منتصف الليل. خليط بشري ولغط. لا مكان لزبون جديد في هذه المقهى. على شارع محمد الخامس في وجدة، تطل الكراسي المصفوفة في غير انتظام. أمد رجلي الحديدية على كرسي حديدي وأستغرق في الكتابة. تشاء الصدف أن يأخذ زبونٌ الكرسي فأضع رجلي على الأرض. يعتذر في أدب فألاحظ أن أسنانه الأمامية متلاشية. البلْية، الله يعفو. نسمي البلْية في الكلام الدارج ونقصد الإدمان. ونستعمل البلِيّة في الفصحى لنعبر عن المصائب والطوام و"البلاء". وشر البلية ما يضحك. لا أضحك. لا بيت يأويني هذه الليلة. جالسا، كما أنا، سأظل حتى الصباح. أليس شر البلية ما يضحك؟ أشعر، مثل ما كان يقول محمد برادة، أن كل ما أكتب لا يرقى إلى النغمة الصحيحة !! .. ثمة شيء ما يجعلني غير راض. ربما لأنني لم أستطع بعد أن أترجم ما أحس به مكتوبا يُقرأ. وقدماي.. يا إلهي.. تشتاقان للفحة هواء. أتقزز حين أفكر في قدمي. أراقب كل هؤلاء الزبائن في المقهى فيزيد ألمي وأدرك أن حقيقة الألم في القياس. لا قياس مع وجود الإرادة ! أخرج من القمقم أيها المارد. أنفض عن عزيمتك التراب. ويحك قم.. لا أستطيع.. ! هذه الكلمات وجدتها مخطوطة على وريقات أحتفظ بها من زمن المعاناة الجميل. شاب طموح يخرج إلى دنيا الناس عاريا من كل شيء سوى من إيمانه بقدراته. طموح، لكنه معاق يشد رجله المشلولة وسط قضيبين حديديين وشرائط قماش. في تلك الفترة، أي قبل ست سنوات ونيف، كنت أعيش ما يشبه الفقر المدقع. لا أمد يدي أبدا لوالدي. كان اسمي يتردد عبر الأُثير في إذاعة وجدة مقترنا بكل معاني التقدير لكنني كنت أبيت في العراء وفي المقاهي لأن "التعويضات" كانت تتأخر بالشهور الطوال. ولك أن تتخيل "حجم" المفارقة وأنت ترى أن هذا المُلقى على هذا الكرسي يغفو ثم يصحو، في متواليات لا تنتهي إلا بطلوع الشمس، هو عين ذاك المذيع المتألق الذي تستقبل برامجه عشرات المكالمات الهاتفية ويملأ الدنيا ويشغل الناس. ولكم كنت أتمثل، وأنا أعيش تلك الحياة المرتجة، الفقيرة من كل شيء إلا من حب الناس، بقول الشاعر: يا طريدا ملأ الدنيا اسمه.. وغدا لحنا على كل الشفاه.. وكم ذا أقول لو جئت أقول. في وريقات ذاك الزمن التي لا أزال أحتفظ بها كتبت في تلك الليلة: لا يمكن أن أكون منافقا حقيرا أكذب على الناس في "الوجه الآخر للحياة" (برنامج يحتفي بالنماذج الناجحة في الجهة الشرقية) ثم أجزع حين أصادف في طريقي.. شوكة ! في طريقي إلى المقهى، تلك الليلة، انكسر القضيبان الحديديان اللذان يشدان رجلي وانفرطت عقد الشرائط القماشية. "حَكَّ" الحديد رجلي حتى انسلخ الجلد أعلى قدمي وعلى أطراف ركبتي وقريبا من حزامي. تعودت طوال سني عمري على "أحداث" كهذه. لكن الإحساس بالغربة والقهر والضيم والجوع كان "يَحُوك" في صدري فيسلخه سلخا مثلما الحديد الذي كان يفل عظمي. ولك أن تعجب وأنا أخبرك أنني التحقت بعملي قبل الثامنة صباحا وقدمت برنامجا تنشيطيا صباحيا اسمه: صباح الخير يا وجدة. ولا أعرف إلى اليوم من أين كنت أستمد كل تلك الطاقة التي قهرت بها المستحيل وسحقته "بقدم واحدة". وأضيف يا صاحبي أن حياتي سارت على هذا المنوال شهورا طويلة طويلة. في وريقة أخرى كتبت تلك الليلة: لا أجرؤ أن أسمي ما أعيشه "معاناة". المعاناة أكبر من أن يعيشها واحد مثلي. تصهر الذين اختارتهم في بوتقة الرجولة فإذا هم كائنات بشرية قوية وفاعلة تفعل في الأشياء ولا تنفعل بها. ما أعيشه هذه الأيام ألم خفيف عابر يمنحني شيئا من فخر بنفسي والكثيرَ من التعب الجسدي والنفسي. واليوم.. أعود إلى هذه الوريقات لأرى ما كنت وإلى ما صرت.. ولأقول لشباب بلدي: إن الحياة جهد وعرق وتضحية..