الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    البطولة: اتحاد طنجة المنقوص عدديا ينتصر على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واجب تحفظ القضاة على ضوء الدستور المغربي الجديد
نشر في هسبريس يوم 24 - 08 - 2012

تشكل وظيفة القضاء أحد أهم الوظائف وأسمى المهام داخل أي مجتمع، وذلك بالنظر لما لها من دور فعال في إرساء أسس العدالة وتوفير الأمن للأفراد، مع ما يستتبع ذلك من ضمان للحريات والحقوق، وتكريس لمبادئ دولة الحق والقانون، لذلك كان من الطبيعي إحاطتها بمجموعة من القيم والأعراف الضابطة لسلوك العامل داخلها، ضمانا لرفعت وسمو الهدف المتوخى من هذه الوظيفة، ولعل من بين أهم هذه الضوابط و القيم، نجد " واجب التحفظ " الذي أقره الدستور المغربي الجديد من خلال المادة 111 التي نصت على أنه : ( للقضاة الحق في التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية) وأنه : ( يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون) وأنه : (يمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية)
فما المقصود بواجب التحفظ الملقى على عاتق القضاة ؟ وهل يتعارض هذا الواجب مع حق القضاة في الانفتاح على المجتمع، و حقهم في الاحتجاج ؟
أولا : واجب التحفظ من الناحية اللغوية :
لفظ التحفظ من الناحية اللغوية يأتي بمعاني متعددة، فيقال تحفظ بمعنى احترز، وتحفظ من الأخبار التي سمعها، بمعنى احتاط وتوقى واحترز منها، ويقال أنجز عمله دون تحفظ، أي دون تردد، وسجل تحفظه على أمر ما، إذا اتخذ موقف الحيطة و الحذر منه، وتحفظ على الشيء بمعنى حبسه و صانه، وتحفظ في القول أو الرأي إذا قيده ولم يطلقه، - بمعنى تكلم بحذر-
وإذا قرن لفظ التحفظ مع الواجب، كان المعنى دالا على الالتزام بالاحتراز و الاحتياط، وعدم إطلاق القول، والفعل.
ثانيا : واجب التحفظ والفراغ التشريعي :
إن أول ما يثير انتباه الباحث وهو يخوض في مفهوم واجب تحفظ القضاة، هو غياب التعريف القانوني لهذا الواجب، إذ لا يوجد أي نص قانوني يعرف مفهوم " واجب تحفظ القضاة "، الأمر الذي ساعد على ظهور تعريفات متعددة لهذا الواجب، والتي للأسف كانت في غالبيتها تعريفات تفتقد إلى التجرد في الدراسة، مستغلة في ذلك الطابع المطاطي لهذا المفهوم، دون استحضار للمرجعية التي حكمت التنصيص على هذا الواجب في بنود الدستور، والتي لا تخرج في عمومها عن المرجعية العامة للدستور المغربي، والتي يمكن تسميتها ب : المرجعية الحقوقية الكونية للدستور المغربي.
ثالثا : واجب التحفظ و المرجعية الحقوقية الكونية للدستور المغربي الجديد :
لفهم أي نص قانوني فهما صحيحا لابد من الرجوع إلى الإرادة التي حركته والخلفية التي حكمته، والمرجعية التي استند عليها تشريعه، وبالنسبة للدستور المغربي الجديد فالأكيد أن من بين أهم المرجعيات التي استند عليها تشريعه نجد : "المرجعية الحقوقية الكونية " والتي يمكن استخلاصها انطلاقا من إقرار المشرع الدستوري بانخراط المملكة المغربية بشكل كامل في المنظومة الحقوقية الكونية، هذا الإنخراط الذي أكده الدستور الجديد من خلال الإقرار بثلاث قواعد أساسية وهي :
القاعدة الأولى: الإقرار بالتزام المغرب الكامل بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا:
إذ جاء في تصدير أسمى قانون في البلاد ما يلي : (...إن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ).
القاعدة الثانية : الإقرار بطابع الشمولية لحقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزيء :
وذلك في تأكيد صريح على أن هذه القواعد الحقوقية الكونية قواعد موحدة تنطبق على جميع بني البشر في جميع البلدان دون استثناء، أو تجزيء، لذلك نجد أن تصدير الدستور الجديد قد نص على التزام المغرب ب : (... حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء... ).
القاعدة الثالثة : الإقرار بسمو المواثيق الحقوقية الدولية على التشريع الوطني بعد النشر:
حيث جاء في تصدير أسمى قانون في البلاد ما يلي : (... جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة...).
وإذا كان المغرب قد اختار المرجعية الحقوقية الكونية كأحد أسس تشريع النص الدستوري، وذلك من خلال إقراره بالقواعد الثلاث أعلاه، فإن فهم أي نص داخل الدستور الجديد لا يتأتى سوى باستحضار هذه المرجعية، بمعنى أن باقي نصوص الدستور يجب ألا تخرج في تأويلها عن هذا البعد الحقوقي الكوني الذي اختاره المشرع الدستوري كفلسفة تحكم جميع بنود الدستور، بما في ذلك تأويل مضمون واجب التحفظ المنصوص عليه في المادة 111 من الدستور.
وعليه يتعين البحث عن مفهوم واجب التحفظ انطلاقا من المواثيق الحقوقية الدولية التي أقر الدستور الجديد بالتزام المغرب بها كما هو متعارف عليها دوليا دون تجزيء مع سموها على التشريع المحلي.
رابعا : في بعض المواثيق الحقوقية الكونية المحددة لواجب تحفظ القضاة .
من بين أهم هذه المواثيق نجد :
1- المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلالية السلطة القضائية :
والتي تم إقرارها في مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين، المنعقد خلال شهر دجنبر من سنة 1985 بميلانو، والمصادق عليها من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 40/32، والتي جاء في البند الثامن منها ما يلي : ( وفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يحق لأعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات و التجمع، ومع ذلك يشترط أن يسلك القضاة لدى ممارسة حقوقهم مسلكا يحفظ هيبة منصبهم و نزاهة واستقلال القضاء).
و نفس المبدأ نصت عليه الفقرة الرابعة من المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في إفريقيا، التي تم اعتمادها في اجتماع قمة رؤساء دول الإتحاد الإفريقي في مابوتو خلال شهر يوليوز 2003.
2 - مبادئ بانغالور للسلوك القضائي :
والتي تم إقرارها من قبل مجموعة النزاهة القضائية في بانغالور بالهند في الفترة ما بين 24 و26 من فبراير 2001، قبل أن يتم مراجعتها خلال المائدة المستديرة لرؤساء المحاكم العليا المنعقدة بقصر السلام في لاهاي بهولندا خلال الفترة الممتدة مابين 25 و26 نونبر 2002، والتي تم إقرارها كذلك من قبل لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 43/2003،
وقد جاء في البند 4/6 من هذه المبادئ ما يلي :( يحق للقاضي كأي مواطن آخر حرية التعبير والعقيدة والارتباط والتجمع ولكن يتعين عليه دائما عند ممارسته تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها)
3 - مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية :
والتي جاء في بندها 7/1 ما يلي : ( يتمتع القضاة بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية والقضائية أو قد تنال من حياد ونزاهة القضاء)، كما جاء في البند 7/2 من نفس المبادئ ما يلي : ( يحظر على القضاة إفشاء أسرار المداولات وإبداء أي تعليقات حول الدعاوى قيد النظر)، ونص البند 7/3 من نفس المبادئ على أنه : ( يتعين على القضاة أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو على مسودة الحكم، أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه من المحتمل أن ينظر أمام محكمتهم خارج النطاق القضائي أو المحاكم الأخرى)...
فمن خلال كل ما سبق يمكن القول أن جميع المواثيق الدولية الحقوقية التي تطرقت لحق القضاة في التعبير قرنت ممارسة هذا الحق ببعض القيود، وهذه القيود هي ما يمكن أن يطلق عليها واجب التحفظ، وسوف نعمل على تحديد هذه الضوابط من خلال الخوض في مدى التوافق أو التعارض ما بين واجب التحفظ و حق القضاة في التعبير والانفتاح على المجتمع والاحتجاج.
خامسا : واجب التحفظ وحق القضاة في حرية التعبير.
انطلاقا من مقتضيات المادة 111 من الدستور التي أقرت بحق القضاة في التعبير دون الإخلال بواجب التحفظ، و انطلاقا من المواثيق الحقوقية الكونية التي سبق بسطها، يمكن القول كقاعدة عامة، أن واجب التحفظ في علاقته بحرية التعبير لا يخرج عن معنى : (ممارسة القاضي لحقه في التعبير بشكل لا يؤثر على حياده واستقلاله ورفعة المهمة التي أسندت إليه)، وقد حددت المواثيق الحقوقية الكونية السالف ذكرها، صورا للالتزامات التي يفرضها واجب التحفظ، وذلك حين اعتبرت أن واجب التحفظ يفرض على القاضي ما يلي:
1- عدم الخوض في القرارات القضائية بشكل ينال من مصداقيتها:
فإذا كان من حق القاضي التعبير بكل حرية فإن ذلك يجب أن يكون مع احترام واجب التحفظ الذي يفرض عليه عدم الخوض في قرارات السلطة القضائية بالشكل الذي يجهز على مصداقية هذه القرارات، فقد جاء في المبدأ 7/3 من مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية ما يلي : ( يتعين على القضاة أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو على مسودة الحكم، أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه من المحتمل أن ينظر أمام محكمتهم خارج النطاق القضائي أو المحاكم الأخرى)، إلا أن ذلك لا يعني عدم الخوض في القرارات القضائية عن طريق التعليق وفق المناهج العلمية للتعليق على القرارات القضائية، والتي تنطلق أساسا من دراسة الإشكاليات القانونية للقرار القضائي لا تقييمه من حيث العدالة أو غيره.
2 - عدم إبداء تعليقات حول قضايا قيد النظر وعدم إفشاء السر المهني:
يحق للقضاة التعبير بكل حرية، لكن دون الإخلال بواجب التحفظ الذي يمنع عليهم إفشاء سرية المداولات أو إبداء تعليقات بخصوص القضايا المعروضة على المحاكم، أو توضيح الاتجاه الشخصي أثناء المداولات... فقد جاء في المبدأ 7/2 من مبادئ بيرغ ما يلي : ( يحظر على القضاة إفشاء أسرار المداولات وإبداء أي تعليقات حول الدعاوى قيد النظر).
3 - عدم المجاهرة بأي برأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرده وحياد القاضي :
فإذا كان من حق القاضي أن يعبر بكل حرية عن أفكاره، فإن واجب التحفظ يفرض عليه عدم المجاهرة بأي رأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرده وحياده، ومن ذلك عدم المجاهرة بالميل لأي توجه سياسي أو عرقي أو عقائدي، لما في ذلك من زرع للشك لدى المتقاضين حول تجرد القاضي وحياده، فقد جاء في البند 4/6 من مبادئ بنغالور ما يلي:( يحق للقاضي كأي مواطن آخر حرية التعبير و... ولكن يتعين عليه دائما عند ممارسته تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها).
إذن فواجب التحفظ لا يعني بأي حال من الأحوال مصادرة حق القضاة في التعبير، وإنما هو واجب يروم أساسا إلى تحقيق غاية أساسية، وهي الحفاظ على حياد وتجرد القاضي واستقلاليته بالشكل الذي يحفظ مكانة وهيبة القضاء.
سادسا : واجب التحفظ وحق القضاة في الإنفتاح على المجتمع :
هل يتعارض واجب التحفظ مع حق القضاة في الإنفتاح على المجتمع ؟
عرف مفهوم التحفظ في علاقته مع حق القضاة في الإنفتاح على المجتمع تطورا عبر مرحلتين، فدل في مرحلة أولى على معنى الإنطواء التام والعزلة، في مؤشر واضح على تعارضه مع حق القضاة في الإنفتاح على المجتمع، ثم بعد ذلك انتقل هذا المفهوم من معنى الإنطواء والعزلة إلى معنى الإنفتاح على المجتمع، وفق ضوابط محددة،
إذن فالقاعدة المكرسة سابقا حول مفهوم واجب التحفظ كانت تختزل في عبارة واحدة وهي أن: ( القاضي جلسة و لبسة و عبسة)، فهذه العبارة اختزلت المقصود بواجب التحفظ فيما مضى، فجعلت من التحفظ آلية للإنطواء التام للقاضي، وعزلته عن المجتمع، الأمر الذي أدى بشكل أو بآخر إلى تبلور تصور سلبي للمواطن حول القاضي، حيث أصبح القاضي حسب منظور المواطن، ذك الشخص الذي يعتلي برجه العاجي باستعلاء، و يسير أسطولا من السيارات، وحساباته البنكية لا تعد الأموال بها ولا تحصى...، هذا المنظور الذي كرس واجب التحفظ كواجب يفرض على القاضي الإنطواء وعدم الإنفتاح على المجتمع، ساهم بطريقة غير مباشرة في زعزعة ثقة المواطن في قضائه نتيجة لعدم الانفتاح وغياب الصورة الحقيقة للقضاء المغربي عن ذهن المواطن.
وأمام سوء التفسير لواجب التحفظ في علاقته مع حق القضاة في الإنفتاح على المجتمع، كان من اللازم تجاوز هذا المنظور من خلال التكريس لمرحلة جديدة يمكن تسميتها ب " مرحلة الإنفتاح لكسب الثقة دون الإخلال بواجب التحفظ "، وهذا هو النهج الذي سلكه نادي قضاة المغرب الذي عمل على إيجاد آليات للإنفتاح و التواصل المباشر مع باقي أفراد المجتمع دون الإخلال بضوابط واجب التحفظ، فكانت صفحة التواصل الإجتماعي لنادي قضاة المغرب على الفايس بوك أداة فعالة لتحقيق هذا الإنفتاح و التواصل مع المواطن، إذ ساهم بشكل كبير في توضيح الرؤيا حول واقع القضاة في المغرب، بعيدا عن ذلك القالب الشكلي الذي كان يفرض على القاضي الإنطواء داخله، فكسرت بالتبعية وبشكل تدريجي، تلك النظرة السلبية للمواطن عن قضاة بلده .
لقد أسس نادي قضاة المغرب بذلك لقاعدة أساسية، مؤداها أنه (يجب على القاضي الإنخراط في المشروع المجتمعي الحداثي الذي اختاره أفراد المجتمع المغربي، وعدم التقيد بالقواعد الموروثة التي تجعل من القاضي صنما موضوعا في برج عاجي تنطبق عليه مقولة (القاضي جلسة ولبسة وعبسة)، وللأسف فالنظام القانوني ساعد بدوره على تكريس هذا المفهوم الإنطوائي لواجب التحفظ، ويكفي الرجوع فقط لمقتضيات المواد 13 إلى 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء للوقوف عند هذه الحقيقة، لدرجة أنه كان يمنع على القاضي حتى النشر ما لم يحصل على ترخيص من وزير العدل.
سابعا : واجب التحفظ وحق القضاة في الدفاع عن مصالحهم و استقلالهم عبر الإحتجاج :
هل يشكل لجوء القضاة للاحتجاج في حال المس بمصالحهم واستقلالهم خرقا لواجب التحفظ ؟
سوف نحاول الإجابة على هذا السؤال من زاويتين : الأولى نستحضر من خلالها البعد الحقوقي الكوني للدستور المغربي، والثانية نقارن من خلالها واجب التحفظ لدى الموظف العمومي والقاضي، وحق كل واحد منهما في الإحتجاج.
1 - واجب التحفظ وحق القضاة في الإحتجاج من المنظور الحقوقي الكوني للدستور المغربي.
معظم المواثيق الدولية التي سبق سردها سلفا نصت على حق القضاة في تأسيس الجمعيات المهنية للقضاة، وحددت دورها، عكس المادة 111 من الدستور، التي اكتفت بإقرار حق القضاة في تأسيس الجمعيات المهنية دون تحديد دور هذه الجمعيات، وانطلاقا من المبدأ الدستوري الراسخ في تصدير الأخير، والقاضي بالتزام المغرب بمضامين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وفق ما هو متعارف عليه دوليا، وسموها على القانون الوطني، فإنه من اللازم الرجوع إلى هذه المواثيق للوقوف عند مهام الجمعية المهنية للقضاة،
فبالرجوع إلى البند 9 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلالية السلطة القضائية نجدها تنص على أنه : تكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات للقضاة وغيرها من المنظمات لتمثيل مصالحهم والنهوض بتدريبهم المهني وحماية استقلالهم القضائي، وفي الإنظمام إليها، وينص البند 4/13 من مبادئ بانغلور للسلوك القضائي على أنه : ( يجوز للقاضي أن يشكل رابطات للقضاة أو ينظم إليها أو يشارك في منظمات أخرى تمثل مصالح القضاة، وتنص المادة 12 من الميثاق العالمي للقضاة الذي تم الموافقة عليه بإجماع المجلس المركزي للإتحاد الدولي للقضاة في 17 نونبر 1999، على أن للقاضي الحق في الانتماء إلى رابطة مهنية معترف بها قانونا حيث يتشاور القضاة فيما بينهم لاسيما فيما يتعلق بالأنظمة والأحكام الخاصة بهم، وأخلاقيات المهنة ووسائل العدالة الأخرى وحيث يتسنى لهم الدفاع عن مصالحهم المشروعة، وجاء في الميثاق الأوربي بشأن النظام الأساسي للقضاة و المذكرة التوضيحية (ستراتبورغ 8 يونيو 1998) أن : ( المنظمات التي ينشئها القضاة تساهم بشكل ملحوظ في الدفاع عن الحقوق الممنوحة لهم قانونا)، وجاء في البند الرابع من توصية المجلس الأوربي رقم 12 لسنة 1994 بشأن استقلال وكفاءة ودور القضاة أنه : (للقضاة حرية تكوين الجمعيات منفردين أو مع هيئة أخرى بغية المحافظة على استقلالهم وحماية مصالحهم)، ونفس الأمر أسس له في توصية المجلس الأوربي رقم 19 لسنة 2000 بشأن دور النيابة العامة في نظام العدالة الجنائية.
إذن فهدف الجمعيات المهنية للقضاة حسب ما ورد بمختلف المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، يكمن في الدفاع عن مصالح القضاة وحماية استقلالهم القضائي، والواضح أن التأويلات التي يعطيها البعض لواجب التحفظ ببلادنا تروم أساسا للإجهاز على هذه الوظيفة النبيلة للجمعيات المهنية، بحيث تفسر كل محاولة للدفاع عن مصالح القضاة واستقلالهم، بأنها خروج عن واجب التحفظ، في خرق واضح للدستور المغربي الذي أقر بحق القضاة في تأسيس جمعيات مهنية من جهة، وأكد من جهة ثانية تشبثه بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، هذه الأخيرة التي جعلت المهمة الأساسية للجمعيات المهنية هي : الدفاع عن مصالح القضاة واستقلالهم، ويكفي لمن لا يؤمن بكونية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة رغم إقرار الدستور بذلك، أن يرجع إلى بعض التجارب التي سبقتنا في هذا المجال، سواء في فرنسا أو مصر أو تونس أو السنغال... ليستفيد، و للإشارة لم نسمع يوما في تجربة من التجارب التي سبقتنا أن واجب التحفظ يتعارض مع الحق في الإحتجاج، بشتى وسائل الإحتجاج بما في ذلك الإضراب، ولكم في إضرابات القضاة في فرنسا مهد الحريات دليل.
إذن إذا كانت الوظيفة الأساسية للجمعيات المهنية للقضاة وفق المتعارف عليه دوليا هي الدفاع عن مصالح القضاة واستقلالهم، فكيف يصادر حق القضاة في انتهاج أساليب الإحتجاج الرامية إلى الدفاع عن مصالحهم واستقلالهم – للإشارة فقط فمعظم المواثيق الدولية تتحدث عن لفظ الدفاع بكل ما تحمل كلمة الدفاع من معنى-.
2 - واجب التحفظ والحق في الإحتجاج ما بين قطاع الوظيفة العمومية والسلطة القضائية.
من الواجبات الملقاة على عاتق الموظف العمومي، نجد واجب التحفظ، وقد تم التنصيص على هذا الواجب صراحة في بعض النصوص القانونية، كالمادة 93 من المرسوم رقم 388.06.2 الصادر بتاريخ 5/2/2007 المتعلق بالصفقات العمومية، إلا أنه وفي نفس الوقت نجد المادة 14 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية تنص على أنه : يمارس الموظف العمومي حقه النقابي ضمن الشروط المنصوص عليها في التشريع الجاري به العمل، ومعلوم أن ممارسة الحق النقابي لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن الحق في الاحتجاج، إذن حتى على مستوى التشريع المحلي لا يتعارض واجب التحفظ مع الحق في الإحتجاج، مادام أن القانون يفرض على الموظف العمومي واجب التحفظ، وفي نفس الوقت يخوله الحق في ممارسة الحق النقابي.
وعلى أرض الواقع يمارس الموظفون العموميون حقهم في الإحتجاج بمختلف أشكاله، والتي تصل حد الإضراب عن العمل، ولم نسمع يوما أي مسؤول يصادر هذا الحق بدعوى مخالفة واجب التحفظ، وخير مثال لدينا الإضرابات التي خاضها موظفوا كتابة الضبط، فهل هناك تعارض بين واجب التحفظ والحق في الإضراب.
الأكيد أن أهم تبرير يؤسس عليه دعاة منع القضاة من ممارسة حقهم في الاحتجاج هو واجب التحفظ، ومبرر عطلة المرفق العام بسبب الإحتجاج، فالقضاة يحظر عليهم ممارسة حقهم في الدفاع عن مصالحهم عن طريق الإحتجاج لأن في ذلك خروج عن واجب التحفظ، حسب البعض، ولما يؤدي إليه الإحتجاج من عطلة في المرفق العام، إذن لماذا أقر القانون حق الموظف العمومي بممارسة الحق النقابي رغم أنه أوجب عليه الإلتزام بواجب التحفظ ؟ ألا يعتبر إضراب الموظفين العموميين تعطيلا للمرفق العام ومع ذلك يعترف لهم بحقهم في الإحتجاج ولو عن طريق الإضراب ؟ أم أن احتجاج القضاة هو فقط من يساهم في عطلة المرفق ويخرج عن واجب التحفظ ؟
كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة من قبل كل من يروج لتأويلات مخالفة للروح الحقوقية الكونية للدستور الجديد.
*عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.