اسْتَعَرَ النقاش اللغوي بالمغرب في الآونة الأخيرة بين المدافعين عن استمرار تدريس العلوم في المستويات ما قبل الجامعية باللغة العربية، وبين المدافعين عن تدريسها باللغة الفرنسية، عقِب وصول مشروع القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين إلى لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب من أجل التصويت عليه لاعتمادِهِ. وتعالت من الجانبَين اتهامات ب"التحيّز الإيديولوجي"، و"الديماغوجية والبُعد عن لغة البحث العلمي"، مما يستوجِب الاستماع الهادئ إلى مختلف الأطراف قصد تبيُّن مدى وجاهة حججهم ومواقفهم من هذا الموضوع، الذي يمكن أن يعيد تشكيل خريطة النّخبة المغربية إما بتمكين المُتعلِّمين من تكوين أكثر فعالية وعمليّ أكثر، أو توسيع حجم الهوّة الطبقية بين القادرين على التعلّم باللغة الفرنسية وبين غيرهم من الذين لا قدرة لهم على ذلك. في هذا السياق، التقت هسبريس حسن أوريد، الذي سبق له أن تقلّد منصب النّاطقِ الرّسمي باسم القصر الملكي ومنصب مؤرخ المملكة، كما مارس التعليم ودرّس العلوم السياسية، فضلا عن مساهمته المستمرّة في المشهدين الثقافي والأدبي بكتب وروايات ومقالات باللّغتين الفرنسية والعربية، وكان هذا الحوار في جزئه الأوّل: لندخل مباشرة في صلب الموضوع، لِم الدفاعُ عن تدريس العلوم باللغة الفرنسية؟ يُستحبّ طبعا أن تدرس العلوم باللغة العربية، لكن واقع الحال أن هذه التجربة فشلت، ولذلك عندما نودي بالتعريب كانت قلّة قليلة هي التي تناهِضُه. على محكّ الواقع فشل التعريب. أولا، لأنه لم يُستجب للمنظومة الاقتصادية. وثانيا، لأن اللغة العربية حاليا، وليس في الماضي، لم تواكب التغييرات، سواء في المنظومة العلمية، أو التقنية، أو الاقتصادية. العيب ليس عيب اللغة العربية، وكان من الممكن للترجمة أن تتدارك النقص، وكانت هناك جهود محمودة، سواء مع الرعيل الأوّل في النهضة من المسيحيين العرب أو بعض الشيوعيين من العراقيين والسوريين مثلا. وقد كانت حقيقة حركة ناهضة ورصينة، لكن هذه التجربة وُئدت، وأصبح المتحكّم في الترجمة هو العامل التجاري بالأساس. ما يُكتَب أو ما يُترجَم ركيك، فضلا عن عدم دقّته، وطبعا هذا العمل موكول بالأساس إلى أكاديميات ومجامع اللغة العربية، وهذه المجامع لم تعد تقوم بدورها، إذ لم تعد تجتمع ولم تعد تنسّق، لذلك ينبغي أن ننظر إلى واقع الحال. وفي اعتقادي، نحن مضطرون إلى تعليم العلوم باللغات الأجنبية بدون التضحية باللغة العربية، على أساس أن يتلقّى التلميذ تعليما متينا في اللغة العربية، ولكن العلوم، للأسف الشديد، تدرس باللغة الإنجليزية بالأساس واللغات الغربية. لكن، ألا يعني تدريس العلوم باللغات الأجنبية زيادة في بعد معجم اللغة العربية عن مستوى المعجم الكوني؟ لا، هذه حجّة واهية، لأن الذهن البشري يمكنه أن يستوعب أكثر من لغة. وأعتقد أنه حينما نستقرئ التاريخ نجد أن العصور الذهبية في الحضارة الإسلامية كانت دائما مواكبة لمعرفة أكثر من لغة، وواكبَتْها الترجمة، مثل بيت الحكمة مع المأمون، والجاحظ في "البيان والتبيين" يتكلّم العربية والفارسية بطلاقة، أو "سهوا ورهوا" مثلما كان يقال قديما، وفي الأندلس كذلك. لكن، أنا متّفق معك على أنه لا يمكن أن نُطلق العنان للتلميذ ليدرس بلغة أجنبية إن لم يستوف معرفة باللغة الوطنية، أو باللغات الوطنية منذ الصّبى. ميّزت في بعض كتاباتك بين الانفتاح على اللغات الأجنبية والتدريس بها، وبين التبعيّة والاستلاب، ألا ترى أن اختيار لغةٍ ما للتدريس بها يعني الارتهان إلى حمولتها؟ هل يمكن أن نعتبر المهدي بن بركة مستلبا، أو أن نعتبر عبد الرحيم بوعبيد مستلبا؟ هؤلاء قارعوا الاستعمار، ودرسوا باللغة الفرنسية، وكانوا عالمين وعارفين. نحن نتحدّث عن نموذَجَين، ويمكن أن نتوسّع. طبعا احتمال التبعيّة أو الاستلاب وارد إن لم يتلقّ التلميذ أو الطّفل منذ صباه معرفة بلغته الوطنية، فإذا اقتِيد منذ الوهلة الأولى إلى لغة أجنبية ستتمّ قولبته بالأساس، لكن إذا درس وعرف لغته الوطنيّة، أو لغاته الوطنية، وتشبّع بها سيكون على العكس في مَنَعَة. لقد درسْتُ عن شخصيّة فذّة كان يردّد دائما على مسامعي حكمة للإمام علي كرّم الله وجهه: "كلّ لسان بإنسان"، وكان يردّد كذلك حكمة لملكٍ بأوروبا هو كارلوس كينتو، أي شارل الخامس، "Autant de langues vous parlez, autant de personnes vous valez"، بقدر اللغات التي تتكلّم بقدر الأشخاص.. فلا ينبغي أن نخشى تعلّم اللغات. لم أقل قط أنْ نضحّي باللغة العربية، بل دراستنا للعلوم باللغات الأجنبية، وليس قصرا باللغة الفرنسية، من شأنه أن يغني اللغة العربية في المنظور القريب. كتبتَ حول الواقع السوسيولوجي الذي لا يرتفع فيما يتعلّق بمكانة اللغة الفرنسية بالمغرب وعدم صلاحية الانتقال الفُجائي إلى تدريس العلوم باللغة الإنجليزية، ألا يعني التخلي عن تدريس العلوم باللغة العربية، إذا اعتمدنا المنطق ذاته، تعميقا للهُوّة المعرفية بين الطّبقات؟ أول شيء، اللغات أداة يمكن أن تستعمل كوسائل للارتقاء والانفتاح، ويمكن أن تكون كذلك أدوات للاستلاب. ولذلك كل شيء رهين بطريقة التدريس والفهم. الواقع أننا الآن أمام نموذَجَين من التعليم بصفة عامة: تعليم عمومي من المفترض أن تكون مادّته اللغة العربية، والحال أن خِرّيج هذا التعليم على مستوى البكالوريا، على الأقل في الغالب، لا يتقن اللغة العربية، مما لا يهيّئه بالضرورة إلى استكمال دراساته في العلوم، والحال أن العلوم تدرّس في المستويات العليا باللغة الأجنبية، مما لا يؤهّله لولوج سوق الشّغل. ولدينا تعليم آخر، خصوصي، أو بعثات، أو شبه خصوصي، إلى آخره، يعتمد على اللغات الأجنبية بالأساس، أو يولِيها أهميّة على الأقل. نحن الآن في وضع انشطاري، ألا يستحسن في نهاية المطاف أن نحسّن نوعية تعليمنا العمومي، بما فيه تمكين أبنائنا من هاته اللغات الأجنبية؟ لأن طريقة تعليم اللغة العربية نفسِها سيئ، فما بالك باللغة الفرنسية، وبالأحرى تعليم اللغة الإنجليزية. نحن بين خيارَين: إما وضعٌ كما هو غير مدبّر، وغير مفكّر فيه، وقد يكون نقمة، وإما وضع نحسن استعماله بشيء من الصرامة، بكثير من الجدّيّة، وقد يكون نعمة. قلتُ في كتابي "من أجل ثورة ثقافية" إنّنا لا نريد تعدّدية لغوية بخسَة، حتى نتكلّم لغة "دليل سياحي"، مع احترام هذه المهنة الشريفة ككلّ المهن، التي ليست لغة عالمة. وفي مستوى معيّن نريد معرفة دقيقة باللغات لأن اللغات سرّ وعالَم، ولا يمكن أن تدخل أسرار عالَم من دون أن تملك ناصية هاته اللغة. والحال أنه حتى من الذين يزعمُون المعرفة باللغة العربية، تُظهر أخطاؤُهم، في الغالب، عدم تمكّنهم منها، وكلّ لغة هي مِران، وتكتسَب بالجهد. للأسف الشديد، طريقة تعليمنا للغات سيّئة، ونهدر جهودا لا جدوى منها في تدريس اللغة الإنجليزية، فالتلميذ يدرُس، على الأقل في الفترة التي درستُ، أشياء بسيطة في ثلاث سنوات، ثم تنقطع صلته بها، ونكون قد أهدرنا جهدا فيما يخصّ الأساتذة ووقت التلميذ وجهود الآباء من أجل لا شيء. والهدف الاستراتيجي الذي ينبغي أن يحذُونا هو اللغة الإنجليزية، ولكن، الآن، بالنّظر إلى واقع سوسيولوجي، وبالنّظر إلى إرث تاريخي، نستعمل اللغة الفرنسية التي من شأنها أن تفتح لنا منابع الحداثة، ولا أقول التّبعيّة. إذن لم يفشل التعريب فقط في المدرسة المغربية، بل تعليم اللغات أيضا. فشل التعليم برمّته، بما في ذلك التعريب، والتعليم عموما ليس عملية تقنية، ولا بد أن يكون هناك تصوّر ما، فلا بدّ من قاطرة تجرّ مشروعا فكريّا سياسيا. وقضيّة تعليم اللغات دائما ترتبط بهدف، لماذا في نهاية المطاف يمضي التلميذ عشر سنوات مبدئيا في التعليم العمومي لمعرفة أو دراسة اللغة الفرنسية ويكاد يكون زاده صفرا من هذه اللغة؟ لأنها سجن، لأنها لا ترتبط بهدف. وحينما ينتقل التلميذ المغربي إلى أوكرانيا، أو إلى روسيا، أو حتى الولايات المتّحدة، يصبح قادرا في غضون ستّة أشهر أو سنتين على أن يتابع، لأنه مرتبط بهدف. نحن لم نستطع في نهاية المطاف أن نغرس في ذهن الأستاذ، ولا في ذهن التلاميذ، ما الغاية من تدريس هاته اللغات، فيدرُس التلميذ: "Mina, jolie mina. Miki, joli miki"، والأفعال الثلاثة، وتمارين غير مرتبطة في نهاية المطاف ثم انتهى الأمر. ولو اقترنت هذه التجربة بأشياء حَيَويّة، من شأنها أن تستحثّ همّة التلميذ؛ لذلك ينبغي أن نفكّر في طريقة تدريسنا للّغات، بما فيها اللّغة العربية، لأنّ الغاية التي أريد هي أن نتقن اللّغات، بما فيها اللغة العربية، ولا يمكن أن نتقن اللغات من دون التفكير في طريقة تدريسِنا لها. والحال أنّه ينبغي أن نعي شيئا أساسيا في عالم اليوم، هو أنّه ليس هناكَ شخصٌ مندمج في العولمة يكتفي بلغة واحدة، وهذا غير موجود، وطبعا عندما أقول: دراسة اللغات الأجنبية، بما فيها الفرنسية، ليس معناه أن المغربي يجب أن يتكلّم الفرنسية كباريسي، بل أريد معرفة وظيفية باللغة الفرنسية من شأنها أن تتيح له أن يفهم، ويبلِّغ، وهذا هو المطلوب في نهاية المطاف.