من هو عبد الله اشويخ المدير الجديد لوكالة "أنابيك"؟    مديرية التحديث بوزارة العدل تعيش حالة شلل بعد إعادة انتشار موظفيها    ارتفاع سعر صرف الدرهم ب 0,2 في المائة مقابل الدولار الأمريكي ما بين 6 و12 نونبر 2025    ترامب: آمل بانضمام السعودية إلى "اتفاقات أبراهام" قريبا... وبن سلمان يزور واشنطن الأسبوع المقبل    وليد الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    ليكيب: المغرب يحطم رقمه العالمي في عدد الانتصارات المتتالية بفوزه على الموزمبيق    زخات مطرية قوية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    المال مقابل الدراسة.. رصاصة جديدة تطلقها حكومة أخنوش على الطبقة المتوسطة    وادي المخازن وخلل الموازين / الجزء 12    استفادة الجيش الصيني من "علي بابا" تثير الجدل    أمطار رعدية قوية... نشرة إنذارية تشمل طنجة وتطوان وعدة مناطق شمالية    الملك يجدد الدعم لحقوق الفلسطينيين    اعتداء يوقف 3 أشخاص في مكناس    لحمداني ينال "جائزة العويس الثقافية"    وزارة الثقافة تعلن الإطلاق الرسمي لمشروع تسجيل "فن زليج فاس وتطوان" على قائمة يونسكو للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية    تطور جديد في ملف "إنتي باغية واحد".. متابعة دي جي فان بتهمة تهديد سعد لمجرد    الأستاذ اللبار يدعو إلى رفع مستوى العناية بذوي الاحتياجات الخاصة    حجز أزيد من 23 ألف قرص مخدر وتوقيف شخصين بالدار البيضاء    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    قمة متناقضة بين "الماط" المتصدر ورجاء بني ملال الأخير    "التقدم والاشتراكية" يعلن رفضه لمشروع قانون مالية 2026 ويصفه ب"المخيّب للآمال"    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    خطاب "العُكار": حين يفضح "أحمر الشفاه" منطق السلطة..تحليل نقدي في دلالات وأبعاد تصريح وزير العدل حول الفساد    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    مباراة ودية بطنجة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف لصفر    المغرب يهزم الموزمبيق ودياً بهدف أوناحي.. والركراكي: "لدينا اليوم أسلحة متعددة وأساليب مختلفة"    المسرحية المغربية "إكستازيا" تهيمن على جوائز الدورة 30 لمهرجان الأردن المسرحي    المنتخب المغربي يهزم موزمبيق وديا.. أوناحي يسجل أول هدف في ملعب طنجة بعد تجديده    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    الجزائر.. إجلاء عشرات العائلات جراء حرائق غابات كبيرة غرب العاصمة    تداولات بورصة الدار البيضاء سلبية    إطلاق المرحلة الثالثة من تذاكر "الكان"    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    الطرق السيارة بالمغرب.. افتتاح فرع مفترق سيدي معروف بمعايير هندسية وتقنية دقيقة    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    شَرِيدٌ وَأَعْدُو بِخُفِّ الْغَزَالَةِ فِي شَلَلِي    بوانوو: بلاغ وزارة الصحة لم يحمل أي معطى حول شبهة تضارب المصالح ولم يشرح التراخيص المؤقتة للأدوية التي يلفها الغموض التام    جنوب إفريقيا تحتجز 150 فلسطينيا    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    شركة الإذاعة والتلفزة تسلط الضوء على تجربة القناة الرابعة في دعم المواهب الموسيقية    موقع عبري: الجالية اليهودية في المغرب تفكر في استخراج جثمان أسيدون ونقله إلى مكان آخر بسبب دعمه ل"حماس"    تصفيات مونديال 2026.. مدرب إيرلندا بعد طرد رونالدو "لا علاقة لي بالبطاقة الحمراء"    بوعلام صنصال بعد الإفراج: "أنا قوي"    مدير المخابرات الفرنسية: المغرب شريك لا غنى عنه في مواجهة الإرهاب    مجلس النواب يصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    المركز الثقافي الصيني بالرباط يُنظّم حفل "TEA FOR HARMONY – Yaji Cultural Salon"...    المسلم والإسلامي..    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التفويض بين السلف والخلف "أمروها كما جاءت"
نشر في هوية بريس يوم 07 - 11 - 2022

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛ فإنه يُثار بين الفَيْنَة والأخرى نقاشٌ حول كلمةٍ مأثورةٍ عن السلف، وهي قولهم في نصوص الصفات: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ"، ولعل من أواخر ذلك الجدلُ الذي أثاره كلام الفقيه مولود السريري حول هذه الكلمة، والغرض من مقالتي هذه وما سيأتي بعدها –إن شاء الله- هو تحرير المعنى الذي قصده السلف بهذه الكلمة، لكن قبل ذلك لا بد من مقدمات مهمة يتبين من خلالها مدى أهمية فهم كلام السلف:
المقدمة الأولى: وجوب التقيد بفهم السلف للدين أصولا وفروعا:
من الأمور التي لا يُخالف فيها من له نصيبٌ من العلم، أنه يجب علينا أن نتقيد في فهمنا لديننا بفهم سلف الأمة، وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن اتبع سبيلهم من أهل القرون الفاضلة. فإن اتفقوا على أمر لم نخرج عن إجماعهم، وإن اختلفوا لم نخرج عن خلافهم، ويسعنا من الخلاف ما وسعهم، كما قال ابن الجزري رحمه الله:
فَكُنْ عَلَى نَهْجِ سَبِيلِ السَّلَفِ*** فِي مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفِ
وقد دلت نصوص وآثار كثيرة على لزوم التقيد بفهم السلف للكتاب والسنة، منها:
-الأدلة من القرآن على وجوب التقيد بفهم السلف:
قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُّشَاقِقِ اِ۬لرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ اُ۬لْهُد۪يٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اِ۬لْمُومِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلّ۪يٰ وَنُصْلِهِۦ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ (النساء114).
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى تَوَعَّدَ من خالف سبيل المؤمنين بعذاب جهنم، ولم يكن حينَ نزولِ هذه الآية مؤمنون غير الصحابة رضي الله عنهم، فهم أول الداخلين في هذا الوصف: "المؤمنين"، ثم يُلْحق بهم من جاء بعدهم، ممن اتبع سبيلهم.
وقوله تعالى: ﴿ فَإِنَ اٰمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ اِ۪هْتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِے شِقَاقٍ﴾ (البقرة136).
وجه الدلالة أن الآية تخاطب الصحابة ابتداءً، وفيها أن الله تعالى قد حكم بالهداية لمن آمن بمثل إيمانهم، واعتقد بمثل عقيدتهم، ومفهوم ذلك: أن من خالف عقيدتهم فقد ضل.
وقوله تعالى: ﴿ وَالسَّٰبِقُونَ اَ۬لَاوَّلُونَ مِنَ اَ۬لْمُهَٰجِرِينَ وَالَانص۪ارِ وَالذِينَ اَ۪تَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِے تَحْتَهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ ذَٰلِكَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ ﴾ (التوبة 101).
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى قد وعد السابقين الأولين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بالجنة والرضوان، وفي ذلك تزكيةٌ صريحة لفهمهم للدين، ودعوة واضحة إلى اتباع سبيلهم، واقتفاء أثرهم.
-الأدلة من السنة على وجوب التقيد بفهم السلف:
حديث الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قال: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ » ([1]).
قلت: الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا"، فأمر صلى الله عليه وسلم الصحابة ابتداءً، ومن جاء بعدهم تبعاً، بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، وهم كبار الصحابة، وخيارهم، وقدوتهم، وَوَصَفَهُم ب"المهديين"، وما ذلك إلا لأنهم أعلم الناس بسنته وهديه صلى الله عليه وسلم، وأحرص الناس على طاعته والاقتداء به، فاستحقوا بذلك وصف "المهديين"، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، فهم إنما استحقوا هذا الوصف بسبب طاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، فسنتهم تابعة لسنته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تمسكوا بها»، ولم يقل "بهما"؛ لأنها سنة واحدة، فسنتهم ما هي إلا بيانٌ لسنته صلى الله عليه وسلم، كما أن سنته صلى الله عليه وسلم بيانٌ للقرآن الكريم؛ فهم الواسطة بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم، كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بيننا وبين ربنا لأ في البلاغ.
وفي معنى هذا الحديثِ ما رواه حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْي عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ»([2]).
قال الإمام الطحاوي: "…فتأملنا هذا الحديث، فكان فيه مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالاقتداء بأبي بكر وعمر، معناه عندنا – والله أعلم – أن يمتثلوا ما هما عليه، وأن يَحْذُوا حَذْوَهُمَا فيما يكون منهما في أمر الدين، وأن لا يخرجوا عنه إلى غيره، ثم تأملنا ما أمرهم به من الاهتداء بهدي عمار، فوجدنا الاهتداء: هو التقرب إلى الله لأ بالأعمال الصالحة، وكان عمار من أهلها، فأمرهم أن يهتدوا بما هو عليه منها، وأن يكونوا فيها كهو فيها، وليس ذلك بِمُخرج لغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلك المنزلة…" ([3]).
قلت: التساؤل الذي يُطرح هنا: لماذا يأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول بالتمسك بسنة الخلفاء مع سنته؟ ولماذا يدعونا في الحديث الثاني إلى الاقتداء بأبي بكر وعمر م، والاهتداء بهدي عمار رضي الله عنه، والتمسك بوصية ابن مسعود رضي الله عنه؟ أليس في سنته، وهديه، ووصيته صلى الله عليه وسلم مَا يَكْفِي وَيَشْفِي؟!
الجواب: بلى! في سنته وهديه صلى الله عليه وسلم كفاية وزيادة، ولكن هؤلاء هم عيون صحابته، وهم أعلم الناس بسنته، وأشدهم تمسكا بهديه، فلهذا دعانا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الاستدلال على هديه بهديهم، وعلى طريقته بطريقتهم…
-من أقوال الصحابة الدالة على وجوب الاعتصام بفهمهم للدين:
من ذلك قول: عمر رضي الله عنه حين هَمَّ بقسمة كنز الكعبة بين المسلمين، فقال له شيبة: "مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ"، قَالَ :"لِمَ؟"، قَالَ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ (يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه)، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا"([4]).
ومثله: أَنَّهُ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ، قَالَ: "مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلَهُ"([5]).
قلت: في الحديثين دليل على أن عمر رضي الله عنه على جلالة قدره، لا يستنكف أن يقتدي بأبي بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا لأنه أعلم منه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كَلَّمَه في قتال مانعي الزكاة، وقال له عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ». فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا"، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "فَوَ اللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ"([6]).
انظر رحمك الله! كيف يستدل عمر رضي الله عنه على الحق برأي أبي بكر رضي الله عنه، مع أن معه الحديث، ولكنه يعلم أن أبا بكر أعلم بالحديث منه وفقهه.
ومن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه لأصحاب الحلق الذين وجدهم يذكرون الله بالحصى على هيئة الاجتماع: "مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟!". قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. قَالَ: "فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ. وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ". قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: "وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ"…" ([7]).
قلت: الشاهد منه قوله" هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون": أي كيف تهلكون وصحابة نبيكم كثيرون؟! ومفهوم ذلك أن بالاقتداء بهم، واتباع طريقتهم في الذكر والعبادة، تسلمون من الهلاك، وتنجون من الضلالة.
ومنه قول ابْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ"([8]).
قلت: هذه دعوة صريحة إلى التأسي بالصحابة رضي الله عنهم، وسلوك طريقهم، واتباع آثارهم، في فهمهم للدين، وتطبيقهم لكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وقول ابن عباس رضي الله عنه للخوارج حين ناظرهم: " أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِهْرِهِ، وَعَلَيْهِمْ نُزِّلَ الْقُرْآنُ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، لَأُبَلِّغَكُمْ مَا يَقُولُونَ، وَأُبَلِّغَهُمْ مَا تَقُولُونَ"([9]).
قلت: استدل ابن عباس م على ضلال الخوارج بغياب الصحابة في صفوفهم، وفي هذا تنبيهٌ لهم على انحرافهم، ودليل لنا على أن من خالف الصحابة فقد ضل السبيل.
وقول حذيفة رضي الله عنه: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا تَعَبَّدُوهَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"([10]).
قلت: في هذا الأثر أَمْرٌ بسلوك طريق من قبلنا من الصحابة رضي الله عنهم؛ وتحذير من مخالفة طريقتهم في التعبد.
وعن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أنه كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ, قَالَ: فَقَالَ لَهُ: ادْنُهْ, فَدَنَا, فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ فِيهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَصَلَاةَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا, تَقْرَأُ فِي اثْنَتَيْنِ, أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَالطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, ثُمَّ قَالَ: أَيْ قَوْمُ! خُذُوا عَنَّا، فَإِنَّكُمْ –وَاللَّهِ- إِلَّا تَفْعَلُوا؛ لَتَضِلُّنَّ ""([11]).
قلت: في هذا الأثر دليلٌ على أن من لم يأخذ عن الصحابة ضَلَّ السبيل؛ وذلك لأنهم أخذوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم التأويل (التفسير والفهم)، كما أخذوا عنه التنزيل (الوحي).
وقد سار على درب الصحابة من جاء بعدهم، وأوصوا باقتفاء أثر أسلافهم، كما سيأتي بيانه في المقال الآتي بحول الله…
([1]) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (17145)، ومن طريقه أبو داود (4607)، وأخرجه الترمذي (2676) وصححه، وابن ماجه (42-43). وصححه الألباني وجمع من العلماء كما في الإرواء (2455).
([2]) رواه أحمد (23386)، والترمذي (3805)، وابن حبان في صحيحه (6902)، والحاكم (4455) وصححه، ووافقه الذهبي، وكذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1233).
([3]) شرح مشكل الآثار (2/85).
([4]) رواه البخاري (7275)، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، بَابُ الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
([5]) رواه أحمد (82) بإسناد صحيح.
([6]) رواه البخاري (1399)، ومسلم(20).
([7]) رواه الدارمي (210) بإسناد رجاله موثقون.
([8]) أخرجه ابن عبد البر في الجامع (1810)، والهروي في ذم الكلام (188)، ورجاله موثقون.
([9]) أخرجه النسائي في الكبرى (8522)، واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2656)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (16819).
([10]) الحوادث والبدع للطرطوشي (ص 149)، والاعتصام للشاطبي (2/630).
([11]) أخرجه بهذا اللفظ الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ص 15). وبمعناه أخرجه عبد الله بن المبارك في مسنده (233)، وفي الزهد (2/23)، ومن طريقه أخرجه ابن بطة في الإبانة (67)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2348).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.