«لن نَقبل إلى الأبد أن يكون الاحترامُ المُولَى إلى قِناع الفلاسفة غير مُفيد في النهاية إلّا لسُلطان أصحاب الأموال.» (پول نيزان) «في 1932، كَتَب پول نيزان رسالتَه الصغرى "كلاب الحراسة" لاستنكار [دَوْر] الفيلسوف الذي كان يسعى إلى إخفاء مُشارَكته في "حاضريّة زمنه غير الخالصة" تحت رُكامٍ من المفاهيم الكبرى. وفي أيّامنا، غالبا ما يُوضع تحت تصرُّف أشباه الفيلسوف مُزيِّنةٌ ومُكَبِّرُ صوت وليس فقط مِنْبر كُرسيٍّ جامعيّ. وبصفتهم مُخرجِين للوقائع الاجتماعيّة والسياسيّة، الداخليّ منها والخارجيّ، فإنّهم يُشوِّهُونها بتناوُب الأدوار بينهم. إنّهم يَخدمون مَصالح سادة العالَم. وهؤلاء هُم كلاب الحراسة الجُدد.» (سرج حليمي) «عموما، لا يُحبّ النّاسُ على الإطلاق أن يُتّخذُوا مَواضيع، أن يُوضَّعُوا، والصحافيُّون أقلّ من كل الناس [قَبُولا بالتّوْضيع].» (پيير بورديو) الذين دَعموا الانقلاب العسكريّ في "مصر" لَمّا يُدركوا بعدُ خطورةَ الورطة التي وَضعوا أنفسهم فيها لأنّهم، في مُعظمهم، لا يكادون يَتحرّكون في مَواقفهم وكتاباتهم إلّا بكراهيّتهم الجذريّة ل"الإسلاميِّين" (كراهيّتهم التي تُفسَّر، في آن واحد، موضوعيّا ولاشعوريّا!). ولعلّه من سوء حظّهم أنّ «المُنْقلَب عليهم» قد صمدوا طويلا أمام كل المَكائد والمِحن وأنّ كثيرا من الذين سكتوا عن الانقلاب طويلا أخذوا يَخرُجون عن صمتهم فيُعطون للمُسمَّيات أسماءَها الحقيقيّة كما فعل عضوُ مجلس الشيوخ الأمريكيّ "جون ماكّين" وكما جاء أخيرا في بيان الستّين عالما سُعوديّا (طبعا، مع حفظ كل الفُروق المُمكنة)! وأشدّ من ذلك أنّ مُؤيِّدي الانقلاب خارج "مصر" صاروا يَتعلّقون بأيِّ شيء لمُداراة ورطتهم كما فعلوا في "تونس" حينما رَكِبُوا جريمةَ اغتيال اليساريّ "محمد البراهميّ" وكما حاولوا قبل أيّام في "المغرب" بعد فضيحة العفو عن المُجرم الإسبانيّ مُغتصب الأطفال (يَنسى الذين فشلوا في تحريك الشارع بتقليد "الانقلابيِّين" أنّ مُمارَسة السياسة باستغلال الأعراض والحُرمات تُعادل، على الأقل، استغلال الدِّين فيها بما يُؤكِّد أنّ إرادة "تحييد" الدِّين من السياسة تَؤُول إلى إرادة "تخصيص" استغلاله بتقديس السياسة وجعلها تبدو وحدها بريئةً من كل استغلال غير شريف!)، بل إنّهم يَأبون إلّا أن يُمعنوا في تورُّطهم من حيث إنّهم اندفعوا – من دون تمييز- لاتِّهام "الإسلاميِّين" في كلتا الحالتين كأنّ هؤلاء ليسوا سوى "استرهابيِّين" يَستحلّون القتل بلا حقّ أو مُفسدين يُحبُّون أن تشيع الفاحشةُ بين الناس فيَقبلون السُّكوت عن مُقترفِيها رِضًى بمَقام الشيطان الأخرس (وهو مَقامٌ ليس حكرا ل"الإسلاميِّين" المُتورِّط بعضهم، بالفعل، في خدمة أنظمة "الاستبداد" و"الفساد" ؛ أما عُلماء السُّلْطان، فأنّى لهم أن يُدافعوا عن غيرهم وهُم المُفَرِّطون في الدِّفاع عن أنفسهم من جرّاء الاغتصاب الواقع عليهم!). وفي هذا السياق، فإنّ وصفَ الذين يَتفانون في خدمة نظام الحُكم القائم – حتّى لو كان غير شرعيّ كما في حالة "مصر" بعد الانقلاب العسكريّ المفضوح عالميّا- بأنّهم مجرّد «كلاب حراسة» يَعُدّه بعض الطيِّبين من سُوء الأدب أو، بالأحرى، تعبيرا عن شِيَم اللَّعّانين ؛ وإلّا، فهو تأكيدٌ لمدى التّضايُق بالرأي المُخالِف لدى أُناس مُستلَبين إلى حدّ تركيز أنظارهم وأقوالهم على ما يَجري في "مصر" (من الهَيِّن جدّا، في نظر «أنصاف الدُّهاة»، أن يَعمل خُصوم "الإسلاميِّين" على استنساخ تجربة "الانقلابيِّين" و"الاستئصاليِّين" و، بالمُقابل، ليس الأمر كذلك أن يفعل "الإسلاميُّون" كل ما يجب لدعم ضحايا الانقلاب و، رُبّما قريبا، ضحايا الاستئصال!). وبغضّ النّظر عن الاستعارة الظاهرة في عبارة «كلاب الحراسة» (les chiens de garde)، فإنّ من لم يَقرأْ فيها (أو خلفها) إلّا ذلك إنّما يدل على سُوء فهمه و/أو عميق جهله. إذْ أنّ العبارة استُعملت، ولا تزال، من قِبَل كُتّاب غربيِّين لا يَشُكّ في مصداقيّتهم إلّا من جَهِلَ قَدْرَهم، كما أنّه وُصف بها أُناس يَبدُون أحسن حالا من كثير من حُرّاس أنظمة "الاستبداد" و"الفساد" عندنا (هناك «كلاب الحراسة» في خدمة نظام العولمة كنظام ل«الحُريّانيّة المُحدَثة»!). ومن قرأ كتاب «كلاب الحراسة» لصاحبه "پول نيزان" (Paul Nizan, les chiens de garde, 1932) أو كتاب «كلاب الحراسة الجُدد» لصاحبه "سِرْج حليمي" (Serge Halimi, les nouveaux chiens de garde, 1997, 2005) أو كتاب «في التّلْفزة ونُفوذ الصِّحافة» ل"پيير بُورديو" (Pierre Bourdieu, Sur la télévision suivi de l'emprise du journalisme, 1996) أو شاهَد الفِلْم الوثائقيّ «كلاب الحراسة الجُدد» (هو بالفرنسيّة ومن إخراج "جيل بَلْباتر" و"يّانيك كيرغُوات"، 2012)، لن يجد ما يَشفع له في ردّ تلك العبارة إلّا أن يكون ممّن يَخشى أن يفتضح أمرُه بصفته أحدَ المَعْنيِّين من الذين يَنْسون – حتّى بعد الكتاب/المَرْجع لِ"جورج ليكوف" و"مارك جونسون" عن «الاستعارات التي نحيا بها» [1980] (أو، كما كان يُفترَض في ترجمةٍ غير حرفيّة، «ولَكُم في الاستعارة حياةٌ» قياسًا على «وَلكُم في القِصاص حياةٌ»!)- أنّ بلاغةَ التّلْميحات الاستعاريّة لا تكاد تَترُك لجفاف التّعبير الحقيقيّ وضَيْقه أيّ فُسحةٍ في حياة الناس اليوميّة، لأنّها – بكل بساطةٍ- أقوى توجيها وأشدّ تهذيبا منه كما جرت بها العادةُ لدى كبار الكُتّاب وأيضا كما هي في كِتاب اللّه قُرآنًا يُتْلَى وذِكْرًا يُتعبَّد به («فمَثلُه كمَثَل الكلب، إنْ تحمل عليه يَلهثْ أو تتركه يَلْهثْ!» [الأعراف: 176])! إنّ الذين يَتعاطون "التّضليل" باستعمال شعاراتٍ كُبرى مثل الدِّفاع عن «قضيّة الشّعب» أو «حُقوق الإنسان» ويَغْفُلون عمّا يَحرصون على مُلاحَقته من مَصالحَ شخصيّة أو فئويّة – مُرتبطة، إنْ جزءا أو كُلًّا، بنظام الحُكْم القائم- لن يَقبلوا أن يُوصفوا ب«كلاب الحراسة» ولا بأن يَشتدّ المرءُ في فضح لَعِبهم مُبيِّنا مدى تعاطيهم ل«خطاب اللَّغْوى» من خلال تفضيلهم الكَيْل بمكيالين و/أو اعتمادهم فقط لما يُناسب أغراضهم. وإنْ يكن ثمّةَ فعلٌ يُعبِّر عن الإيمان بمسؤوليّةِ حُريّة التّعبير وبالحقّ في الاختلاف، فإنّه الاجتهاد في نقد الأفكار والذّهاب في تمحيصها إلى أبعدِ حدٍّ (لم يكن موضوع المَقال السابق سوى نقد آليّةِ "الفَوازير" كإحدى الآليّات التي يَشتغل بها خطاب "التّضليل"؛ لكنّ مثل هذا النّقد لا يُنظَر إليه، بين ظَهْرانَيْنا، إلّا كتَهجُّم على الأشخاص أو كعدمِ قَبُول بالحقّ في الاختلاف!). ولذلك، فإنّ الذين يَضعون ألسنتَهم وأقلامَهم في خدمة "اللّاشرعيّة" يَستحقّون أن يُفضَحوا بأسمائهم على المَلأ، خصوصا إذَا كانت أعمالُهم شاهدةً عليهم بما يَصنعون. ومن كان هذا حالَه، فلا شيء أصدقُ في الدّلالة عليه من وصفه كما يُوصَفُ ذلك الحيوانُ الذي عُرف بشدّة الوَفاء لوَليِّ نعمته فتَراه يقوم دائما على حراسته والذّبّ عن مُمتلكاته ومَصالحه! ولا يخفى، هُنا، أنّ فضيلةَ استعارة «كلاب الحراسة» أنّها تفضح ذلك الميل الطبيعيّ المُميِّز للغرائز الحيوانيّة خصوصا حينما يَتّخذ عند البشر طابعا بديهيّا (ومقبولا) يُخفي كونه غير بريء من الناحية الاجتماعيّة بما هو تعبير عن التورُّط الخُلقيّ والسياسيّ في مُلاحَقة الخيرات الماديّة والرمزيّة ذات القيمة في كل مجال حيث يُخاض اللَّعب و"المُلاعبة" كما تُؤكِّده اجتماعيّات "بُورديو". والأكيد أنّ الأمر يَبقى - ما لم يُذْكَر أشخاصٌ بأعيانهم موصوفين بأنّهم «كلاب حراسة» دون غيرهم- مُتعلِّقا بوصفٍ عامّ يُتْرَك تعيينُه بين الأفراد للّذين لهم حساباتٌ شخصيّةٌ يَلْهثون وراء تصفيتها كيفما اتّفق لهم. وهيهات أن يُدفَع نقدٌ بمجرد ربطه بعَيْب الأشخاص (المُستنكَر مبدئيّا) كأنّ في هذا الربط غَناءً عن النُّهوض بواجب الاستدلال في تهوين الأفكار أو تعزيزها. وفي هذا وحده، فليَتنافس المُجتهدون!