حموشي يعقد 43 اجتماعاً ثنائياً لتعزيز التعاون الأمني خلال مؤتمر الإنتربول بمراكش    ندوة الاستثمار تبرز موقع المغرب كفاعل صاعد في ربط البنية التحتية بالتصنيع وجذب الاستثمارات    الدورة ال34 لجمعية المنظمة البحرية الدولية.. قيوح يجري مباحثات مع رئيس الجامعة البحرية العالمية    استئنافية البيضاء تؤيد الحكم الابتدائي في حق بودريقة    بوانو: أدوية تباع للمغاربة بأسعار قد تُضاعف 280 مرة تكلفة الشراء    ندوة علمية بالقصر الكبير تُسلّط الضوء على التحولات الكبرى في قانون المسطرة الجنائية    عنف واغتصاب ومشاكل نفسية.. مطالب بوضع حد لمعاناة النساء في وضعية شارع    لوكيوس تنظم ورشات كتابة الرواية والقصة بالأمازيغية    أخنوش يتباحث بالرباط مع رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية    نمو عدد ليالي المبيت السياحية بطنجة-أصيلة    وفاة أربعة مغاربة من أسرة واحدة اختناقا في إسبانيا    المحكمة العليا الفرنسية تؤيد إدانة ساركوزي للمرة الثانية    السفير الصيني السابق بالرباط، لي شانغلينغ، يكتب عن الكسكس المغربي: « أبعد من مجرد وجبة طعام.. إنه تجربة إنسانية متكاملة»    تطوان.. توقيف أحد الموالين لتنظيم داعش كان في طور تنفيذ مخطط إرهابي    سفيان أمرابط، لاعب أساسي في ريال بيتيس (وسيلة إعلام إسبانية)        الحكومة تعلن رفع قيمة الدعم الاجتماعي المباشر ابتداءً من نهاية الشهر    حزب العدالة والتنمية يعارض تشجيع ترشيح الشباب المستقلين في الانتخابات    توقيف عنصر متطرف بتطوان كان يبحث طرق تنفيذ مخطط يستهدف أمن واستقرار المملكة    من نيويورك إلى الرباط .. كيف غير مجلس الأمن قواعد اللعبة في ملف الصحراء ؟    654 مليون ورقة نقدية جديدة لتعزيز السيولة بالمغرب    إيموزار تحتضن الدورة الحادية والعشرون لمهرجان سينما الشعوب    مهرجان اليوسفية لسينما الهواة يعلن عن فتح باب المشاركة في مسابقة الفيلم القصير    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يستقبل 82 فيلماً من 31 بلداً ونجوماً عالميين    بلجيكا.. زكرياء الوحيدي يتوج أفضل لاعب مغاربي في الدوري البلجيكي الممتاز    تقرير: ريال مدريد يتصدر قائمة الأندية الأكثر مبيعا للقمصان على مستوى العالم    التقدم والاشتراكية: نستنكر ما يجري بشكل خطير في الفضاء الصحفي... والحكومة تتحمل المسؤولية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    بعد 25 سنة من التألق... الحكمة بشرى كربوبي ترمي الصافرة وتكشف أسرار "الاعتزال القسري"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    عمدة نيويورك الجديد يفاجئ الجميع بإعجابه الكبير بالأسد المغربي مروان الشماخ    الجزائر ‬و ‬بريتوريا ‬تفشلان ‬في ‬إقحام ‬ملف ‬الصحراء ‬في ‬مداولات ‬قمة ‬قادة ‬مجموعة ‬العشرين ‬بجوهانسبورغ    بعد ‬تفشيها ‬في ‬إثيوبيا.. ‬حمى ‬ماربورغ ‬تثير ‬مخاوف ‬المغاربة..‬        علماء يكتشفون طريقة وقائية لإبطاء فقدان البصر المرتبط بالعمر    الحكومة لا تعتزم رفع سعر قنينة غاز البوتان وتعلن زيارة في الدعم الاجتماعي    وسائل إعلام فرنسية تدعو إلى إطلاق سراح الصحافي كريستوف غليز المسجون في الجزائر        المخرج محمد الإبراهيم: فيلم الغموض والتشويق القطري "سَعّود وينه؟"    فيلم " كوميديا إلهية " بمهرجان الدوحة السينمائي الرقابة السينمائية في إيران لا تنتهي...!    أداء إيجابي يفتتح بورصة الدار البيضاء    دوري الأبطال.. أوسيمين يتصدر قائمة الهدافين بعد مباريات الثلاثاء    شركة عائلة نيمار تستحوذ على العلامة التجارية للأسطورة بيليه    سعيّد يستدعي سفير الاتحاد الأوروبي    مهرجان الدوحة السينمائي يسلّط الضوء على سرديات مؤثرة من المنطقة    وزارة التربية تفاقم الخصاص بعد إقصاء "المُختصين" من مباريات التوظيف    الجيش الإسرائيلي يطلق عملية عسكرية    نصائح ذهبية للتسوق الآمن باستخدام الذكاء الاصطناعي    دوري أبطال أوروبا.. تشلسي يثأر من برشلونة وليفركوزن يصدم مانشستر سيتي    عصبة الرباط سلا القنيطرة تطلق موسماً استثنائياً باطلاق أربعة مراكز للتكوين في مجال التحكيم    الاستجابة العالمية ضد الإيدز تواجه "أكبر انتكاسة منذ عقود" وفقا للأمم المتحدة    آلام الأذن لدى الأطفال .. متى تستلزم استشارة الطبيب؟    دراسة: التدخين من وقت لآخر يسبب أضرارا خطيرة للقلب    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما أصاب مرض السل نصف سكان "دبدو" المغربية سنة 1934
نشر في هسبريس يوم 04 - 04 - 2020

ظهرت الكتابات الاستعمارية المهتمة بالتاريخ الاجتماعي الحديث والمعاصر لمدينة دبدو، مع بروز بعض الكتابات الأوربية حول تاريخ المغرب خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين، ووقفت كتابات بعض الأجانب عند جوانب مهمة من أنماط عيش ساكنة مدينة دبدو وصحتها وعاداتها في فترات الأزمات الديموغرافية.
كما ساهم الأرشيف الرسمي للحماية في تدليل العقبات للباحثين وتمكينهم من الإحاطة، ولو بحذر شديد، ببعض الجوانب المهمة من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمدينة إبان فترة الحماية، إذ ضم هذا الأرشيف ضمن محتوياته مجموعة من التقارير والمراسلات الرسمية المرتبطة بواقع صحة ساكنة دبدو خلال عهد الحماية، ونذكر في هذا الإطار على سبيل المثال لا الحصر: وثائق ملحقة المراقبة المدنية لدبدو، والمركز الصحي بالمدينة، ونشرة المعهد الصحي Bulletin de l'institut d'Hygiène الصادرة عن مديرية الصحة العمومية والأسرة Direction de la Santé Publique et de la Famille، والتقارير الشهرية Les Rapports Mensuels الصادرة عن مديرية الشؤون الأهلية Direction des Affaires Indigènes، وهي تقارير تتوفر على معطيات رسمية، يمكن التعامل معها بحذر، عند التطرق إلى الحياة الاجتماعية والواقع المعيشي اليومي لسكان منطقة دبدو وقبائلها.
وقد يصطدم الباحث عند البحث في محتويات الأرشيف الصحي لمدينة دبدو خلال الحماية، بمجموعة من الصعوبات، نذكر منها انعدام المعطيات الإحصائية الدقيقة التي تهم واقع الصحة بالمدينة خلال بعض السنوات من فترة الحماية، نتيجة فقدان جزء من محتويات الأرشيف الصحي لدبدو، ما يضيع لنا كباحثين فرصة القيام بمقارنات حول مسار تطور بعض الأوبئة بين كل السنوات، التي شهدت شيوع وانتشار الوباء بالمدينة خلال الحماية.
تذكر لنا الرواية الشفوية المحلية لبعض شيوخ المدينة بحرقة كبيرة، معاناة ساكنة دبدو مع مجموعة من الأوبئة والأمراض الفتاكة التي اجتاحت المدينة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكيف تحولت هذه الجوائح إلى شبح مخيف ظل يطارد مخيلة أهل دبدو، قلب سلوكهم ونمط عيشهم رأسا على عقب، لدرجة أن بعض الروايات رسمت لنا صورة قاتمة حول وصف العدد الهائل من الضحايا الذين فتكت بهم الأوبئة خلال تلك الفترة، مستدلين بالشهادات والروايات المتواترة عن الآباء والأجداد حول قضاء المتطوعين معظم أوقات نهارهم في حفر القبور ودفن الأموات، بسبب ارتفاع حصيلة الوفيات المترتبة عن الأوبئة بشكل يومي في فترات انتشار الجوائح.
لقد توالت على مدينة دبدو كغيرها من باقي مدن المغرب مجموعة من الجوائح خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وشكلت هذه الجوائح أهم الأسباب المساهمة في استنزاف القوة الديموغرافية للمدينة، ويفيدنا الأرشيف الفرنسي بمعلومات وافرة حول بعض الأوبئة التي عانت منها ساكنة دبدو، كالسل والتيفوس وحمى المستنقعات والكوليرا...
ظهر مرض السل بمدينة دبدو في شتاء 1934، إذ سجلت النشرة الصحية للمغرب لشهر دجنبر للسنة نفسها، أرقاما مخيفة حول انتشار هذا المرض بالمدينة، بناء على معطيات ميدانية جمعهاVillenin ، الذي كان يشغل مهام الطبيب الرئيس بمستشفى تاوريرت خلال بداية الثلاثينات من القرن العشرين.
وتبين المعطيات الإحصائية التي قدمتها نشرة المعهد الصحي سنة 1934، أن ما يناهز نصف ساكنة دبدو أصيبوا بمرض السل، ويعتبر حي الملاح بدبدو، الذي استقر به اليهود، من بين الأحياء التي شهدت تسجيل أعلى الأرقام المتعلقة بحاملي عدوى مرض السل بدبدو، إذ وصل مجموع الحالات الموبوءة بهذا الحي إلى 456 حالة في شهر دجنبر 1934، وهي نسبة شكلت ما يقارب نصف مجموع المصابين داخل مدينة دبدو، أما باقي الإحصائيات المتعلقة بهذا المرض داخل المدينة، فقد توزعت على النحو الآتي: 323 حالة سجلت بحي الكياديد، يليه حي المصلى من حيث عدد الإصابات ب244 حالة.
ويمكن أن نفسر الارتفاع المهول في عدد المصابين بداء السل داخل حي الملاح بالكثافة السكانية المرتفعة التي ميزت هذا الحي، خاصة وأن مجموع ساكنته حسب المعطيات المتعلقة بالنتائج المستقاة من الإحصاء الذي أجرته سلطات الحماية سنة 1936، وصل إلى 917 نسمة من السكان اليهود، فارتفاع عدد أفراد الأسر القاطنين داخل المنزل الواحد بحي ملاح دبدو، قد يكون من بين العوامل التي ساعدت بشكل كبير على التسريع بانتقال عدوى الإصابة بمرض السل، الذي يصنف ضمن خانة الأمراض المعدية السهلة الشيوع والانتشار بين السكان.
كما انتقلت الأمراض والأوبئة إلى تلاميذ مدرسة ابن منظور القديمة، ما دفع إدارة المدرسة والمراقب المدني المساعد بدبدو، إلى فرض حجر صحي على تلاميذ المؤسسة للحد من انتشار الجوائح، كوسيلة أثبتت نجاعتها في التقليل من خطورة المرض.
ومن خلال الاطلاع على السجل المدرسي رقم 1 لمدرسة مدينة دبدو خلال الفترة الممتدة من سنة 1930 إلى سنة 1942 Registre Matriculaire, 1930 à 1942, Ecole Primaire Musulmane, école de Debdou.
سيتبين لنا أن عدد الأيام المحددة للحجر الصحي بالنسبة إلى تلاميذ مدرسة دبدو التي كانت تسمى ب:Ecole Primaire Musulmane de Debdou، كان يختلف حسب خطورة كل وباء، فالمدة المحددة للحجر الصحي للتلميذ في حالة الإصابة بداء الجدري حددت في 40 يوما، أما بالنسبة إلى المصابين بمرض الأذن فقد فرض عليهم 20 يوما من الحجر الصحي، في حين حددت للمصابين بالحصبة "بوحمرون" مدة 15 يوما من الحجر الصحي.
كما أشار A.CANDILLE، مفتش التعليم الابتدائي في مقالة له منشورة بنشرة التعليم العمومي لسنة 1926 Bulletin de L'enseignement public، إلى بعض التدابير الوقائية الأخرى التي اتخذتها إدارة المؤسسة التعليمية بمدينة دبدو، بتوزيع الصابون للحد من انتشار بعض الأمراض الجلدية، كمرض القرع والجرب المتفشي في صفوف تلاميذ مدارس دبدو وتاوريرت.
وشهدت مدينة دبدو انتشار وباء التيفوسTyphus ، وهو مرض معد وخطير، كان ينتقل إلى الإنسان إما عن طريق القمل والبرغوث والعث والقراد، أو بسبب عوامل أخرى ناقلة للوباء كالماشية والدواب، وباقي الحيوانات الأخرى، ما دفع بعض سكان المنطقة إلى الحرص الشديد على نظافة المنازل والأماكن والمحلات العمومية، وحماية مصادر المياه بالمدينة من التلوث، وهو ما نستشفه من اتفاق مبرم بين المسلمين واليهود بالمدينة، يقضي بتغريم كل من يلوث ماء عين اشبيلية، التي شكلت على مر التاريخ المصدر المائي الوحيد لشرب سكان المدينة العتيقة لدبدو، وكذا سقي حقولهم.
وتعود بداية ظهور هذا الوباء بالمدينة إلى سنة 1918، إذ تبين لنا التقارير الشهريةLes rapports Mensuels ، أن التيفوس انتقل إلى مدينة دبدو وباقي قرى ومداشر مدن المغرب الشرقي سنة 1918 من الجزائر، بواسطة العمال المغاربة الموسميين الذين كانوا يشتغلون في حقول الغرب الجزائري خلال موسم الحصاد، وقد تم تسجيل حسب هذه التقارير حوالي 15 إصابة بمرض التيفوس بالمنطقة في شهر يونيو سنة 1922.
وتشير تقارير مديرية الصحة العمومية إلى سرعة انتشار وباء التيفوس بين سكان مدن وقرى المغرب الشرقي، مخلفا مجموعة من الوفيات بمدن دبدو وتاوريرت والمعيريجة، خلال الفترة الممتدة من سنة 1940إلى سنة 1943.
لم تقتصر الأوبئة التي ضربت المدينة على التيفوس، بل شملت كذلك انتشار وباء حمى المستنقعات Paludisme، الذي أثار مخاوف سلطات الحماية مباشرة مع دخولها إلى المغرب، إذ دفعها الوباء إلى التسريع بمباشرة إنجاز مجموعة من التقارير ذات الصلة بهذا الموضوع، فيشير G.Sicault في دراسة له حول حمى المستنقعات Etude sur le paludisme، إلى سفر وانتقال مدير معهد باستور بالجزائر في مهمة إلى المغرب سنة 1918، قصد إعداد دراسة حول أسباب انتقال هذا الوباء، ثم إحداث مصلحة صحية للبحث في السبل الكفيلة للتخفيف من خطورة ومضاعفات حمى المستنقعات.
وتشير النشرة الصحية لسنة 1945 إلى أن وباء حمى المستنقعات انتقل إلى مدينة دبدو من مدينة وجدة، علما أن أكبر معدلات الإصابات بحمى المستنقعات بالمغرب الشرقي خلال السنة نفسها، شهدتها مدينة تاوريرت وبركنت، وسُجلت مجموعة من الإصابات بهذا الوباء بين سكان مدينة دبدو، وأكدت لنا النشرة الصحية على أن لسعات البعوض بدبدو، تسببت بشكل كبير في تسريع انتقال الوباء بين سكان المدينة سنة 1945.
لقد شكلت الجوائح محطات سوداء بالنسبة إلى تاريخ مدينة دبدو، أنهكت القوة الديموغرافية لسكان المدينة، وامتد تأثير هذه الجوائح إلى بعض الجوانب السلوكية والنفسية لسكان دبدو، فقد أفادنا المراقب المدني المساعد لملحقة دبدو Michel Lecomte، خلال نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات في كتابه "دراسة حول قبائل ملحقة دبدو"Etude des Tribus de l'Annexe de Debdou ، بمعطيات تبين مدى انعكاس الوباء والجوع على الجانب الذهني لسكان دبدو، وتحول بعض الأضرحة إلى مزارات مشتركة بين المسلمين واليهود خلال فترات الأوبئة والمجاعات، فأصبحت كرامة الأولياء وأضرحتهم في مخيلة وأذهان جزء كبير من ساكنة المدينة، ملاذا لشفاء الأمراض المستعصية والأوبئة الفتاكة.
*باحث في تاريخ مدينة دبدو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.