أجواء ممطرة في توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس بالمغرب    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية من خلال الضبط الصارم وتشديد الرقابة الرقمية وتوسيع دائرة العقوبات    تفكيك شبكة إجرامية تهرّب الحشيش من المغرب إلى إسبانيا بواسطة طائرات مسيّرة    التقدم والاشتراكية: البلورة الفعلية للحُكم الذاتي في الصحراء ستفتح آفاقاً أرحب لإجراء جيلٍ جديدٍ من الإصلاحات        البواري يتفقد الفلاحة ببنسليمان والجديدة    بعد ضغط أوربي... تبون يعفو عن الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال    بنكيران يدعو لدعم إمام مغربي حُكم بالسجن 15 عاما في قضية "صامويل باتي"    عامل إقليم الحسيمة يترأس لقاء تشاورياً حول برامج التنمية الترابية المندمجة (فيديو)    أشبال الأطلس يرفعون التحدي قبل مواجهة أمريكا في مونديال الناشئين    الحكم الذاتي: من الإقناع إلى التفاوض إلى التطبيق ..    توقيع اتفاقية شراكة بالرباط للنهوض بالثقافة الرقمية والألعاب الإلكترونية    مدرب مالي: حكيمي لاعب مؤثر وغيابه مؤسف للمغرب    عجز في الميزانية يقدر ب55,5 مليار درهم عند متم أكتوبر المنصرم (خزينة المملكة)    الرباط.. إطلاق النسخة الثالثة من برنامج "الكنوز الحرفية المغربية"    فاجعة خريبكة.. بطلة مغربية في رفع الأثقال بنادي أولمبيك خريبكة من بين الضحايا    عروشي: طلبة 46 دولة إفريقية يستفيدون من منح "التعاون الدولي" بالمغرب    أمطار رعدية وثلوج ورياح قوية مرتقبة بعدة مناطق بالمملكة غداً الخميس    رياح قوية وزخات رعدية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    رئيس برشلونة يقفل الباب أمام ميسي    الاسبانيّ-الكطلانيّ إدوَاردُو ميندُوثا يحصد جائزة"أميرة أستورياس"    مسارات متقاطعة يوحدها حلم الكتابة    في معرض يعتبر ذاكرة بصرية لتاريخ الجائزة : كتاب مغاربة يؤكدون حضورهم في المشهد الثقافي العربي    على هامش فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في صنف النقد .. الناقد المغربي حميد لحميداني: الأدب جزء من أحلام اليقظة نعزز به وجودنا    أمينوكس يستعد لإطلاق ألبومه الجديد "AURA "    مجلس النواب يعقد جلسات عمومية يومي الخميس والجمعة للدراسة والتصويت على مشروع قانون المالية لسنة 2026    عمالة المضيق الفنيدق تطلق الرؤية التنموية الجديدة. و اجتماع مرتيل يجسد الإنتقال إلى "المقاربة المندمجة"    أربعة منتخبات إفريقية تتصارع في الرباط على بطاقة المونديال الأخيرة    "الكان" .. "دانون" تطلق الجائزة الذهبية    منظمة حقوقية: مشروع قانون المالية لا يعالج إشكالية البطالة ومعيقات الولوج للخدمات الأساسية مستمرة    ترامب يطلب رسميا من الرئيس الإسرائيلي العفو عن نتنياهو    مؤسسة منتدى أصيلة تفوز بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والاداب في مجال المؤسسات الثقافية الخاصة    مصرع 42 مهاجرا قبالة سواحل ليبيا    لجنة المالية في مجلس النواب تصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    اختلاس أموال عمومية يورط 17 شخصا من بينهم موظفون عموميون    مباريات الدور ال32 ب"مونديال" الناشئين في قطر    استبعاد يامال من قائمة المنتخب الإسباني    "الماط" يستغل تعثر شباب المحمدية أمام اتحاد أبي الجعد ويزاحمه في الصدارة    وكالة الطاقة الدولية تتوقع استقرارا محتملا في الطلب على النفط "بحدود 2030"    السعودية تحدد مواعيد نهائية لتعاقدات الحج ولا تأشيرات بعد شوال وبطاقة "نسك" شرط لدخول الحرم    مستشارو جاللة الملك يجتمعون بزعماء األحزاب الوطنية في شأن تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في األقاليم الجنوبية    إسرائيل تفتح معبر زيكيم شمال غزة    حجز آلاف الأقراص المهلوسة في سلا    تقرير دولي: تقدم مغربي في مكافحة الجريمة المنظمة وغسل الأموال    الأمم المتحدة: الطلب على التكييف سيتضاعف 3 مرات بحلول 2050    ليلة الذبح العظيم..    ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالمية    "جيروزاليم بوست": الاعتراف الأممي بسيادة المغرب على الصحراء يُضعِف الجزائر ويعزّز مصالح إسرائيل في المنطقة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ويحك يا دهر..!
نشر في هسبريس يوم 26 - 04 - 2013

فى هذا البلد الأمين حيث تغيب أو تنام الشمس بعد رحلتها الطويلة من المشرق البعيد..! فى هذا البلد الذي أطلق عليه الرحّالون والمؤرّخون " ذيل الطاووس" قيّض الله لنا أن نرى فيه نورالحياة ، والذي أزاح عنّا فيه أجدادنا الصناديد النّيرالذي كان يثقل كاهلنا، كنّا نستنشق هواءه العليل،ونأكل خيراته، ونعمه وثماره، وحبوبه وقطوفه، وكلّ ما طاب واستطاب ممّا تجود به علينا طبيعته السخيّة المعطاء كنّا نستمتع ببحره وسمائه ، وشمسه وقمره، وجباله وغاباته، وهضابه وآكامه، وسهوبه ومرتفعاته ، وكواكبه ونجومه ، كلّ ما لم تلمسه يد بشرية آثمة دخيلة لم يكن يأتينا منه إلاّ الخيرالعميم، وكلّ ما يرضي النفس، ويسعد القلب، ويفرح الوجدان.
فى هذا الصّقع الرّيفيّ النائيّ البعيد ذي التضاريس الطبيعية الوعرة ، والأخاديد الجبلية الصّعبة، عشنا على الفطرة ، ترعرناعلى البداوة والبساطة، وعشق الحياة الحرّة الكريمة . فى ربوعنا، وأحيائنا، وأرباضنا، ومرابضنا، وقرانا، ومداشرنا، وضيعنا كنّا ندقّ أبواب الحريّة الحمراء دقّا عنيفا حتي نتسربل بألوانها الزّاهية القانية ولا نرضى أبدا بها أو لها بديلا . حسن الجوار كان دأبنا ، والذّود عن وطننا، وحوضنا، وجيراننا كان ديدننا، وعدم الرضى بالظّلم والضّيم، والجّفوة والجفاء كانت غاياتنا ومرامينا، كانت شيمنا هممنا العالية، وسجايانا مبادؤنا الأصيلة ، وعاداتنا العريقة، وتقاليدنا الحميدة التي تربّينا فى كنفها وترعرعنا على منوالها، منذ نعمومة أظفارنا، وغضاضة إهابنا، وطراوة أعوادنا. كانت كلّ تصرّفاتنا تلقائية عفوية طبيعية بسيطة خالية من التصنّع والمراء والمحاباة والمداهنة .
الأيّام الحالكات
الأمورلم تعد اليوم كما كانت عليه بالأمس القريب ، فقد أصاب صرح الصّدق، والنبل، والوفاء،والشرف، والكرامة شرخ عميق. هؤلاء الغرباء الأبعدون، ذوو السّحن الغريبة ، والشعورالناعمة المنسدلة ، كانوا يقومون بغارات على أراضينا وشطآننا، ودورنا وممتلكاتنا، ومزارعنا وغلاّتنا ،لم نكن نتوانى أو نتردّد قيد أنملة فى دحرهم ، وصدّهم ، وردّهم على أعقابهم من حيث أتوا مخذولين منكفئين يجرّون أذيال الخيبة والمهانة والهزيمة والمذلّة ، من أينما جاءوا أو قدموا، من داخل البرّ القريبّ، أو من وراء البّحرالبعيد . لقد أصبحوا اليوم يفتون ( بضمّ التاء والواو) ولا يفتون(بفتح التاء وسكون الواو) ، وأضحى التنائي بينهم وبيننا بديلا عن تدانينا ، وناب عن طيب لقيانا بهم تجافينا..الألم يعصرنا، والمعاناة تهدّنا، والحنق يخنقنا، والمرارة تعتصرنا، نتنفّس الصّعداء، وننظر إلى السّماء، ونجيل بأبصرارنا فى فضاءاتها الواسعة المترامية الأطراف، ونحدّق فى سديمها السّرمدي الأبدي، وبقدر مشعل على شفاهنا نرجوها أمرا فى أنفسنا، ونستعطفها بلسما شافيا لجرح غائر لا يندمل فى أعماقنا ، ولا من مجيب..!
نعاتب الأيّام الحالكات، ونلوم الليالي المدلهمّات التي لا تؤمن بوائقها ، عسى هذا اليأس يتلوه الرجاء، و لعلّ الله يأتي بعد كرب وغمّ بفرج قريب، نشكو الدّهر القاهر، ونناغي الزّمن الغادر فى هذا الوطن الصغير، وداخل الوطن الكبير....ولسان حالنا جهارا يقول:
يا دهر ويحك ماذا الغلط... وضيع علا ورفيع هبط ..!
عجلة القيصر
إنّها عجلة عربة خصوم " يوليوس قيصر"عندما وقع فى الأسر ...لم يكن نظره يحيد عنها وهي تعلو وتنزل خلال دورانها فى ذبذبة وتوتّر، ثم لا تلبث أن تعيد الكرّة تلو الأخرى من أعلى إلى أسفل ، ومن أسفل إلى أعلى، وعندما سأله سجّانوه أن لماذا لم يحد نظره قطّ عنها طوال الطريق..؟ قال إنّها تذكّره بحال الدّنيا، تارة فوق، وطورا تحت ، وأردف قائلا: أنظروا إلى حالي أين كنت بالأمس، وأين أصبحت اليوم.. !
لا من رقيب ، ولا من حسيب،ولا من مجيب ، لقدغدت الممتلكات تقايض (بفتح الياء) مقابل فتات من العيش رخيص لا يسدّ رمقا، لا يسمن ولا يغني من جوع ، ذووها خانعون، قانعون، راضون ، مستسلمون ، كلّ آمالهم أن تمطر السماء يوما ليعمّ الخير والصّبا والرذاذ....
المال يا صاح يستر كلّ عيب فى الفتى....والمال يا صاح يرفع كلّ نذل ساقط ،المال يا صاح أضحى فى أيامنا اللعينة زينة الدّنيا وعزّ النفوس..... يبهي وجوها ليس هي باهيا... فها كلّ من هو كثير الفلوس ... ولّوه الكلام والرّتبة العاليا. والدراهم كثيرة وافرة هي فى الأماكن كلّها، تكسو الناس والرّجال والنساء مهابة وجمالا ... وقد أضحت لسانا طليقا صريحا صدّيحا لمن أراد فصاحة... كما أصبحت سمّا ناقعا ، وعلقما مرّا، وسلاحا فاتكا لمن أراد مواجهة أو رام قتالا ...
أجل.. ما أكثرهم..هؤلاء الأقربون، لقد ولّوهم الكلام ، والرّتبة العاليا، ، من ذوي القربى والأصهار والأنصار،ليسوا من سلالة أنصار يثرب ، بل إنّهم أنصار العصر،أنصار صناديق الإقتراع والمحاباة ، والمداهنة والمصانعة ، فى زمننا هذا العربي الحزين المثقل بالهموم والرزايا ، والدم ، وليس للمعوزين،الكادحين المحرومين، العسفاء ، هؤلاء الأقصون الأبعدون الذين يعضّون على الحديد أوعلى الحجر الصّلد عضّا مؤلما حنقا، وغيضا، وكربا، وكبرياء، وكآبة، وضيما.
سجّلها ذات يوم "روم لاندو" فى تاريخه عند مروره بحيّهم ومرابضهم ، قال :" لقد لاحظت الأنفة والكبرياء، وعزّة النفس فى مشيتهم الثابتة.. همّتهم عالية منتصبة، وخطواتهم واثقة راسخة شامخة ، يمشون صببا فى إعتزاز وإعتداد، النّاؤون يرومون إقصاءهم، وتقويسهم وتقويضهم، وإضعافهم، وثنيهم.. ولكن هيهات..
الأماجد قدّموا أرواحهم دفاعا عن حوزة الوطن، أعطوا النّفس والنّفيس ذودا عن عزّته، وصونا لكرامته ، روت دماؤهم الزكية كلّ ركن من أركانه ، إنهم يسامون اليوم سوء الصنيع، ويعانون البعاد والتباعد، والإقصاء والتنابذ، والتهميش والجحود، والنكران والنّسيان.
إبن آجرّوم وابن عاشر
الحاضرة العامرة ما إنفكّت فى حفل بهيج، أقيمت المواكب والكواعب ، ونثرت الأزهاروالورود، والياسمين والرّياحين، ورشقت ثمرات الكرزالرّطبة والمحمرّة كالعنّاب، صدحت الموسيقى ، البياض الناصع يملأ الأجواء والأرجاء ، فالخطب ليس بالهيّن اليسير، إنّه إيذان ببزوغ وإنبثاق إشعاع حضارة متطوّرة، وإنتشار بريق مدنية متقدّمة، و"التبشير" بمبادئ الحريّة، المساواة، والإخاء ، بلغة عريقة راقية لثغاء، لقد أوعزوا حتّى للعلماء وللفقهاء الأجلاّء فى منابرمعاهدهم، ومصاطب كتّابهم، وفى مدرّجات جامعاتهم، بأن ينظموا على شاكلة الآجرومية أو منظومة بن عاشرقصائد عصماء لتسريع وتسهيل وتيسير تعليم هذه اللغة ونشرها وتعميمها على أوسع نطاق، هذه اللغة السّاحرة الآسرة الرّخيمة التي يخرّ لها الجلمود ، ويسجد الصّخر لرقّتها ونعومتها...! فقال قائلهم ساردا ومعلّما وملقّنا بتلك النغمة الموسيقية الفقهية الموزونة المتوارثة المألوفة والمعروفة :
beaucoup........وفى التعبير عن كثير قل cou ، والعنق nezوالأنف ،tête الرّأس
Les fêtes ......... وفى المواسم والأعياد قلle prophète الإله ، والرّسول Dieu
إلى آخر القصيدة الطويلة التي تنتفخ لقراءتها أو لسماعها الأوداج ضحكا وقهقهة...!
الأعمدة الرّاسيات ، والسّواري الرّاسخات ذات الأسماء الرنّانة ، والجرس الموسيقي المميّزما فتئت تعمل على تمرير الإرث الساطع ، والتراث الناصع،حكما وعلما، وأدبا وشعرا، وفقها ولغة، وتاريخا وفلسفة، وحسابا وفلكا، وصرفا ونحوا،وغناء وطربا،وطبخا ونفخا، وسياسة وكياسة، وذكاء ودهاء،وفخّارا ودثارا،وصناعة وإبداعا، وعطرا وزهرا،وبناء وعمرانا،ووضعا وتأليفا،وقزّا وحريرا، وطرزا ونسجا ،وذهبا وفضّة ،ولجينا وعسجدا، وزمرّدا وديباجا...!
إنّها ما زالت تدني وتقصي ، ما فتئت تنهال وتنثال بالجحود المجحف، ، بينها وبين الآخرين برزخ واسع، و يمّ شاسع، وبحر عميق لا قعر ولا قرارله ، إنّها ما برحت تؤجّج الموقد،فالصّقيع زمهرير، وتلقي الحطب فى أتون الكنّ والكانون، من حيث تدري ولا تدري..! .
أحمق من هبنّقة..!
القويّ السّمين يزداد قوّة وسمنة، والضعيف الهزيل يزداد ضعفا وهزالا ،مثلما كان عليه الحال فى الماضي السحيق فى "جاهلية" التاريخ مع المسمّى "هبنّقة " الذي كان يضرب به المثل فى الحمق والخبل والجنون فيقال"أحمق من هبنّقة "،الذي قيل فى حقّه إنّه من حمقه أنه عندما كان يعمل راعيا للبقر عند أحد الميسورين من بني يعرب ، كان يأخذ البقر السّمان إلى المراعي الخصبة حيث وفرة الأعشاب وكثرة الكلأ لترعى ، ويأخذ البقر الهزال إلى الأراضي القاحلة الجرداء من الأرض الكلام ( بضمّ الكاف) ويسرحها هناك، وعندما يأتي صاحب البقر لمعاتبته وتأنيبه فيسأله أن لماذا يفعل ذلك...؟ كان يجيب : أتريدني أن أصلح ما أفسده الله، أوأن أفسد ما أصلحه الله، فالبقر السّمان تستطيع أن تأكل وهي ذات شهيّة طيّبة، لهذا أذهب بها حيث وفرة المراعي والكلأ ، وأمّا البقر الهزال فلا شهيّة لها وليس فى مقدورها أن تأكل لضعفها ووهنها، ولهذا أذهب بها إلى القفار القاحلة، والأرض الصلبة التي لا زرع ولا ذرع ولا كلأ فيها... وما إنفكّت هذه الحكمة سائرة قائمة مأثورة إلى اليوم، السّمين يزداد سمنة، والضعيف يزداد ضعفا... !.
كان هبنّقة من حمقه كثيرا ما ينسى نفسه ، وللتغلّب على هذه الآفة توصّل إلى حلّ ناجع على طريقته حتى يتعرّف على نفسه بسهولة ويسر ولا ينسى نفسه مرّة أخرى، فوضع خيطا سميكا من قنّب على عنقه علّق فيه عظمة صغيرة كان قد وجدها فى أحد المهامه والقفار والمفاوز، وكان كلما إستيقظ من النّوم يبحث عن العظمة المعلقة فى عنقه ويمسكها بيده وبها يدرك ويتأكّد أنّه هو، وحدث ذات يوم أن نام عند أخيه ، فقام أخوه فى جنح الليل ونزع عنه العظمة وعلّقها حول عنقه، وفى الصّباح عندما إستيقظ هبنّقة ولم يجد العظمة معلّقة عليه ذهب عند أخيه ليسأله، فلمّا رأى العظمة معلقة حول عنق أخيه أمسك بها وقال له مشدوها : يا أخي... أنت أنا فمن أنا...؟ !.
بين الثريّا والثّرى
هكذا حال الدّنيا يا صاح ، أيام تمرّ، وليال تنقضي، إنّهم ما فتئوا ينظرون من الأعالي شزرا إلى أسفل، إلى هؤلاء الذين سحقهم القدر، وهدّهم العوز، وأنهكتهم الخصاصة، يمشون عاصبي البطون مرملين من فرط حرقة الطّوى، الآخرون يناطحون عنان السّماء، يعانقون هيادب السّحاب ،يلامسون الثريّا،(إن كنت فى شرف مروم...فلا تقنع بما دون النجوم) ،و(إن كنت فى عدد العبيد فهمّتي ...فوق الثريّا والسّماك الأعزل) ، وبنو طينتهم، وأبناء جلدتهم ملتصقون بأمّهم الأرض الثّرى ،(حسب الخليلين نأي الأرض بينهما... هذا عليها وذاك تحتها بالي) ،لاخوف عليهم ولا هم يحزنون،سقطتهم بلا رضوض ، وسقطة "الأعلون" مؤلمة كاسرة قاصمة للظّهر، إنكم لن تخرقوا الأرض ولن تبلغوا الجبال طولا، فى القمم الشامخات ، فى العلوّ الشاهق تشتدّ هبوب الريّاح،إنها هناك أكثرعتوّا وقوّة ، الزّوابع والتوابع بها لا تني ولا تنتهي، العواصف الهوجاء لا تتوقّف، فاخفضوا جناح الذلّ ، وطأطئوا الرؤوس، ولا تشرئبّوا بالأعناق... فما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد ، سيروا إن إسطعتم فى الهواء رويدا... لا إختيالا على رفات العباد، فربّ لحد قد صار لحدا مرارا ، ضاحك لتزاحم الأضداد..... وكلّ بيت للهدم ما تبتني الورقاء والسيّد الرّفيع العماد... !
كلام يتناثر في الهواء ، تماما كما تناثر في القديم كلام من شيّدوا في أخيلتهم مدنا فاضلة ، وأقاموا فيها صروحا وقصورا، وظلّت العدالة فيها طائرا كسير الحناحين، يحلق بالكاد حولها، لا يشمّ (بضمّ الياء) فيها سوى رائحة الظلم والعنت في كلّ مكان، اليوم لم يعد ثمة أناس من هذا النّوع، لقد أصبحوا في عرف الآخرين شبيهين بالمجّانين الذين يفنون أعمارهم في الأوهام والخيالات، والآهات،والترّهات التي لا طائل تحتها.هؤلاء هم الذين يعانون أكثر من غيرهم من مختلف ضروب البؤس واليأس والعنت والتعاسة والنكد والبغض والحرمان ،لقد كسدت أسواق الفكر الخلاّق، ونشطت حركات التقاليع الرخيصة في دنيا الفنون والجنون والمجون من كل ضرب.
البشرية غزا الشيب مفرقها ، وأضاعت عمرها في ويلات الحروب والتقاتل،والتطاحن، والتشاكس، والتنابذ، والمواجهة، والعداوة، والبغضاء. نأسى ونتأسّى، ونلتاع حزنا وضنكا.أيّها الباذخون المتخمون ، ثوبوا إلى رشدكم ، إرجعوا إلى أنفسكم، فقد بلغ السّيل الزّبى ، وفاض الكأس، وطفح الكيل، وربّ عظيمة دافعت عنهم... وقد بلغت نفوسهم التراقي... !
وفى الختام ،ولا ختام، ونحن فى ذيل المقال ، نعود لصدره لنتدبّر ونتأمّل فيما ورد من سبب فى إطلاق إسم " ذيل الطاووس" على هذا الصّقع النائي البعيد ، إذ يحكى أنّ رحّالة من أهله زار ذات مرّة بغداد التي كانت تسمّى إبّانئذ مدينة السلام ..! فى زمن لم تكن فيه القارة الأمريكية قد إكتشفت بعد ، وكان الناس يعتقدون فى ذلك الأوان أنّ العالم ينتهي عند هذا السّاحل الأقصى، وفى إسبانيا بمنطقة جليقة أو غاليسيا مكان يسمّى (فينيشتيرّي) ومعناه حيث تنتهي الأرض، ويقال إنّ الفاتح عقبة بن نافع دخل بحصانه فى مياه المحيط الأطلسي على الشواطئ المغربية حتى غطّتت مياه البحر قوائمه ، وإستلّ سيفه ورفعه إلى أعلى فى الهواء مخاطبا المحيط الهادر قائلا له : "والله لو كنت أعلم أنّ وراءك أرضا لفتحتها بسيفي هذا "...! المهمّ أنّ رحّالتنا عندما كان ببغداد رمقته عيون الخليفة الذي ما أن أبلغوه بوجوده بالمدينة حتّى أمرجنده بإحضاره إليه ، فلمّا مثل بين يديّ الخليفة قال له متهكّما : يا مغربي قيل لي إنك قدمت من بلد بعيد ، وقيل لي كذلك أنّ الدّنيا على شكل طائر كبير، ذيله المغرب الأقصى (مستهزئا ومتهكّما). فأجابه الرحّالة على الفور: أجل يا أمير المؤمنين هذا صحيح، ولكنّ الذين أخبروكم بذلك نسوا أن يقولوا لكم أنّ هذا الطائر هو الطاووس، وأنّ أجمل ما فى الطاووس ذيله...!
*كاتب من المغرب يعيش فى إسبانيا (غرناطة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.