بقلم الطالب الباحث مصطفى العادل / الموضوع يتدرج في سلسلة ابخاث في لغة الجسد ابتسم ذات مرة ونحن نتحدث كعادتنا على الحب واوجاعه، صديقي سعيد يحاول دائما أن يخفي ما بداخله حينما يواجهني، وحينما يكون حوارنا على الموضوع بالذات، لكن الذي ينبغي علينا معرفته، هو أن الانسان عندما ينكسر قلبه، لا يستطيع مهما فعل، أن يخفي على الآخرين آثار ذلك الانكسار، ومن الصعب أن يخدعهم مهما ابتسم. فعندما يكون حوارنا على انسان أو شيء ما، كان سببا في آلامنا وأحزاننا، فإن إيماءات وجوهنا، ولغة عيوننا تعترف بالحقيقة، لذلك قالوا عن لغة الجسد، بأنها لغة لا تعرف الكذب، فقد نحاول ان نتصنع الابتسامة خوفا أو خجلا، لكن أجسادنا بحركاتها المختلفة كثيرا ما تفشي الأسرار التي نود إخفاءها، مما يحدث فينا صراعا ثنائيا بين ما نقوله وما تقوله أجسادنا، وهو الصراع الذي يلاحظه الآخر بكل يسر وسهولة، والصورة الكاملة الواضحة التي يستطيع الآخر قراءتها لمعرفة تصورنا وموقفنا إزاء ما يثار أمامنا من المواضيع. لقد تناولت علم لغة الجسد في بحث الإجازة الجامعية، ومكنني ذلك التكوين ولو بنسبة قليلة من قراءة الحركات الجسدية المصاحبة للكلام، وكيف تستطيع هذه الحركات فضح ما نحاول إخفاءه من أسرار عند حديثنا مع الآخرين، ولأننا في عالم العواطف كثيرا ما نحاول التحفظ عن التعبير الصريح عما يختلج نفوسنا، فقد كان مجالا خصبا للغوص أكثر في علم لغة الجسد، بل هو المجال المناسب في نظري، بعد الخطاب السياسي لإجراء البحوث الميدانية والتطبيقية لهذا العلم الدقيق. ابتسامة سعيد تلك، كلفته ثمنا باهضا، وكانت بداية لتعرفي على قصة جديدة في عالم الحب، هذا العالم الذي يغير حياة الانسان راسا على عقب، ويكون فاصلا غريبا بين مرحلتين قليلا ما نجد بينهما تشابها، مرحلة أولى يعيش فيها الانسان نوعا من الهدوء والراحة، ومرحلة ثانية تنقلب فيها طفولته إلى هموم وآلام، وكأنه ليس ذلك الطفل البريء، الذي لا يعرف شيئا عن ذلك العالم البئيس، وهو الأمر الذي دفع بعضهم للقول، بأن الانسانية ما تزال حائرة -رغم التطور المبهر- بين لغزين، هما الموت والحب. سعيد عندما سمع مني ولأول مرة كلمة الحب، تحركت عينيه إلى الأسفل، وضم شفتيه بشكل محكم، وكأنه يقول لها: - انغلقي جيدا، لا تتكلمين ولو بكلمة في الحب، إياك أن تفشين أسراري. إن هذه الايماءات بوحدها، كافية لاستنتاج علاقة سعيد بالحب، وأنه عاش الحب وتجرع سمه ووجعه، كافية بأن نؤلف رواية على السيد سعيد في عالم العواطف دون أن يتكلم، فحركة العين المتجهة إلى الأسفل، تعطي إشارة إلى جانب الذاكرة لاستعادة ذكريات من الزمن الماضي، وضم الشفتين، أمر إلى اللسان ليحتفظ بالأسرار وتجنب إفشائها، وانكماش الجبهة وتغير اللون، وتحرك القدمين واليدين، وتغير في نبرة الصوت وغيرها، إشارات دقيقة وبالغة في نفس الوقت، تمكننا من الاستغناء عن كثير من الكلمات في سيرنا نحو معرفة الحقائق. حاول سعيد أن يخدعني في البداية، ويخرج نفسه من -الباب الواسع- كما نقول بالعامية المغربية، ويشعرني بأن الحب لا يعني له شيئا، ولم يعرف له بعد معنى، وكثير منا عندما يكون أمام هذا التحدي، غالبا ما يتهرب من الحب، بل يحاول في اغلب الأحيان أن يتقمص شخص الواعظ المميز بين أنواع الحب، وما النوع الذي ينبغي للإنسان المؤمن أن يملأ به قلبه، فتسمعه كلما سمع الحب يرد قائلا: - إن الحب الحقيقي هو حب الله ورسوله وحب الوالدين. والحق أن هذا الخلط، هو الذي دفعني في بداية كتابتي إلى التمييز بين أنواع من الحب، والدعوة إلى التمييز بين هذه الأنواع عند الحديث عنها والكتابة عنها، فلا ينبغي أن يمنع حضور أحد أنواعها من حضور أو ثبات الآخر في القلب، بل رفضت هذا الجواب، وما زلت أرفضه، لأنه لن يكون حلا ونحن نسعى لتأسيس تيار يناقش قضية الحب، كقضية مؤثرة بشكل كبير في حياة الشباب، ولن يكون يوما جوابا مستساغا ومقبولا في مستعجلات النسيان، وما تستقبله في الآونة الأخيرة، من حالات خطيرة وإصابات حادة، بفعل تطور الوسائل الالكترونية الحديثة، المساهمة بشكل كبير في تطور العلاقات العاطفية، وما تخلفه من آلام وأوجاع في صفوف الشباب. والإشكال الأكثر تعقيدا في قضية الإجابة والتجاوب مع الحب، نابعة من ضعف هذا الجواب امام جواب الجسد، الذي يقول عكس ما تقوله الكلمات، وفي نفس اللحظة التي نتلقى فيها هذا الجواب، ومن الشخص نفسه ومن الطبيعي جدا أن تدرك بأن جواب سعيد ومن يذهب إلى أن الحب هو الحب في الله لا غير، جواب ضعيف لا يتجاوز حد الحنجرة، فأنا شخصيا أؤمن بشكل مطلق أن الحب الحقيقي والمثالي هو حب الله وحب رسول الله والحب في الله ولله، ومع ذلك لا يمكنني أن أتجاوز بكل هدوء، الحب بمعناه المتداول في أوساط الشباب في العصر الحالي، وأثره في تغيير حياتهم. ومن جهة أخرى لا يمكنني الايمان بهذا الكلام وتصديقه، في تجاهل ثام لما صاحبه من حركات وإيماءات جسدية، بل الأحرى أن نعتمد تلك الحركات سبيلا إلى طرح التساؤلات الواقعية في الموضوع، وأكاد أجزم أن مثل هذه الأجوبة، لا يقدمها إلا من تجرع وجع الحب، ولهت كثيرا وراء مستعجلات النسيان، ليصل بعد ذلك إلى هذه الخلاصة الدقيقة، يعتمدها ويقدمها جوابا على الحب، والحق أنها برهان على معرفته الحقيقة بالحب واوجاعه، وكأن سعيد يريد أن يقول بصيغة أخرى: - لقد عشت الحب كله، فلم ينفعني إلا حب الله ورسوله والحب في الله. ولأن أجسادنا تعبر بدقة على الحب وما يخالج نفوسنا، فإنها أكثر وسيلة لمعرفة الحب وقراءته في تصرفات الآخرين، ووسيلة للوصول إلى الأسرار التي يحاولون إخفائها عنا، فلا يمكننا بعد ذلك معرفة وفهم الجواب الذي قدمه سعيد على الحب، إلا من خلال حركات جسده، التي فتحت الباب بعد ذلك على مصراعيه، وكسرت كل القيود إلى الرضوخ للواقع وتحرير اللسان، الذي عبر في آخر المطاف وبكل تفصيل عن قصص أوجاعه وآلامه التي لا تنتهي.