بنسعيد: لا أقاضي الصحافيين.. والمستفيدون من العفو الملكي اعتقلو في عهد حكومي سابق    الملك محمد السادس: القوات المسلحة ركيزة الأمن والسيادة والتنمية    رادار سويسري يحرر مخالفة سرعة في حق بطة    جماهير الجيش الملكي تحتج على تأجيل مباريات كأس العرش    المغرب يستضيف مؤتمر وزراء الشباب والرياضة للدول الفرنكوفونية    "كورفا سود" تهاجم تسيير الرجاء : "موسم للنسيان.. ويجب الإسراع في عقد جمع استثنائي"    توتر أمني في طرابلس يجمد مباريات الدوري الليبي.. والهلع والارتباك يُخيمان على اللاعبين المغاربة    دياز في قلب مشروع المدرب الجديد لريال مدريد    باناثينايكوس يتردد في صفقة أوناحي    حادث يخلف 7 قتلى قرب الصويرة    طقس الأربعاء.. أمطار مرتقبة في الريف والأطلس والشرق مع احتمال صواعق رعدية    زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب سواحل اليونان وتصل ارتداداته إلى مصر    مياه البحر تلفظ 20 كيلوغراما من الكوكايين على شاطئ جماعة مولاي عبد الله    المجلس الجماعي لفاس يصادق على مشروع عقد التدبير المفوض المؤقت لخدمة النقل العام بواسطة الحافلات    سائقو الأجرة بالحسيمة يتهمون الدرك ب"التضييق الممنهج"    المخرج روبرت بينتون يفارق الحياة عن 92 عاما    البيت الأبيض يكشف تفاصيل لقاء ترامب والشرع.. دعوة للانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية ومكافحة الإرهاب    ردا على طرد موظفين فرنسين من الجزائر.. باريس تستدعي القائم بالأعمال الجزائري وتتوعد بالرد بالمثل    برادة يعلن عن إجراءات جديدة لتنظيم العلاقة بين مؤسسات التعليم الخصوصي والأسر    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    رُهاب الجزائر من التاريخ    زيارة دبلوماسية تعزز التعاون المغربي الهنغاري: السفير الهنغاري في زيارة تاريخية لمدينة الداخلة    وفاة رئيس الأوروغواي الأسبق خوسي موخيكا    العدالة ترفض السراح لمتهم في قضايا عقارية بالحسيمة    الاتحاد الأوروبي يفرض حزمة عقوبات جديدة على روسيا    الإمارات تُجدد حضورها في موسم طانطان الثقافي بالمغرب: تظاهرة تراثية تجسّد عمق الروابط الأخوية    نحو طيّ نهائي لملف الصحراء المغربية.. 6 نونبر: هل يحمل البشرى؟    صفقة القرن الدفاعية: الولايات المتحدة والسعودية توقعان أكبر اتفاقية تسليح في التاريخ بقيمة 142 مليار دولار    المغرب يحقق المعادلة الصعبة: تكلفة إنتاج السيارات الأقل عالميًا ب106 دولارات فقط للعامل الواحد    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    المغرب في تصنيف التنمية البشرية لعام 2023: نقطة جيدة وانتظارات قوية    الأغلبية تمرر مشروع قانون المسطرة الجنائية داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب    كسوة الكعبة المشرفة ترفع 3 أمتار    الأمم المتحدة تدعو مجلس الأمن إلى التحرك "لمنع وقوع إبادة" في غزة    عندما تتحول القرارات السياسية من حسابات باردة إلى مشاعر مُلتهبة    السكوري: الحكومة تتطلع إلى مواصلة تحسين مؤشرات التشغيل لخفض البطالة إلى مستويات معقولة خلال السنة الجارية    صحيفة فرنسية: المغرب يحصد ثمار إرادة سياسية قوية لدعم بيئة الشركات الناشئة    مَأْزِقُ الإِسْلاَمِ السِّيَاسِي    نادية فتاح: حجم الدعم المخصص للمواد الأساسية تجاوز 100 مليار درهم خلال الفترة ما بين 2022 و2025    الركراكي: حكيمي قائد حقيقي ومرشح للكرة الذهبية    بورصة البيضاء تنهي التداول بالأخضر    المجلس الوزاري: حول الأسماء والأشياء!    محمد وهبي يؤكد أن شبان المغرب قادرون على تحقيق أشياء عظيمة    حكم جديد.. 3 ملايين ونصف تعويضاً لسيدة عضها كلب    أزمة دواء اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه في المغرب.. يفاقم معاناة الأسر في صمت    دراسة من هارفارد: شرب الماء الكافي يعزز التركيز الذهني ويقلل التعب والإرهاق    أسعار ‬الأسماك ‬في ‬ارتفاع ‬متواصل ‬وسمك ‬الفقراء ‬بات ‬نادرا ‬في ‬الأسواق    الرباط تحتضن أول مهرجان لفن الراب "212'FlowFest"    تقرير دولي يكشف: المغرب أرخص دولة في تصنيع السيارات.. والسعر سيُفاجئك    غزة تحاصر كان.. 380 فنانًا يتهمون إسرائيل بالإبادة    المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل    لتضيء نضالات الأمس دروب الغد    مشكلة الوعي الزائف وشروط امكان الوعي الحقيقي    الأغذية فائقة المعالجة تهدد بأعراض "باركنسون" المبكرة    ماذا نعرف عن أسباب وأعراض متلازمة مخرج الصدر؟    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطان المولى إسماعيل عادلا .. الاستثمار في الفِكَر والبشر والحجر
نشر في هسبريس يوم 22 - 05 - 2020


توطئة
إن عملي الروائي "إسماعيل السلطان" (1056-1139ه)، الذي مازلت أشتغل عليه منذ ثلاث سنوات، كان يراودني وأنا طالب بثانوية المولى إسماعيل بمكناس.
ومما ظل يشدني إلى شخصية هذا السلطان هي قدرته الخارقة للعادة على الاستثمار في مجالات ثلاثة: الفِكَر والبشر والحجر، وتوفق في جميعها، فكان مؤسس الدولة العلوية (فيما كان أخوه المولى الرشيد ممهدها)، وإليه يرجع الفضل في الحيلولة دون ضم المغرب الأقصى إلى الإمبراطورية العثمانية، كما في تحرير ثغور البلاد على الساحلين الأطلسي والمتوسطي من الاحتلال الإيبيري؛ هذا علاوة على تمكنه الصعب من هزم مناوئيه الشرسين، كابن أخيه بن محرز والخضر غيلان وأولاد التقسيس ومحمد العالم والزاوية الدلائية وصنهاجة الأطلس المتوسط، وكذلك نخب فاس الرافضين لقيام دولة علوية (كما نظهر ذلك في مقال مخصوص).
طوال حكمه المديد (نصف قرن ونيف) استمات المولى إسماعيل في فرض الأمن على بلاده، ما أدى، حسب شهادات المؤرخين، إلى انتعاش للنشاط التجاري والاقتصادي، كما إلى اكتساب شروط المناعة أمام الأتراك والبلدان الأوروبية العظمى لذلك العهد؛ ولم يتم له هذا إلا لأنه أحدث تغييرا جوهريا حاسما في التشكيلة العسكرية وقوتها الضاربة، مكّنه من تقويض أو على الأقل إضعاف دور العصبية الأعرابية والبربرية في حياة الدولة، أي نسف أسباب هيمنتها وعودها الدائم.
إن هذه النقلة التاريخية الكبرى التي اضطلع بها السلطان قد تحققت على يديه بإنشائه جيشا من العبيد، سواء ثبتت رقيتهم أم لم تثبت، وذلك بالعتق والافتداء. واستفتى فقهاء فاس في حلِيّة إنشاء ذلك الجيش، فعارضه أكثرهم من أجل حفاظ فاس على عبيدها المملوكين، إلا أنه تحداهم، وأمر بتسجيل العبيد المحررين في الدواوين حتى جمَّع منهم مائة وخمسين ألف جنديا محترفين لا يأتمرون إلا بأوامر السلطان وقائدهم، خارج أي عصبية وقسما بصحيح البخاري. وقد كان إسماعيل واعيا تمام الوعي بأحقية دلالات سياسته الجديدة ومراميها في صيانة المغرب وتقوية مؤهلاته وطاقاته...
أما عن بناء الرواية السردي فلم أجد خيارا آخر غير اعتماد ضمير المتكلم في مساحة إحاطتي علما بشخصية السلطان ولغته وعصره وجغرافيته، ما استوجب مني بذل جهد تَقَمُّصِيٍّ شاق واسع الغور والمدى والنطاق. والعمل جملةً شائك بقدر ما هو شائق.
والنص التالي قد يعطي مثالا على ذلك. هذا وإن الروائية مارغريت يورسنار قد برعت في سنِّ ذلك الخيار والتدليل على جدارته في روايتها العظيمة "مذكرات أدريان"، وذلك ما مارسته بنحو متنوع في رواياتي "مجنون الحكم" و"هذا الأندلسي!" و"العلامة"، وإلى حد ما "زهرة الجاهلية"...
النص:
الحمدُ للهِ والشكرُ له دائما أبدا والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ أشرفِ المخلوقات وخاتمِ المرسلين وعلى صحابتهِ الأكرمين ومن والاهم بالإحسان إلى يوم الدين.
قضاتَنا العدولَ البررة، أنتم أعرفُ الناس بكون العدلِ عمَدَ الملكِ القويم وأُسَّه المتين. قال بهذا خابروه والحكماءُ منذ عهدٍ عهيد، وزكَّاه ديننا الحنيف، وحثَّ على الكدِّ في رعايته وإحقاقه. فإذا قرأنا في القرآن المجيد ﴿وما ربّكَ بظلامٍ للعبيد﴾ فكيف لا نتأسّى ونقتدي، نحن رجالُ الله وخدمه، بهذه الآية وسواها كثير؟
وكيف لا يحلُّ بنا غضبُ الله إن عصيناه وبغيرِ العدلِ حكمنا. وفي آية أخرى ﴿ولا تخاطبني في الذين ظلموا. إنهم مغرقون﴾. ولقد حقّ عبد الرحمن ابن خلدون، طيبَ اللهُ مثواه، إذ خطَّ صفحاتٍ نيرات عنوانها "الظلمُ مؤذنٌ بخرابِ العمران".
إن لنا يا سادة شرفَ الأمانة، وعلى كواهلنا ثقلَ المهام. وقد جاءَ في محكمِ القرآن ﴿ومن قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليهِ سلطانا﴾. وإنَّ هناك، كما تعلمون، أقواما لا ينزجرون لأوامر القرآن ونواهيه، لذا قال عمر ابن الخطاب الفاروق: "إنَّ اللهَ ليزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن". فلنكن معا للمظلومين والمعوزين والمتروكين أولياءَ، نذود عن حقوقهم بسلطاننا، وبهِ نكونُ للظالمين أخصاما ورادعين، وبهِ نجتثُ جذور الظلم حيثما عشَّشت وتناسلت، وننشرُ ألويةَ العدلِ ساطعةً خفَّاقة. فلا جورَ ولا حيفَ ولا عدوانَ إلا ووَجدَنا، كبنيانٍ مرصوص، صادِّينَ دافعين. فخذوا، رعاكم الله، شكاوى المظلومين رجالا ونساءً ويتامى بالرفق والإلانة، وتحلوا بالإنصاف وبالنزاهةِ، واعملوا بميزانِ الحقِّ والقسطاس المستقيم، لا تأخذكم في الانتصارِ للقضاءِ السّوٍيِّ لومةُ لائم، ولا تحرشاتُ المترفين الفاسدين، ولا تطاولاتُ المتنفذين الطاغين. فاللهُ سبحانهُ وتعالى شاهدٌ لكم، هو حسيبكم وراعيكم، ما دمتم بأوامره ونواهيه تعملونَ وتستنيرون. واجعلوا كفايتكم في الاقتداء بسِيَرِ رسولنا الأكرم وعمر ابن الخطاب الفاروق وعمر ابن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين وبكل من والاهم وحاكاهم مخلصين. وليكن نبراسكم في حديث نبينا وحبيبنا سيد الأنام ومسكِ الختام، وهذا نصه: "يُحشرُ قومٌ من أمتي على منابرَ من نور، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف. نورُهم تخشعُ منه الأبصار.. ما هم بالأنبياء، ما هم بالصديقين، ما هم بالشهداء.. إنهم قومٌ تُقضى على أيديهم حوائجُ الناس". (رواه الإمامان البخاري ومسلم).
قال عني من حقا يعرفني من ذوي دخلتي وخاصتي: إن أبا النصر مولانا إسماعيل إذا ما تزيَّى يوما بالأصفر فللتعبيرِ عن غضبه واستيائه. وحالئذ يحسُن بالأعوان والحاشية أن يتجنبوه ويغيبوا عن مدى نظره. وكذلك أيامَ ورود أخبارٍ بالغةِ السوء عن ضحالةِ أداءِ القضاة في القرى والبوادي، فلا يخِفّ إلا بعد أن يكلفَّ من يبعثُ إليهم رسائلَ توبيخٍ وإنذار. وكان مما جاء في مضمون آخرها على لساني: يا قضاةَ الرداءةِ والجهالةِ الجهلاء، تركبونَ القضاءَ عوجاً، وتهرفونَ فيه بما لا تعرفون، وتخبطونَ خبطَ عشواء، وأنتم في إصدارِ الأحكام كحاطبي ليل، والعياذُ بالله، فلا محيد لي عن إجباركم على حضور مجالس العلماء في القرويين وجامعِ مكناس الأعظم، عسى أن يستفيدَ بعضكم ويتفقهوا إذا كانوا بالعلمِ شغوفين، وكان في صدورهم من النورِ بقية. أما من عصوا وتبلدوا فجزاؤهم الجلدُ فالعزلُ المهين ولا بدّ. ولا سلام عليكم إلا أن تتوبوا وتنصلحوا. وقد أعذر من أنذر.
وكان من عادة وزيري وعشيري أحمد اليحمدي أن يورد على هامش رسائلي إفاداتٍ نيرةً من علمه الغزير. ومنها أن العلامة عبد الرحمن ابن خلدون في مصرَ المماليك، وقد تقلد منصب القضاء المالكي، سعى إلى التحلي بالاستقامة وتقوى الله في تطبيقِ أحكام الشريعة. لكنْ سرعانَ ما كثرت عليه الدسائسُ والسعايات، حتى إنه عُزل من المنصب ستَّ مرات، فلم يقوَ على مواجهة الفساد في بلد سرى فيه المثل "البراطيل تُنصر الأباطيل". فاستخلص القاضي المغربي منظّرا: "إذا فسدَ الإنسانُ في قدرتهِ على أخلاقهِ ودينهِ فقد فسدت إنسانيتهُ وصار مسخا على الحقيقة".. وكيف لا يقرُّ بهذا وقد شهد أن خطة القضاء والإفتاء أضحت تجارة وملعبة، وأن الرّشى فيها تؤخذ خفيةً وعلنا، حتى بدت على القضاةِ علاماتُ الثراءِ والرخاء.. أما معاناته مع شهودِ الزور فقد قضّت مضجعه وأضعفت قدرته، حتى إنه إذا انفضح أمر أحدهم لا يسعه إلا الأمرُ بالجزّ، ويقصد به الصفعَ على القفا حتى تحمرّ... وروايةُ هذه العقوبة أضحكت سني أمدا لغرابتها وضعف نجاعتها. ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ القدير.
ختاما، ألا أذكرِّكم بما قاله الحكيم أرسطو في "سر الأسرار" أو نُسب إليه: «العالمُ بستان سياجه الدولة. الدولةُ سلطان تجيء به السنة. السنةُ سياسة يسوسها الملك. الملكُ راع يعضُده الجيش. الجيش أعوان يكفُلهمُ المال. المالُ رزق تجمعه الرعية. الرعية عبيد يتعبّدهمُ العدل. العدلُ مألوف وهو قوامُ العالم. العالمُ بستان سياجه الدولة».
والسلام على من اتبعَ الهدى وتزود َبالإيمانِ والتقوى وبالعدلِ تقوَّمَ واستقوى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.