"المستحيل المقنع خير من الممكن الذي لا يقنع" أرسطو برغم كل التحولات التي تراكمت على سطح المشهد السياسي في المغرب المعاصر، لم ننجح بشكل جماعي في تغيير صورة "السياسي" عند المغاربة، وظلت تمثلات المواطن المغربي لرجل السياسة خليطاً فضفاضاً، لأنها نفس الصورة التي سبق أن رسمها عبد الواحد السبتي حين اعتبر "السياسي" إما انتهازيا أو مغامراً انتحاريا... لم يستطع لا الفاعل السياسي ولا المتتبع لخطاه إعلاميا ومثقفا ومؤرخا وفنانا من تحويل السياسة إلى فعل منتج في المجتمع، والعمل السياسي كجزء من ممارسة الحق في المواطنة بشكل عادي.. جل تصورات المغاربة عن "السياسي" لا تخرج عن ثنائية الانتهازي، قناص الفرص الذي يجري وراء مصالحه الذاتية والأنانية جداً، حيث تغدو الوظائف السياسية والمهام التنظيمية في مركز حزبي أو نقابي مجالا للارتقاء الاجتماعي ومنفذا للغنيمة، أو صورة الانتحاري المغامر الذي يُقبل على المحرقة بدون حساب للعواقب الوخيمة، السياسي هنا مليء بالاندفاع والتهور والطيش، نفسيته مشوبة بنوع من المازوشية، أي التلذذ بتعذيب الذات إلى حد إقبارها... في حالة السياسي الانتهازي، نجد أن المواطن المغربي يتصور دخول دائرة" السياسة" معناه اغتيال العقل وموت الواجب وضمور حس المسؤولية... انتعاش تنظيم الريع وقيم القبيلة وإحياء علاقات القرابة والدم.. مقابل اغتيال الكفاءة والحق في تكافئ الفرص، ونمو المحسوبية وسيادة قيم الفردانية "أنا وبعدي الطوفان"، لا يتصور المواطن المغربي "السياسة" هنا إلا كقدر استثنائي لأفراد بدون وعي ولا مؤهلات مستعدين لبيع ضميرهم في المزاد العلني، إنهم يتسلقون سلالم الصعود الاجتماعي بسرعة البرق، يُغيرون لون أحزابهم كما يغيرون جواربهم ، جزء كبير من هذه الصورة ساهم في عزوف المغاربة عن خوض غمار الشأن السياسي مخافة من التلوث أو احتجاجا على صورة السياسي الانتهازي التي يزكيها جزء من الممارسات التي يشهدها الواقع المغربي، حقيقة لا تمثلا فقط... أما الصورة الثانية، صورة السياسي الانتحاري المغامر، فتحول "السياسة" إلى غول أسطوري يبتلع المشتغلين بحقله.. تغدو الممارسة السياسية محملة بقيم الشهادة والاستشهاد، تقتضي روحا من المغامرة وتستوجب رجالات استثنائيين يتحولون بموتهم إلى رموز صالحة للتقديس، أو أن اندفاعهم الانتحاري لحظات الفشل يتحول إلى اتهام بالتهور والاندفاع غير المحسوب. خطر هذا التصور الثنائي الضدي للسياسة في شقه الانتهازي أو المغامر الانتخابي، أنه لا يساهم في تحويل السياسة إلى فعل منتج في المجتمع، ويعرقل المشاركة السياسية لعموم الناس، التي تعتبر المنشط الحيوي للدورة الديمقراطية في حياة الأمة.. للأسف أنه حتى في مغرب اليوم لم يستطع المغاربة التصالح مع "السياسة" كممارسة مدنية خارج مرجعية الانتهازي ومرجعية الانتحاري المغامر... فيما تزكي العديد من الممارسات واقع السياسي كانتهازي برغم خطأ التعميم، يتم الإعلاء من قيمة الشهادة والاستشهاد ويتحول الرموز السياسيون في هذه البنية إلى كائنات طهرانية تتعالى على واقعها.. بالأمس تم الانتصار لعزوف الراحل عبد الله ابراهيم عن المشاركة السياسية في المؤسسات المنتخبة، وبعدها تم تشجيع النموذج الجديد للرفض، من استقالة محمد الساسي وعدمية بعض القوى السياسية المحتفى به إعلاميا إلى تزكية أشكال المقاطعة السلبية التي ترسخ نوعا من الارتياح لشكل جديد من الممارسة السياسة النزيهة، أو تطور نوعي في الاحتجاج إما بمغادرة الوطن أو بالتنحي عن مركز أساسي في حزب فتي أو المطالبة برحيل رئيس حكومة ارتضته أغلبية المغاربة في استحقاقات شفافة... لمن سيتم ترك هذا البلد، إذا كنا نشجع على الاستقالة منه ومغادرته كتجسيد أسمى للممارسة السياسية النبيلة؟ ما أحوجنا اليوم إلى نظرة عقلانية للسياسة، نظرة توازي بين المنفعة الخاصة والعامة، تنتصر لقيم المواطنة والديمقراطية والحضور السياسي الفاعل وروح البراغماتية النبيلة خارج كل الميولات الانتهازية أو المغامرة الانتحارية.