، مِحَنُه، وطرَائِفُه
على هامش مَعْرِض الدَّار البَّيْضَاء الدّوليِ للنَّشر واِلْكِتَاب الذي افتتح يوم الخميس 8 فبراير الجاري في دورته ال 24، أدعو القارئ الكريم إلى جولة في عالم الكِتَابة، والكِتاب، هذا الجليس، الأنيس، المعلّم، الوفيّ، الصّامت، الناطق، الصّادق الذي رافق الإنسانَ منذ أقدم العهود، وما زال يلازمه، ويصاحبه ويؤنسه إلى يومنا هذا، حتّى في زخم عصر التطوّر التقني (التكنولوجي) الهائل، وفي دنيا الإعلاميات والاتصالات، وما تطلع به علينا كلّ يوم من اختراعات متطوّرة واستنباطات محيّرة في عالم الحواسيب والعقول الإلكترونية والشابكة (الإنترنيت) وشبكاته العنكبوتية المتشعبة واستعمالاته المُذهلة من ذاكرة حاسوب، وكتبه الإلكترونية، وفيسبوك، والرّائي أو المشواف (التلفاز)، وسواه من الجديد المتواتر الذي ما انفكّ يفاجئنا به هذا العصر جيب، مع ذلك ما زال الكتاب موجوداً، ومحبوباً، ومطلوباً، وحاضراً بقوّة بيننا، بل إنه ما فتئ يحتلّ مكانَ الصّدارة بين ظهرانينا وَرَقيّاً وإلكترونيّاً على حدٍّ سواء.
الكتاب... أيّ سرّ أو سحر يكمن بين دفّتي هذا الخلّ الوفيّ، والصّديق الأمين، والجليس الأنيس، والسّاهر السّامر؟ ما أصله؟ ما قصّته وتاريخه وتطوّره؟ ما هي معاناته؟ ما هي المخاطر التي تحدّق به والتهديدات التي تلازمه وتلاحقه؟ وما نوعيّة الجرائم والفظائع التي ارتكبت وما زالت تُرتكب في حقّه؟ ما هي مآسيه ومِحنه واغترابه واستلابه؟ ماهي أخباره، وحكاياته، وطرائفه، ومكانته عند الناس والخلفاء والأدباء والشّعراء؟ كان أحمد شوقي يقول: (أنا من بدّل بالكتب الصّحابا ** لم أجد لي وفيّا إلاّ الكتابا)، ويقول المتنبّي في بيته المشهور: (أعزُّ مكانٍ في الدّنى سرجُ سابحٍ ** وخيرُ جليسٍ في الزّمان كتاب).
القرطاسُ والقلمُ
بدأت الكتابة في العهود الغابرة من الأزمان في شكل صُورٍ تدلّ على معاني ومدلولات ملموسة في الحياة اليومية للإنسان القديم، وقد تمّ العثور على الكثير من النقوش والصّور والرموز التي تدلّ على معاني ومفاهيم معيّنة في منطقة الهلال الخصيب، خاصّة في الحضارة السومرية قبل حوالي ستّة آلاف سنة، وقد عرفت الكتابة عندهم بالمسمارية أو الإسفينية، كما تمّ العثور في مناطق أخرى من العالم على بعض الرّسوم والصّور مثل تلك التي عثر عليها في كهوف "ألتاميرا "في إسبانيا، و"لاسكو" في فرنسا، أو رسوم "ناسكا "في البيرو عند شعوب الأنكا والموشيك وسواها من المناطق الأخرى من العالم.
وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري جاء الفينيقيون وابتكروا الكتابة مستعينين بالسومرية والمصرية القديمة، ثم جاء الإغريق وطوّروا أبجديتهم نقلاً عن الفينيقيين، ثم أصبحت عندهم أبجدية خاصّة بهم أصبحت فيما بعد الأبجدية الخاصّة بالغرب، ثم جاء الرّومان وأخذوا الأبجدية الإغريقية، وقد سادت اللغة الرومانية واللاّتينية في مختلف الأصقاع الأوروبية بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على بلاد الغرب.
وجاءت الكتابة العربية متأخرة؛ "إذ يعود تاريخ ظهورها إلى حوالي 600 ق م، من التاريخ، والأبجدية العربية مشتقة من الكتابة السّامية، جاءت من رحم اللغة الآرامية السّريانية بنت الكنعانية وربيبتها"، وبدأت الكتابة العربية تنتشر في الأصقاع بعد أن قرّر الخلفاء الراشدون تدوين القرآن الكريم على عهد الخليفة عثمان بن عفّان، ثم انتشرت الكتابة العربية انتشاراً واسعاً مع انتشار الدين الإسلامي الحنيف.
والابجدية العربية مشتقة من الكتابة السامية التي اشتقت بدورها من الأبجدية الفينيقية التي وصلت العرب عن طريق الأنباط الذين تأثّروا بحضارة الآراميين وطريقة الكتابة عندهم.
وفي القرن الثامن للميلاد شرع العرب في استخدام الورق الذي ابتكره الصينيّون بدلاً من الرقّ أو الجلود. بعد ذلك أسّس العرب مصانعَ للورق، وعنهم أخذته البلدان الأوروبية في القرن الثاني عشر. وقد أنشئ أوّل مصنع للورق في إنجلترّا في القرن الخامس عشر.
وفي عام 1436 إخترع "غوتينبرغ" الطباعة، فكان ذلك الاختراع قفزة عظيمة، وفتحاً مبيناً في تاريخ الكتابة ثمّ الكتاب الذي تمّ نقله من طور القرطاس والقلم، والمخطوط الغميس، إلى المكتوب أو المطبوع الصقيل.
يؤكد الباحث في التاريخ القديم إلياس غندور أيوب عطا الله في كتابه "الكون والإنسان بين التطوّر والعلم والتاريخ" أن "الكتابة الأبجدية الكنعانية (الكنعانيون وهم من زمن 4000 ق م) ابتكرها تاووتس الكنعاني ابن ميسور، أو ميزور، ابن اميتس ابن كنعان ابن حام، بحوالي 500 سنة قبل أن يولد الفينيقيون في التاريخ، علماً أن الفينيقيين هم أحفاد الكنعانيين، وأنّ قدموس الكنعاني شقيق فينيقس وكيليكس وأوروبا، جميعهم أولاد أجينور أو أشنار ملك صور اللبنانية في القرن 13 ق م هو الذي حمل الأبجدية الكنعانية، وليس الفينيقية، إلى بلاد الإغريق حوالي 1250 ق م. وحديثاً عثر علماء اليونان/الإغريق على عملات معدنية من العصر الكنعاني عليها صورة قدموس يعلّم الناسَ هناك الكتابة الكنعانية".
ويرى الأستاذ غندور أن "اللغة اللّاتينية التي اشتقت منها معظم اللغات الأوروبية هي بنت اللغة الكنعانية، منها اشتقت، وتحمل ملامحها في جميع صورها ومعانيها. وبعد الكنعانيين طوّر الفينيقيّون الكتابة ببراعتهم مستعينين بالإرث الكنعاني ثم بالسّومرية، والمصرية القديمة".
ويؤكد الباحث في اللغة الأمازيغية الأستاذ محمد حمزة من جهة أخرى أنّ "الدراسات الحديثة أثبتت أن التيفيناغ هو سابق للأبجدية الفينيقية بقرون. وهو من الكتابات القديمة التي يُقال إنها كانت موجودة في وقت الكتابة الأولى التي عرفت في منطقة سومر ببلاد الرافدين"، ويوجد مِن المختصّين مَنْ يؤكد أنّها عاصرت الكتابات المسمارية القديمة، كما تشير عدّة نظريات إلى أن كتابة التيفيناغ هي إنتاج محلي للأمازيغ في شمال إفريقيا.
وترجع بعض الدراسات التيفيناغ إلى الكتابة الليبية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين المدوّنة في الرّسومات الحجرية، حيث جرى تحوّل من الرّسومات التي تجسّد كلَّ شيء إلى ما يُسمى التجريد إلى أشكال هندسية، وهذا ما يؤكد أن الإنسان في شمال إفريقيا انتقل من الرّسم إلى الكتابة، وعلى سبيل المثال انتقل من رسم المرأة إلى الترميز لها من خلال شكل المثلث الموجود في الكتابات والرسوم، وهو نفسه الحرف (ت) أو (T).
بَابُ الرّمْلَة وجرائم الحرائق
تعرّضت الكتبُ والمخطوطاتُ منذ أقدم العصور إلى المتابعة، والمصادرة، والرقابة، والحرق، والإتلاف... فقد كان الكتاب منذ القدم هو الوسيلة التي تنقل بواسطته العلوم والمعارف وأسرار الحروب وخطط الدفاع والهجوم، وفيها كانت تُسجّل الاختراعات وأسرار الدّول والصنائع، والمُخترعات، بل كان الكتاب هو السّلاح الأفتك، والوسيلة المثلى والأنجع للتنوير والتعليم وتثقيف العقول وتهذيب النفوس وتغذية القلوب وملئها بنور الإيمان والهداية. كان أوّل ما نزل من القرآن الكريم (إقرأ)، وفي سورة البقرة يرد اسم الكتاب، كتاب الله فيقول جلّ جلاله: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين).
وكانت كتب المسلمين في الأندلس تثير الرعبَ والهلعَ في قلوب الإسبان المتزمّتين منهم، في حين كان يحتفي ويُعنىَ بها آخرون، فهذا الكاردينال سيسنيروس أمر عام 1501م بحرق مكتبة "مدينة الزّهراء" التي كان بها ما ينيف على 600000 مخطوط في مكان يُسمّى "باب الرّملة" بغرناطة، وهي ساحة كبرى معروفة ما زالت موجودة بها بهذا الاسم العربي القديم نفسه حتى اليوم، يؤمّها السيّاح من مختلف أنحاء العالم، ويشرئبّون بأعناقهم لمشاهدة اللوحة الرّخامية التي كتب عليها هذا الاسم الذي أصبح لصيقاً ومقروناً باسم هذا الكاردينال لكنهم لا يعرفون شيئاً عن فعلته الشنعاء، وجريمته النكراء التي دمّرت واختفت على إثرها العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف حقول العلم، وفروع المعارف بالأندلس، ويقال إن الجنود الذين كلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يخفون بعضَ هذه الكتب أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذهب والفضّة، ولقد ظلّت هذه الحماقة الهوجاء وصمة عار، ونقطة قاتمة في التاريخ الأسود لإسبانيا المُتزمّتة إبّان مَحاكم التفتيش.
التاريخُ يُعيد نفسَه
وقد وصف لنا العديد من شعراء الأندلس بحسرة ما بعدها حسرة في هذا السياق كيف أن الإسبان بعد حروب الاسترداد كانوا يحرقون الكتب والمخطوطات والمصاحف ويلطّخونها على مرأى من المسلمين، وفي ذلك أشعار كثيرة مؤلمة منها هذه الأبيات التي يخبرنا فيها شاعر أندلسي متحسّراً أنّ "سلطان الإسبان وكبيرهم" قد فعل بهم كيت، وكيت من الفظائع والأهوال، إلى أن يقول:
وأحرقَ ما كانت لنا من مَصاحف ** وخلّطها بالزّبلِ أو النجاسةِ
وكلُّ كتابٍ كان في أمرِ ديننا ** ففي النّار ألقوْه بهزءةٍ وحقرةِ
ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلمٍ ** ولا مُصحفاً يُخلىَ به للقراءةِ
وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه في بلدان أمريكا اللاتينية حيث قام الإسبان عند اكتشافهم لها بحرق العديد من المخطوطات والكتب القديمة التي تعود لشعوب المايا، والأزتيك في المكسيك، ولشعوب الإنكا، والموشيك في البيرو، وقد تمّ ذلك أمام أعين أربابها السكّان الأصلييّن في هاذين البلدين وفي سواهما من بلدان أمريكا اللاتينية.
وحرقُ الكتب، أي تدميرها بالنار، يجري في بعض الأحيان لأسبابٍ أخلاقية، أو سياسية، أو دينية، أو انتقامية. وقد يتمّ التخلّص من الكتب سريّاً كما حدث لملايين الكتب التي تمّ إحراقها في الكتلة الشيوعية الشرقية قبل سقوط حائط برلين. ويذكر لنا التاريخ العديد من الأمثلة لهذه الجرائم التي لا تغتفر. فبالإضافة إلى حرق كتب المسلمين في الأندلس، وكتب المايا والإنكا في المكسيك والبيرو، نذكر حرق الكتب على عهد أسرة " تشين" الصينية، وحرق النازيّين لكتب خصومهم في أوروبا. وتعتبر عمليات حرق الكتب جرائم في حقّ العلم، والفكر، والإنسانية، والتاريخ.
مخطوطات عربية بالإسكوريال
ويظنّ الكثيرون أن مكتبة الإسكوريال الشهيرة القريبة من العاصمة الإسبانية مدريد المليئة بالمخطوطات العربية الثمينة هي من مخلفات العرب في إسبانيا، والحقيقة أن محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب لعربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية كتب عربية تستحقّ الذكر.
وفي أيّام السعديين بالمغرب كان المنصور الذهبي مولعاً باقتناء الكتب وجمَع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أوّل ما فكر فيه خزانة كتبه فوضعها في صناديق ووجّهها إلى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها إلى أحد مراسي سوس.
فلمّا وصلت السفينة انتظر رئيسها مدّة أن يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده حتّى استولى على المركب الفرنسي وأخذ الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلاّ الكتب، فكروا، من حسن الحظ أن يقدّموها هدية لملكهم.
ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني، الذي كان منهمكاً في بناء الدير الفخم للقدّيس "لورينثو" بالمحلّ المُسمّى بالإسكوريال أوقفها على هذا الدّير، وهي التي ما تزال إلى اليوم موجودة به، ويقصدها العلماءُ من كلّ الأقطار للاستفادة من ذخائرها ونفائسها الثمينة.
الكتابُ وطرائفُه
كان الكتاب يحظى بعناية خاصّة عند العرب، وكان وما يزال يحظى عندهم باهتمام بالغ، وقد جمع الخلفاء في المشرق والمغرب الآلاف من أمّهات الكتب والمخطوطات، فمدينة قرطبة كانت تحفل بالمكتبات وأروقة العلم وبيوت الحكمة، كانت تزيّن خزانة "الحَكم المستنصر" بها (861-976 م) أزيد من أربعمائة ألف مخطوط، هذا الرجل الذي قال عنه "بول لين" إنّه دودة كتب، وعنه يقول ابن خلدون: "إنه جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله".
كما اعتنى هارون الرشيد في المشرق بجلب العديد من الكتب والمخطوطات من الديّار التي فتحها. وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ببغداد ذروته على عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية خاصّة ووهبه كثيراً من ماله ووقته. وأهمّ ما ميّز بيت الحكمة الخزانة العظمى التي كانت بها، وقد تمّ تدمير العديد من نفائسها على يد المغول عام 1258م.
كان علماء المسلمين يحبّون الكتبَ حبّاً جمّاً، وقد شُغفوا بها شغفاً كبيراً، الجاحظ مات تحت أكوام كتبه، وكانوا يتحمّلون المشاق وعناء السفر لطبع كتبهم أو اقتنائها أو بيعها، وفى الأندلس كان يُقال: إذا أفلس عالم في غرناطة باع كتبه في قرطبة، وإذا أفلس موسيقيّ في قرطبة باع أدواته في غرناطة. وكانت إعارة الكتب شيئاً ممقوتاً عندهم، وكان شاعرهم يقول في ذلك:
ألا يَا مُسْتَعيرَ الكُتْبِ دعْنِي ** فَإنَّ إعَارتي للكُتْبِ عَارُ
ومَحْبُوبي منَ الدنْيَا كِتابٌ ** وهَلْ أبْصَرتَ محبُوباً يُعَارُ؟
وكانوا يقولون إن الكتاب الذي يُعار قد لا يردّ إلى صاحبه، وهم محقّون في ذلك؛ إذ يحكى أن الكاتب الفرنسي "إميل زولا" زاره ذات مرّة أحدُ أصدقائه في بيته، وعندما بدأ الصّديق يطّلع ويتفقّد مكتبة "زولا" الكبيرة، فيأخذ كتاباً يتمعّنه ثم يردّه إلى مكانه في رفوف المكتبة، وفجأة وقع نظرُه على كتابٍ كان يبحث عنه منذ مدّة، فقال لصديقه زولا: هل لك أن تعيرني هذا الكتاب؟ فقال زولا له على الفور: لا، لا أستطيع أن أعيرك إيّاه، فالكتاب الذي يعُار لا يُردّ إلى صاحبه أبداً، والدّليل على ذلك أن مُعظم الكتب التي ترى في هذه المكتبة مُعارة!
وقال أحد الكتّاب الكولومبيين: إنّ الذي يُعير كتاباً اقطعْ له يداً واحدةً، أمّا الذي يردّه إلى صاحبه فاقطع له الاثنتين! وكان جورج برنارد شوّ يتجوّل ذات مرّة بسوق الكتب القديمة بلندن، وفجأةً وقع نظره على كتابٍ له كان قد صدر مؤخراً، وكان قد أهداه لأحد زملائه الأدباء، فباعه هذا الأخير دون أن يفتح أوراقه التي كانت ما تزال لصيقةً ببعضها كما كانت تصدر الكتب في ذلك الوقت، فاشترىَ شوّ الكتابَ، وكتب تحت الإهداء القديم: برنارد شو يجدّد تحيّاته، ثمّ بحث عن صديقه وسلّمه الكتابَ من جديد!
*عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.