قبل أن ندلف إلى تصور العلمانيين لمقام النبوة؛ يتحتم علينا لزاما أن نشير قبل ذلك إلى موقف العلمانيين من الوحي في حدّ ذاته؛ فهم يعتبرون رسالة رب السماء إلى الأرض حالة تخييلية تعتري الأنبياء؛ وأن الوحي يخضع للتطور وحركة التاريخ؛ وأن الدين حالة نفسية تصاب بها الشعوب إثر الهزائم المتكررة؛ أو ظاهرة تاريخية أفرزتها الظروف الاقتصادية والاجتماعية ينبغي أن تختفي باختفاء أسبابها أو انتهاء الحاجة إليها؛ ومنهم من يعتبر الوحي باطلا علما وتجربة. قال العلماني محمد أركون: (جاءت العلمنة والعقل الحديث لكي يشكلا في كل مكان وعلى كافة المستويات الثقافية والمفهومية صدعا أو حدا فاصلا؛ بين أولئك الذين يقبلون بالمحتوى والوظيفة الروحية للوحي؛ وأولئك الذين يرفضونه باعتبار أنه باطل علميا وتجريبيا). (القرآن في التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني:18). وبناء عليه كان موقفهم من النبوة غير خارج عن هذا الإطار؛ حيث جعلوا من النظريات الغربية التاريخية والاجتماعية والفلسفية والنفسية مرجعا لبناء تصورهم حول مقام النبوة. يقول عبد الرحمن بدوي: (الدين والتدين عامة إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء، وعلى هذا فلا بد للإلحاد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تُكوِّن عصبَ الدين وجوهره.. وهذا يفسر لنا السرّ في أن المُلحدين في الروح العربية إنما اتّجهوا جميعاً إلى فكرة النبوّة وإلى الأنبياء، وتركوا الألوهية، بينما الإلحاد في الحضارات الأخرى كان يتّجه مباشرةً إلى الله. ولا فارقَ في الواقع في النتيجة النهائية بين كلا الموقفين؛ لأن كليهما سيؤدي في النهاية إلى إنكار الدين). (من تاريخ الإلحاد في الإسلام؛ عبد الرحمن بدوي 7-8). فالنبوة لا تعدو أن تكون بالنسبة للمنتمين لهذا التيار تخيلات وحالة إنسانية؛ "ولا يصح أن تفهم على أنها ارتباط وتواصل بين المرسل (الله تعالى) والمرسل إليه (الرسول)، ولو فرض وجود نوع من هذا الاتصال فهو لمرحلة من عمر البشرية تجاوزها الإنسان بعد أن شبّ عن الطوق". (انظر موقف الليبرالية في البلاد العربية من محكمات الدين؛ للدكتور صالح الدميجي). قال العلماني نصر حامد أبو زيد في نقد الفكر الديني (ص:206): "إذا كنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية؛ فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي أيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها". وقال العلماني المتطرف حسن حنفي في مقدمة رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، (ص:134): (لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال؛ وينتج عن ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا). وقال أيضا في كتابه "من العقيدة إلى الثورة" (3/34): (القول بمصدر النبوة الإلهي نوع من التعمية والتضليل، وإخراج لها من طبيعتها الحسية وصفتها البشرية؛ فالنبوة ليست غيبية؛ بل حسية تؤكد على رعاية مصالح العباد. والغيبيات اغتراب عنها، والمعارف النبوية دنيوية حسية تتعلق بشؤون الناس وصلاح معاشهم). ومن العلمانيين من ذهب إلى أن النبوة مرحلة تاريخية حتمية تحتاجها البشرية في طور من أطوارها، ثم تنتفي الحاجة إليها بعد الانتقال إلى طور آخر ومرحلة جديدة يعطى فيها العقل الريادة لسوق البشرية إلى ما يراه نافعا لها. فجهد وعمل المنتمين لهذا التيار ينصب على فصل السماء عن الأرض؛ والخالق عن المخلوق؛ وهدم الدين بمهاجمة النبوة؛ تفانيا في خدمة عقيدتهم ونظرتهم لله تعالى والكون والإنسان؛ هذا الأخير الذي يجب ألا يخضع -بالنسبة لهم- لأي سلطة خارجية أيا كانت؛ سوى سلطة نفسه وهواه. وكأن الإنسان لم يخلق لغاية محددة ووظيفة عظيمة. قال الحق سبحانه: (أيَحْسِبُ الإنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدَى). قال الشافعي رحمه الله: "لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى" (أحكام القرآن). ورحم الله العلامة ابن قيم الجوزية إذ قال: (المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة، ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة) (الصواعق المرسلة 3/955). إن العلمانيين جملة مخالفون لما نصت عليه كتب عقائد المسلمين في الإيمان بهذا الركن العظيم من أركان الإسلام؛ الذي هو قرين الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ فمنهم منكرون للنبوة، ومنهم من له تصور آخر مؤسس على فلسفات ونظريات غربية غريبة كما سبق ذكره؛ وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم الخرجات والتصريحات لبعض المنتمين لهذا التيار؛ فجلها تندرج في هذا الأصل العام. إن النبوة مقام عظيم واصطفاء وتشريف من الله سبحانه تعالى لبعض خلقه؛ لا يكون لأحد سواهم؛ فهم طريق معرفة توحيد الله تعالى وشريعته المنظمة لكافة مناحي الحياة. فيستحيل للعقول البشرية أن تستقل لمعرفة ما ينفعها ويهديها ويحقق لها السعادة التامة دون الاهتداء بالوحي والرجوع إلى رسالة الله تعالى وكلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنه لما علم خالق الإنسان -سبحانه- أن هذا المخلوق الذي كرمه بالعقل؛ عاجز عن إدراك الغاية من خلقه؛ وبلوغ نظام عادل يؤطر حياته وينظمها وفق ما يصلحه ولا يبلغ به العنت؛ أرسل سبحانه {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}. [email protected]
