وزيرة فرنسية: باريس والرباط تربطهما علاقة "عريقة وعميقة" تخطو بثبات نحو المستقبل    بوريطة يستقبل المبعوث الخاص لرئيس مالاوي حاملا رسالة إلى الملك محمد السادس    ترامب: هناك أنباء جيدة بشأن غزة.. وحماس تؤكد تكثيف الاتصالات مع الوسطاء        الجامعة تعلن عن موعد وملعب نهائي كأس العرش بين نهضة بركان وأولمبيك آسفي    المغرب يستهدف 52% من إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة العام المقبل    فلاحو اشتوكة أيت باها: إيقاف الدعم يهدد باختفاء الطماطم المغربية من الأسواق    أسعار الذهب تستقر مع تراجع الطلب    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    كوريا الجنوبية تسجل أسرع زيادة في أعداد المواليد منذ 34 عاما    النقابة الوطنية للعاملين بالتعليم العالي تجدد تمسكها بالوحدة النقابية وتدعو إلى الإضراب يوم 2 يوليوز    ولد الرشيد يثمن دعم "البرلاسين" للصحراء    مقتل 6 من جنود اسرائيليين في قطاع غزة    الإبادة مستمرة.. إسرائيل تقتل 37 فلسطينيا بغزة بينهم 7 من منتظري المساعدات    إيران تنظم السبت جنازة قادة وعلماء    ميارة يترأس لقاء جهويا حاشدا للاتحاد العام للشغالين بجهة الشرق    "لبؤات الأطلس" يدخلن المرحلة الأخيرة من التحضيرات تأهبا لخوض غمار "كان 2025"    أكاديمية المملكة تنظم تظاهرة دولية    دراسة: تراجع تلقيح الأطفال في العالم يهدد ملايين الأرواح    جدول أعمال دورة يوليوز يكشف إفلاس مجلس جهة سوس ماسة وافتقاده للرؤية التنموية.. وأشنكلي يصدم رؤساء جماعات    كيوسك الأربعاء | تعميم استفادة قطاع التعليم الأولي من الخدمات الاجتماعية    تشغيل أول سفينتين كهربائيتين على الخط البحري طنجة-طريفة بحلول 2027    الجواهري: الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي بسبب تصاعد حالة اللايقين العالمية    مجلس النواب الأميركي يرفض مبادرة لعزل ترامب    طقس حارة في توقعات اليوم الأربعاء    انخفاض معدل القتلى على الطرق السيارة بنسبة 50 في المائة ما بين 2015 و 2024    كأس العالم للأندية 2025.. تعادل بوكا جونيورز الأرجنتيني وأوكلاند سيتي النيوزلندي (1-1)    ترامب يؤكد مجددا أن المواقع النووية في إيران "دمرت بالكامل"    كأس العالم للأندية لكرة القدم.. فلامنجو البرازيلي يتعادل مع لوس أنجلوس الأمريكي (1-1)    مجموعة بريكس تدعو إلى "كسر حلقة العنف" في الشرق الأوسط    ثلاثية تشيلسي تقصي الترجي التونسي    أموال الناظور تمول مدنا أخرى.. أين الأبناك من تنمية المنطقة ودعم الرياضة والثقافة كما أرادها جلالة الملك؟    المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يحتفي بحرف "تيفيناغ" ويرصد التحديات    حكم كندي يدير مباراة الوداد والعين    الرجاء ينال المركز الثالث بكأس التميز    طنجة.. كلب على متن سيارة يعض فتاة والسائق يدهس شابًا أثناء الفرار أمام سيتي مول    طنجة.. حملة أمنية تسفر عن توقيف لصوص ومروّجي مخدرات بالمدينة العتيقة    "ملعب عشوائي" يثير الجدل بالدروة    ميداوي: "النظام الأساسي" لموظفي التعليم العالي يلتزم بالمسار الطبيعي    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    تقنية الهولوغرام تعيد جمهور مهرجان موازين لزمن عبد الحليم حافظ    والي بنك المغرب يدعو الحكومة إلى إنجاح برامج تمويل المقاولات الصغرى    اتفاق أمني مغربي فرنسي جديد يرسم خارطة طريق لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة    بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    لائحة لبؤات الأطلس المشاركة في "كان السيدات 2024"    الصوديوم والملح: توازن ضروري للحفاظ على الصحة    بعد مسيرة فنية حافلة.. الفنانة أمينة بركات في ذمة الله    دراسة تكشف ارتفاع معدلات الإصابة بالتهاب المفاصل حول العالم    الإكثار من تناول الفواكه والخضروات يساعد في تحسين جودة النوم    قبيل حفله بموازين.. راغب علامة في لقاء ودي مع السفير اللبناني ورجال أعمال    في برنامج مدارات بالإذاعةالوطنية : وقفات مع شعراء الزوايا في المغرب    في مهرجان موازين.. هكذا استخفت نانسي عجرم بقميص المنتخب!    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنان الحارثي دمعة في عين الكاتب
نشر في هسبريس يوم 02 - 06 - 2018

كتبت المقالة في أكتوبر 1997، ونشرت في الملحق الثقافي لجريدة لعلم
إرْثُ المَالِ يَفْنى وَإِنْ كَانَ قارونِياً، وَإرِثُ الذِّكْرَى وَالتَّذَكُّرِ يَخْلُدُ لِأَنَّهُ أَسَاسُ الحَضَارَاتِ. إِرْثُ المَالِ قَدْ يَكُونُ مَصَدرًا للتباغُضِ وَالشَّنَآنِ، وَإرِثُ الذِّكْرَى لُحْمَةُ حُبّ الأَهْلِ وَالأَبْنَاء وَالوَطَن.... هذه بَعْضُ أَفْكَارٍ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ فِي خَاطِرِي وَأَنَا أَسِيرُ جِهَةَ "جَنان الحارثي" وَمِعَى طِفْلِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَإِيَّاهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ طَالَمَا وَقََتْنِي حَرَّ الصَّيْفِ فِي أَيَّامِ صِباي، عِنْدَمَا كَانَ أَبْنَاءُ المَيْسُورِينَ يَتْرُكُونَ جُوَّ مَرَّاكِش الحَارِ فِي رِحْلَةٍ إِلَى الشُّطْآنِ، إِلَى البَحْرِ الَّذِي كُنْتُ أَتَصَوِّرُهُ عِنْدَهَا دُكَّانًا كَبِيرًا كَبِيرًا كَبِيرًا يَمْتَلِئُ مَاءً كَثِيرًا كَثِيرًا كَثِيرًا، عِنْدَمَا كُنْتُ أَظُنُّ مِيَاهَ ذاكم البَحْرِ سَمْرَاءَ اللَّوْنِ لِأَنَّ العَائِدين مِنْهُ كَانُوا يَرْجعون وَقَدْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ طِينِيَّةَ اللَّوْنِ.
كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ وَابني عَلَى مَقَاعِدَ خَضْرَاءَ عَرَفْتُهَا مُتَوَاضِعَةً مذ بَدَأْتُ أَحِبُّ الكِتَابَ، لِأَرْبُطَهُ مَعَهَا بِعَلَاقَةِ مَاضٍ كَانَ لي وَأُرِيد أَنْ يَكُونَ لَهُ هُوَ أَيْضًا. وَسَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أَحَدِّثُ طِفْلِي عَنْ قَصْرِيَ الجَمِيلِ الَّذِي بَنَيْتُهُ فِي"جَنَانِ الحارثي" وَقَدْ قَرَأَتُ فِيه أُوَلَ كِتابٍ غَيْرِ مَدْرسِي كُنْتُ اشْتَرَيْتُهُ بِ "عِشْرِينَ رِيَالٍ" (درهم) فِي سَاحَةِ جَامِعِ الفَنَاءِ، وَكَانَ عُنْوَانُه "أَكْلْ عَيْشْ (عَيْشَ = الخَبْزُ بِاللَّهْجَةِ المِصْرِيَّةِ) وَهُوَ مَجْمُوعةُ قَصَصٍ لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ اسْمَ كَاتِبِهَا. سَرَحَ بِي الخَيَالُ وَبَدَأْتُ أحدثه عن قَصْرٍ اِسْتَقْبَلْتُ فِيهُ المَنْفَلُوطي بِنَظَرَاتِهِ وَعَبَرَاتِه، وَتَوْفِيقَ الحَكِيمَ مَعَ حِمَارِهِ وَأَصْحَابِ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وإسلامياته. وَأَحْمَدَ أَمِين فِي فَيْضِ خَاطِرِهِ وَتَوَارِيخِهِ.
وَطَهَ حُسَيْن فِي أَيَّامِهِ وخُصُومَاتِهِ، بَدْءًا مِنْ الشّعْرِ الجَاهِلِي إِلَى أَحَادِيثِ الأَرْبِعَاءِ. وَالأَخْطَلَ الصَّغِيرَ فِي غَزَلياتهِ. وَأَحْمَدَ شَوْقِي فِي شوقياته. وَخَلِيلَ مِطْرَان وَجُبْرَانَ وَسَلَامَة مُوسَى والشابي وَ اِبْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَحْمَدَ الخُلَاصَةَ. وَقُلْتُ لِأَبْنِيَ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَسْمَاءٍ أُخْرَى غَابَتْ عَنْ ذِهْنِي فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، كُلَّهُم حَثُّونِي بِأَلْفِ وَجْهٍ وَوَجْهٍ عَلَى النَّظَرِ والتَّأَمُّلِ فِي آدَابٍ أُخْرَى كَانَتْ سُوقُ التَّرْجَمَةِ حَافِلَةً بِهَا فِي تِلكُمْ الأَيَّامِ. وَقُلْتُ لَهُ إِنَّي هُنَا اِلْتَقَيْتُ بِأَحَدَبَ نُتَرْدَامْ لِﭬﯖتُور هِﯖو، وَفِي هَذَا المَكَانِ عِشْتُ "الحَرْبَ وَالسِّلْمَ "مَعَ تُلْسْتوي، وَسَمِعْتُ حَدِيثَ "الأُمِّ" لِجُوَرِكِي. وَفِي هَذَا القَصْرِ تَعَلَّمْتُ مِنْ كُلّ هَؤُلَاءِ أَنَّ الأَدَبَ هُوَ حَضَارَةُ الفِكْرِ، وَأَنَّ الفِكْرَ هُوَ رُوحُ الفَلْسَفَةِ، فَبَدَأْتُ أَقْرَأُ سُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأفلوطين، وَتَذَوَّقَتُ لَذَّةَ الأبيقوريين، وَسَمِعْتُ مِنْ زينونَ، وَتَجَوَّلْتْ فِي"الأُكْرُبول" على جبل أتينا، ومِنْ عَلَاهُ اطَّوَّفَ بِي نَظَرِي فِي آفَاقٍ أُخْرَى رَأَيْتُ منها "فَاوْسَتْ "يَعْقِدُ عَهْدَهُ مَعَ الشَّيْطَانِ، وفَاغنَرْ يَعْزِفُ لَهُمَا لَحْنَ التَّصْدِيقِ بَعْدَ أَنْ حَرَّرَ ﯖُوتْه آخَرَ كَلِمَةٍ مِنْ رائعته.
فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ "شَيْخَ البَحْرِ" يُصَارِعُ الأَمْوَاجَ العَاتِيَةَ بَعْدَ أَنْ تَرْكُهُ هَمَنْﯖوي يَلْقَى مَصِيرَهُ وَذَهَبَ لِيَدُقَّ الأَجْرَاسَ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ بُنْدُقِيَّتَهُ وَيُسْدِلَ الظَّلَامَ. فِي هَذَا الأُفْقِ رَأَيْتُ كريل تسيسمن فِي زِنْزَانَتِهِ الَّتِي نَسِيتُ رَقْمَهَا يُحَرِّكُ الضَّمِيرَ العَالَمِيَّ. وَدَارِوينَ يُعِيدُ كِتَابَةَ تَارِيخِ البَشَرِ لِيُوَطِّدَ عَلَاقَةَ الإِنْسَانِ بِالقِرْدِ، "غَفَرَ اللهُ له". وإيرلند توينبي يُذَكِّرُ البَشَرَ بِأنَّ التَّحَدِّيَّ يَصْنَعُ الحَضَارَاتِ. هُنَا عَرَفَتْ قِصَّةَ حَضَارَةِ وَيْلِ ديورانت. وَرِحْلَةَ صَقْر قُرِيْش، وَقُصُورَ الأَمِيرَاتِ وَسَرَادِيبَ الأَفَّاقِين. هُنَا غَاصَتْ قَدَمَاي فِي رِمَالِ الضِّفَافِ الَّتِي أَدْفَأَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ طِينَ القَدْرِ الإِلَهِيِ ليَكُونَ "حَيٌّ بِن يَقْظَانٍ" بَعْدَ أَنْ أَعَادَ اِبْنُ طَفِيلِ قصةَ الخَلْقِ مِنْ جَدِيدٍ، وَهِيَ قِصَّةٌ ذَكَّرَتْ بَنِي آَدَمَ بِ فَلْمًا رَأَى القَمَرَ.... وَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ... وَلَمَّا... وَلَمَّا... لِيُكونَ اللهُ. وَكَانَ وَسَيَبْقَى. عِلْمٌ غَزِيرٌ عَمِيقٌ يَتَلَقَّاهُ الإِنْسَانُ مِنْ صَفَاءِ حَلِيبِ غَزَالَةٍ هِيَ رَمْزُ الأُمُومَةِ وَمَواتُهَا. وَمَواتُهَا هُوَ رَمْزُ الفَلْسَفَةِ وَخُلَاصَةُ الكَوْنِ. قُلْتُ لِاِبْنِي: فِي "جَنَانِ الحارثي" سَمِعْتُ هَمْسَ اِبْنِ طَفِيلٍ فِي أُذُنِ اِبْنِ رُشْدٍ ينبهه بَعْدَ أن سَأَلَ الخَلِيفَةُ سُؤَالَهُ المَشْهُورَ: "مَا قُولهُمْ فِي السَّمَاءِ". وَهُوَ السُّؤَّالُ الذي كَانَ الخُطْوَةَ الأَوْلَى فِي إنْهاضِ الغَرْب بَعْدَ مَشْرُوعِ "أﭬِيرُوِّسْ" (اِبْنُ رُشْدٍ) الكَبِيرِ العِمْلَاقِ. فِي هَذَا المَكَانِ تَعَلَّمْتُ أَنَّ صَفاءَ الرُّوحِ وَصِحَّةَ النَّفْسِ لَا يَأْتِيَانِ إِلَّا مِنَ رُفْقَةِ أُنَاسٍ لَيْسَ مِنْ الضَّرُورِيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُم الزَّمَانُ، أَوْ يُقَرِّبَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ المَكَانُ، إِنَّمَا هِيَ أَرْوَاحُ جُنُودٍ مُجَنَّدَةٍ تَنْتَقِلُ مِنْ بَرْزَخٍ إِلَى بَرْزَخٍ، إنْ أَرَادَتْ إرادَةُ اللهِ أنْ يَصْنَعَ الإِنْسَانُ الحَضَارَةَ.
لَحَظَاتٌ قَصِيرَةٌ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ تَفْصِلُ بَيْنَ عَزْمِي عَلَى أَنْ أَسِيرَ أَنَا وَابْنِي إِلَى مَوْطِنِ ذِكْرَيَاتِي وَالوُصُولِ إِلَى "جَنَانِ الحارثي". كَانَتْ كَأَنَهَا كُلُّ صِبَايَا وَطُفُولَتِي وَعُنْفُوَانِي. كُلُّ حَيَاتِي تَجَمَّعَتْ فِي قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ دَقِيقَةً هِيَ المَسَافَةُ بَيْنَ بَيْتِ الوَالِدِ وَ"جَنَانِ الحارثي". وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ مَرَّ بِخَاطِرِي كُلُّ مَا قُلْتُ. وَاقْتَرَبْتُ مِنْ بَابِ الحارثي، وَبَدَأَ قَلْبِي يَدُقُّ، لِأَنَّ اللَّحَظَاتِ الغَالِيَةَ، لَحْظَاتِ أَنْ تُسَلِّمَ أَعَزَّ مَا تَمْلِكُ إِلَى أَعَزِّ منْ تُحِبُّ، أَنْ تَسَلَّمَ قَصْرَكَ إِلَى وَرِيثِهِ. وَقَصْرِي هُوَ هَذَا الَّذِي بَنَيْتُه فِي جَنانِ الحارثي، وَأَثَاثُهُ وَأَبْدَعُ مُحْتَوَيَاتِه هُمْ أُولَئِكَ العُظَمَاءُ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ وَالَّذِينَ نَسِيتُ ذِكْرَهمْ، مَتَاعِي وَكُلُّ دُنْيَاي وَجُماعُ تِلْكَ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي قَضَيْتُهَا هُنَا، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الحُزْنِ وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ الفَرَحِ، فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ شِعْرِ الحُبِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ بَني عُذْرَةَ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّثْرِ الَّذِي كَانَ هُوَ لِبَاسِي الجَدِيدَ فِي الأَعْيَادِ، وكان َأَسْفَارِي فِي العُطَلِ. كُلُّ هَذَا تَرَكْتُهُ هُنَا حَتَّى يَحِينَ الحِينُ لِأُسَلِّمَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ.. انْتَظِرْ قَلِيلًا يَا بُنَي. وَعَانَقْتُ إِسْمَاعِيلَ وَعَانَقَنِي بِالغَرِيزَةِ، وَنَظَرَتُ إلَيْه وَدَمْعٌ مِنْ العَيْنِ يَنْهَمِلُ. إنها لَحْظَةُ البَهْجَةِ وَسَمُوِّ الرُّوحِ وَقِمَّةِ السَّعَادَةِ. تَتَابَعَتْ خُطُوَاتِي وَخَلْفَي إِسْمَاعِيلُ يَهُزُّ الخُطَى. بَيْنَ بَابِ الحارثي وَوَسَطِه حَوَالَيْ مِائَتَي مِتْرٍ. فِي هَذَا الوَسَطِ كُلّ مِلْكِي: مَقْعَدٌ أَخْضَرُ لَهُ إِخْوَةٌ فِي أَمَاكِنَ أُخْرَى شَاهِدٌ مِنْ شُهُودِ المَسَارِ، وَمِنْهُ وَمِنْ عَلَيْهِ دَخَلْتُ دُنْيَاي تِلْكَ. وَعَزَمْتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا المَقْعَدُ مَكَانَ التَّسْلِيمِ..... جُلْتُ بِنَظَرِي. صِحْتُ أَيْنَ المَقْعَدُ؟ أَيْنَ جَمَالُ هَذِهِ السَّاحَةِ وَمُنَسَّقُ زُهُورِهَا وَأَشْجَارِهَا؟ أَيْنَ المَعْهَدُ المُوسِيقِيُّ الَّذِي طَالَمَا خَفَّفَ مِنْ عَنَاءِ الإِرْهَاقِ بِرَنَّةِ وَتَرٍ كَانَ يَجُودُ بِهَا عَبْدُ الله عِصَامِي أَوْ آلَةُ عَوَاطِف أَوْ عَبْدِ الرَّفِيقِ رحمه الله؟ أَيْنَ فِعْلُ السِّحْرِ الَّذِي كَانَتْ تَحْمِلُهُ الأَنْسامُ مِنْ هَذَا المَكَانِ كُلَّ مَا أَعْيَى صَقيلُ الوَرَقِ العِينَ أَوْ غُمَّ فَهْمُ مَعْنًى؟ أَيْنَ بَصَمَاتُ كِبَارِ مُوسِيقيِّينا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُ وَمَنْ لَمْ أَذْكُرْ؟ مَعْهَدُهُمْ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ هُنَا، هُوَ خِرْبَةٌ مُتَهاوِيَّةُ السَّقْفِ مَكْلُومَةُ الجُدْرَانِ مَبْقورَةُ الأَحْشَاءِ.
أَيْنَ هَيْبَةُ هَذَا الرِّوَاقِ الَّذِي تَرَبَّعَ فِي صَدْرِ الحارثي، وَرَدَّدَ فِي زَاهِي أَيَّامِهِ أَنْغَامَ جُوقٍ نُحَاسِي كَانَ يُطْرِبُ أَهْلًا مِنْ مُتَوَاضِعِي الحَالِ مِنْ سُكَّانِ هَذِهِ المَدِينَةِ؟ أَيْنَ قَاعَاتٌ جَمِيلَةٌ كَانَتْ زينَةً لِلمُحَاضَرَاتِ وَالنَّدَوَاتِ مِنْ غَابِرِ العُصُورِ؟ أَيْنَ مَرَابِعُ حَيَوَانَاتٍ وَطُيُورٍ ولطائِفَ كَثِيرًا مَا أَمْتَعَتْ صِغَارَ هَذِهِ المَدِينَةِ الصَّامِتَةِ. جَنَانُ الحارثي اليَوْمَ، بَاقَةٌ مِنْ قِلَّةِ الذَّوْقِ وَبَرَاعَةِ القُبْحِ، آجُرٌّ وإسْمَنْتٌ هُوَ قَيْءٌ تَرَبَّعَ أَيْنَ مَا يَحْلُو لَهُ. وَسَخٌ فِي وَسَخٍ. جَنَانَ الحارثي اليَوْمَ جَسَدٌ مَقَطَّعُ الأَوْصَالِ. بَعْضٌ مِنْ أَوْصَالِهِ صَارَ جُزْءًا مِنْ المَلِكِ العَامِّ، وَبِعَضٌ مِنْ المُلْكِ الخَاصِّ. مَأْسَاةٌ وَخَرَابٌ وَسَرِقَةٌ. مَأْسَاةٌ مَنَعَتْنِي مِنْ تَسْلِيمِ مَا كُنْتُ أَمْلِكُ إِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ. وَخَرَابٌ لِقُصُورِ ذِكْرَيَاتِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِي وَعُمْرَانِ النَّاسِ. وَسَرِقَةٌ لِهَذِهِ الذِّكْرَيَاتِ وَلَا حُجَّة لِي وَلِأَمْثَالِي، لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَا ُيُلْمَسُ بِاليَدِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الخَيَالِ وَالصُّوَرِ، وهوَ مع هَذا الْمَكَانِ كَمَا كَانَ لا كما هوَ الآن.. وَكَمْ هُمْ ضَحَايَا هَذَا الغَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ الَّذِي أَصْبَحَ وَزِيرًا وَالَّذِي أَصْبَحَ طَبِيبًا وَالَّذِي أَصْبَحَ عَالِمًا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ لَوَّحَتْ بِهِ رِيَاحُ الأَيَّامِ للاسترزاق فِي مَا وَرَاءَ البِحَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي البَابِ غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى عَيْنَيْهِ حُجَبَ الصَّبْرِ وَرَدَّدَ بِلِسَانِهِ حَوْقَلَةَ القُلُوبِ. مَاذَا أَقُولُ لَكَ يَا بُنِّي؟ عَزَمْتُ أَنْ أَنْقُلَ إِلَيْكَ مَا تَسْتَحِقُّ فَحَرَمَتْكَ مِنْهُ يَدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ رَحَى الإِهْمَالِ وَعَدَمُ يَقْظَةِ البَالِ. بَلَائي وَبَلَاؤُكَ أَنَّ الَّذِي يَرْعَى هَذَا الْمَكانَ فِي هَذِهِ الْمَدينَةِ لَمْ يَصِلْ بِهِ بَعْدُ وَعْيُ الضَّمِيرِ لِيَعْرِفَ أَنَّ العُمْرَانَ لَا يَكُونُ بِحَجَرٍ عَلَى حَجَرٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِجُمَاع ذَكَرِيَّاتِ أَبْنَاءِ المَدِينَةِ.
الحَجَرُ تَذُرُّوهُ الرِّيَاحُ، وَعُمْرَانُ الفِكْرِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الزَّمَانِ. وَقَاضينَا يَا بُنَي، أَنْ تَرْفَعَ الْعَيْنَ إِلَى السَّمَاءِ، فَالصَّحْرَاءُ تَعَود مُرُوجًا، وَالمَسْلُوبُ قَدْ يَرْجِعُ قُصُورًا وَبُرُوجًا، فَيَعُود إلَيْكَ وإِلَى إِخْوَةٍ لَكَ فِي هَذِهِ المَدِينَةِ، حَقُّ أبيكَ وحُقوقُ آبائِهم. إِنْ الإنسانَ يا بُنَي صَنَعَ الحَضَارَةَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الذِّكْرَيَاتِ، وَالحَيَوَانُ وَحْدَهُ لا ذاكِرَةَ لَهُ فَلَمْ يَصْنَعْ حَضَارةً. وَمَا ضَاعَ حَقٌّ وَرَاءَهُ كَاتِبٌ.
رسالة مفتوحة إلى السيد عمدة مدينة مراكش: جنان الحارثي في كليته إرث معنوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.